عبد الرحمن حلاق، كاتب سوري متميز، هذه اول رواية أقرأها له. والرواية قلاع ضامرة تؤرخ لمرحلة مهمة في تاريخ سورية، إنها مرحلة ثمانينيات القرن الماضي، الشباب الجامعي المسيّس، النظام الاستبدادي ودوره القمعي والعنفي مع معارضيه، الإخوان المسلمين والقوى الوطنية السورية، والشعب السوري الضحية، مرحلة كان لا بد من تسليط الضوء عليها.
تبدأ الرواية من انتقال “جمال” الشخصية المحورية في الرواية من حلب إلى إحدى قرى عفرين النائية، القرية قريبة من الحدود التركية، سكان القرية من الأكراد السوريين، أغلبهم يعمل بالزراعة، لكن النهر الذي يمر من قريتهم عبر آلاف السنين قد جفّ، جمال طالب جامعي من حلب أوقف دراسته لوقت محدد وجاء إلى القرية مدرسا للّغة العربية، سرعان ما ينخرط في أجواء القرية وظروف حياة أهلها، اغلبهم يحاول العمل في التهريب، أو يقضي وقته في المقهى يلعب القمار، انقطاع النهر وعدم الزراعة قلل الرزق عندهم وجعل حياتهم سيئة، أدرك جمال معاناة هؤلاء الناس، كلهم أكراد، اللغة العربية فرضت عليهم من الدولة، يحلمون بدولة خاصة بهم، يفكرون كيف توزعتهم الدول فيما بينهم بعد سقوط الخلافة العثمانية. يتغلغل جمال في حياة القرية عبر أبنائها طلّابه، يعلم قصة “ملكة” طالبته الجميلة ووالدها المتوفى وامها التي تمتهن الدعارة حتى تعيش وابنتها، مختار القرية وشيخها وهيمنتهم على عقول ومقدرات الناس، حاول جمال ان يؤثر في عقول طلّابه ليبنوا أنفسهم لحياة عمادها العلم، أهل القرية والمختار وشيخها يتذمرون منه، يخبرونه أن يكف عن تدخلاته في القرية وعقول أبنائها، جمال ككل الشباب يشغله عالم المرأة الأنثى كحبيبة وحاجة جنسية، كانت ملكة أول من تحرك عواطفه اتجاهها وهي ايضا، لكن حذره وادراك موقعه جعله يتريث، لكن ملكة تفرض نفسها عليه ويتبادلان العواطف والقبل. الوقت مر بسرعة وغادر جمال عائدا إلى حلب ترك ملكة خلفه وفكر هل يستطيع نسيانها؟، هل يجد حبا بديلا عن حبها؟. جمال ابن حلب له في الجامعة حيث يدرس مجموعة من الأصحاب، بعضهم شباب وبعضهم صبايا، عاد اليهم ليجد أن الشلّة قد كبرت وتواجد فيها بعض الصبايا الجدد، جمال يبحث بينهّن لعله يعثر على حبّه وسطهم. المجموعة متنوعة من خلفيات مجتمعية وسياسية متنوعة، أغلبهم له انتماء سياسي يساري، شيوعي وناصري، السياسة المعارضة في سورية ممنوعة، لذلك كانت احزابها سريّة، وبعضها تعرض ويتعرض للملاحقة والقمع والاعتقال، ضمنا نفهم أن النظام المستبد قد أنهى معركته مع جماعة الإخوان المسلمين وصفّاها تقريبا، قتل واعتقال وهروب، وكذلك الأحزاب اليسارية الماركسية والناصرية، جمال كان ناصريا، رفض منذ صغره ان يكون في الشبيبة أو حزب البعث، الذي كان المعبر للمستقبل، خوفا من السلطة وطلبا للواسطة والمصلحة، بعض اصدقائه في الشلّة مطلوب للأمن بسبب التحقيقات والوشايات والاختراقات الأمنية، اعتقل من اعتقل والباقي متواري، صديقه خالد اعتقل أغلب رفاقه في حزبه الماركسي، وهو ينتظر دوره، أخذه جمال إلى قرية طالبته ملكة ليتوارى هناك، إلى أن يكف الأمن من البحث عنه، الشلّة متنوعة، فيها بعض المخبرين الذين يعملون لصالح الأمن ويقدمون لهم التقارير، منهم جوليا التي تربّت عند أمها بأن لكل شيء ثمن وأنه قابل للبيع، بما فيه جسدها الذي تظهر ملابسها منه أكثر مما تخفي، الكل يفكر بنصفه الآخر أنثى أو ذكر، البعض يفكر بطريقة استغلال العلاقة الطالبية، ليحقق منافع خاصة، او يشبع حاجته الجنسية، لا مشكلة ان تغطى بالكذب أو بالادّعاء التحرري، او بالمبادئ الكبيرة، الشباب والصبايا ضحايا ادّعاءات كبيرة من عقائد متصورة وغير ممكنة، وواقع اصطياد متبادل لبعضهم البعض، الكل ضحايا الكل، وسط هذا الخليط من الأهواء والعقائد والغرائز، تتواجد بعض المشاعر الصادقة باحثة عن حب يصنع مستقبلا أفضل مع شريك، على الأقل هذا ما فكر به جمال واسينة. ستستمر دوامة الحياة، أجواء الجامعة توحي بواقع استبداد سلطوي طاغي، الطلاب خائفون من أي عنف قد يعود، كما حصل بين السلطة والإخوان المسلمين، او حصول أي اعتقال جديد لأحدهم قد يموت في المعتقل أو يغيب لسنين طويلة، انهم قريبين العهد بما حصل في حماة وحلب وغيرها من المدن، وبما حصل مع أغلب من عمل بالسياسة من المعارضة الوطنية، الكثير اعتقل والباقي ينتظر كل الاحتمالات واردة. جمال يعود مع ملكة إلى القرية مجددا ليعيد خالد إلى حلب، حيث أصبح وجوده هناك عبئا على ملكة وامها وعلى خالد نفسه، يعود خالد الفنان الذي سيعرف ويغني في أمسية الاحتفال بالتخرج من الجامعة، ليأخذه الأمن من الحفل ويعتقله لسنوات طويلة. تستمر الحياة ملكة تحلم أن يعود جمال لها ينقذها من القرية وحياتها فيها، لكنه لا يعود ، تحمي نفسها من المختار وشيخ القرية عبر صور داعرة لهم مع والدتها، لكن ابن المختار كبر والتحق بالمخابرات وتوعدها انه سيغتصبها يوما، وهي خافت وحاولت حماية نفسها، أوكل جمال امر حمايتها لزميلها آزاد الذي يحبها، سيحاول ابن المختار أن يغتصبها، قتلها و امها لكن آزاد سيقتله. يعود جمال الى القرية بعد الجريمة التي يموت بها ابن المختار وملكة وامها و تقيّد الجريمة ضد مجهول. يغادر جمال لحلب واحساسه بالتقصير مع ملكة وامها يأكل نفسه ويشعر بالندم. ستستمر حياة الطلبة في الجامعة على حالها سيتخرج الطلبة، بعد معرفة أغلبهم لحقيقة بعضهم البعض، تتوطد علاقة جمال واسينة وتتكلل بحب. يأخذنا جمال في السرد عن حياته إلى حلب وتاريخها وتغيرات النظم عليها ودوام حالها واستمرارها اقوى من كل من مرّ عليها من حكام، سنطل على واقع الاستبداد والقمع وبطش النظام على كل الناس في بلاد أصبحت مسكونة بالخوف والمظلومية والتواري وانتظار الاسوأ دوما.
تنتهي الرواية عندما يذهب جمال واسينة للقلعة ويؤكدا حبهما لبعضهما، يغادرون القلعة وفي نفسهمها آمال بحياة أفضل من أيام سيئة عاشها و يعيشها الشعب السوري في ذلك الوقت.
في تحليل الرواية نقول:
إننا أمام رواية شاعريّة بامتياز، لغتها أقرب للشعر حيث تتحدث، يجلس على منصة السرد أغلب شخوص الرواية، متحدثين عن حالهم، يكملون حبك الحكاية وإنجاز الرواية. كتبت الرواية في داخل سورية م٢٠٠٦ ونشرت فيها ايضا، هذا يعني انها كتبت والكاتب قابع في فم الأسد، ليس تورية بل فعلا، في ذلك الوقت كانت تعيش سورية انتكاسة ربيع دمشق الذي وعد به الأسد الابن الشعب السوري وقواه الوطنية الديمقراطية بأن هناك هامش من الحرية، لكن النظام تراجع عن ذلك ونكّل بالمعارضة زوج بأغلب رموزها بالسجن لسنوات. كتبت الرواية في ذات الوقت، بعض متنها حذفته الرقابة قبل الطباعة، لذلك نتفهم عدم الخوض عميقا بالبنية الطائفية العسكرية الأمنية للنظام السوري. نكتب الان ونحن تحت تأثير مضي ثماني سنوات على ثورة الشعب السوري على النظام الاستبدادي القاتل في سورية، النظام الذي قتل الربيع السوري الذي أزهر في ٢٠١١م وتحول لمقتلة وتشريد للشعب السوري، وتدمير لسورية البلد والحضارة، فقط ليستمر الاستبداد التابع لأعداء الشعب والأمة من كل بقاع الدنيا.
الرواية شهادة حق في زمان صعب، تتراكم مع غيرها من الشهادات، لتكون وثائق لمعرفة الحق والحقائق من تاريخنا، ومقدمة للقادم من الأيام ، حتما ؛ حيث ينتصر الشعب السوري لحقوقه: بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الافضل. ولو بعد حين.