ميشيل كيلو معارض سوري بارز، منذ عقود، له حضور في الحراك السياسي للثورة السورية، هذا أول عمل أدبي نقرؤه له.
دير الجسور؛ قصة طويلة كتبها ميشيل كيلو بين ١٩٨٨م إلى ١٩٩٠م.
تبدأ الرواية من تقرير يكتبه مندوب أمني “مخبر” الى مسؤوليه في المخابرات العسكرية، عن حديث تبادله اثنين من الركاب كانوا أمامه في الحافلة التي كانت تقلهم من مدينة الى اخرى، والتقط من الحديث عن لقاءات واهتمامات بين الاثنين فهم منها أن هناك ما يخططون له مع آخرين ضد أمن الدولة، سرعان ما استطاع أن يعرف كنية احدهم “عرباوي- عربي”، كتب تقريرا للأمن. يصل التقرير لفرع المخابرات، يتم التداول حوله على أعلى المستويات، ويقررون متابعة الحالة العرباوية في مهدها قبل أن تتفاقم، ويبدأوا في حملة اعتقال لكل من يحمل كنية عرباوي، او ينتمي الى بلدته “دير الجسور” وبالفعل يعتقل بالمئات وتبدأ حملة تحقيق طويلة، مع الكل ولكن لا تسفر عن أي اعترافات الكل صمت و صمد ولم يتكلم، رغم انهم عذبوا بشدة، وبعضهم توفي تحت التعذيب. لذلك قررت قيادة فرع المخابرات إرسال ضابط الأمن العقيد عاصي الخالد للذهاب الى بلدة دير الجسور والتحقق منها ومن واقع سكانها، هذه البلدة التي أنجبت هؤلاء المتآمرين على أمن الوطن. يذهب العقيد الى تلك البلدة الواقعة على الحدود مع بلد معادي (العراق في ذلك التاريخ)، في عمق الصحراء، بيوت من الصفيح، خاوية، تسكنها الأشباح، وصل الى هناك حيث فرع المخابرات ليستعين به، لأن الامن يتواجد في كل بلدة من سورية وهو حاضر في كل شيء. يعيش العقيد عاصي الخالد حوارا داخليا نفسيا، طال حياته ومهنته كضابط أمن ودوره على كل المستويات، كانت رحلته الى دير الجسور رحلة في نفسه وماضيه وفي أحوال البلد (سورية). عاصي الخالد ينحدر من مزار الدب، المنحدرة من مزار الوحش، التي هجرها أهلها، من الاضطهاد العثماني منذ مئات السنين، مزار الدب وحضور شيخها هادي الابرص في حياة شبابها، ودوره في تهيئتهم الفكرية والدينية والمعنوية، ليكونوا نواة عسكرية تنتقل الى العاصمة وتستولي على الحكم عن طريق تغلغلها في الجيش. يؤمن العقيد أن عصب الدولة وعمادها هو الجيش، لذلك كان هو وآخرين من مزار الدب متكتلين في جيش سرعان ما أصبحوا هم المتحكمين فيه، والمستثمرين له لمصلحتهم كسلطة وفئة. كان العقيد ضابطا في الجيش، وكان يعرف أن عصب الجيش هو الأمن، كان يحلم أن يصبح ضابطا في الامن، يحصل على القوة والعزوة والسيطرة والنفوذ والمال وكل ما يحلم، نقل الى الامن بواسطة من شيخ المزار هادي، وأصبح ضابطا كبيرا في الأمن. حصل على كل ما يحلم به من مكتسبات، لكنه خسر الكثير ايضا. خسر تواصله العائلي، تفتقده زوجته وأولاده، محكوم عليه بالكتمان والسرية، الانضباط وتنفيذ الاوامر دوما، امن النظام او الدولة كما يسمونها في الفرع عندهم فوق كل اعتبار، يطاردون كل مخالف ومعارض، يحققون مع أي مشتبه، لا يمنعهم من الحصول على المعلومات أي مانع، يستعملون كل وسائل التعذيب، المعتقل مهم كمصدر للمعلومات فقط، حياته غير مهمة، قد يموت تحت التعذيب، هناك الكثير من التهم الجاهزة او المبررات التي تجعل موت او اعتقال او تشويه اي احد، اعتباره من مستلزمات أمن الوطن. لم تكن حياة العقيد هانئة دائما، فقد يصاب بتأنيب (بقايا ضمير)، رغم أنه مع غيره من ضباط الجيش والأمن قد استثمروا امتيازهم، بالحصول على الثروة والعقار، فكل ضابط عاد الى بلدته، واستحوذ على كثير من الأملاك العامة لدواعي المصلحة الوطنية، يكفي أن يمد سلكا شائكا مع عدة عناصر عسكرية مع اشارة ممنوع الاقتراب، لتبدأ المنطقة للتحول الى مزرعة او استراحة للضابط المسؤول، وزاد طمع الضباط بما ورثهم اهلهم من أراضي، فالزموا اخوتهم وورثتهم على بيعهم أراضيهم الموروثة لهم، بقوة الاجبار والبطش والأمن. لن ينسى العقيد مصير ابن أخيه الذي عارض بيع الأرض التي ورثها عن أبيه للعم الضابط، فلفّق له تهمة المعارضة السياسية حتى ينصاع له، وأوصى الضابط الذي حقق معه بأن تكون تربية له ليس أكثر، لكن التحقيق توسع ومات الشاب تحت التعذيب. تألم الضابط وراجع المحقق ورؤساءه، وفهم العقيد أن مصلحة الوطن (النظام) فوق كل اعتبار بما فيهم العقيد نفسه، فهم مجددا ان النظام وأمنه ومصلحته فوق كل اعتبار، وان اي ضابط عسكري او امني يخرج عن المرسوم له، سيكون أول ضحايا النظام، ويقع تحت اسوأ اساليب التعذيب والاعتقال ومصادرة المكتسبات والقتل أحيانا، كان العقيد يدرك ذلك، ويخاف أن يقع بالخطأ أمام ماكينة النظام وتفرمه. كان يعيش كل ذلك في رحلته الى دير الجسور وبحثه عن العرباويين المتمردين على الدولة وأمنها، لكنه يتفاجأ أن دير الجسور ليست بلدة بمقدار ما هي محطة يسكنها بعض الناس الذين يستخدمون في غرض نقل المهربات الى الدولة المعادية (العراق). استغرب ذلك، كيف يُعلن عنها دولة معادية؟.ثم يتم شحن لها المواد الغذائية وكثير مما تحتاج، اكتشف أن هناك شبكة كبيرة من رجالات الدولة والنافذين بالنظام متورطين بذلك، وعندما فكر أن يحقق في ذلك، أخبره رئيس فرع الأمن هناك، بأن ذلك خطا أحمر، والاقتراب منه قد يؤدي لأن يخسر به نفسه. علم ايضا ان هناك مسؤولين يزرعون آلاف الدونمات من أراضي البادية المتروكة لرعي الماشية للحفاظ على الثروة الحيوانية السورية، وأن ذلك مجرّم بالقانون، طلب منه مجددا أن يصمت على ما يرى حفاظا على موقعه وحياته. ذهب كثيرا الى دير الجسور من موقعه في فرع الأمن المطل عليها، وفي كل مرة وجدها شاغرة تلعب فيها الاشباح مع الغبار والشمس المحرقة. لم يكن أمامه حل الا ان يعتقل والدة العرباوي ليحقق معها عن ابنها، يسألها أين هو ؟، وما يخطط مع غيره ضد امن الدولة ؟، هاجم بيتها مع دورية امنية حسب الاصول لاعتقالها، كانت قد تجاوزت الثمانين من العمر، ضعيفة البدن، كفيفة البصر، أودعها إحدى الزنازين، ومن ثم حقق معها، لم تجبه عن اسئلته، عذبها حتى فارقت الحياة. علم من بعض سكان الجسر أن عرباوي الذي يبحث عنه ميت منذ زمن بعيد، بل يعتبر شهيدا قاتل في معركة الكرامة قبل عقود ضد الاعداء، وان له قبر في الجسر. ذهب للاطلاع على القبر فوجد انه يحوي جثة ابن أخيه الآخر الذي اتهم بالمعارضة وقتل ودفن بدلا عن عرباوي هناك. بدأ الضابط يصاب بنوبات تأنيب ضمير شديدة، علم أن ابن اخيه الثالث معتقل، وقد كلف بالتحقيق معه لكي يتأكدوا من ولائه. حاول ان يحصل على المعلومات من ابن أخيه، لكن الشاب رفض وتحدى عمه واتهمه والسلطة بأنهم يعملون لمصلحتهم ضد مصلحة أهل البلد سورية، وأنه يعتز بمعارضته للنظام. اسقط بيده ولم يعرف كيف يتصرف. خاف ان ينهزم امام ابن أخيه، وخاف ان يكون ضحية الامن نفسه إن لم يخدم مسؤوليه والسلطة بكل تفاني، فكر كثيرا ان ينتحر وينتهي من عذاباته وهلوسته وما يعانيه، لقد تبين له الكثير مما لم يعد يستطع أن يحتمله. نعم هو ضابط كبير في الأمن ويحقق مصالحه، لكن دربه معبد بعذابات الآخرين وحياتهم السيئة بكثير من الاحيان، تحقيق مصلحة النظام ورأسه، تعني سحق مجموع الناس ومصالحهم. عاد بذهنه إلى الفرع الأمني الذي عمل به وأدرك أنه كان في واحد من المواقع التي تحمي النظام الظالم، والمسؤولين بالمباشر عن كل عذابات الناس ومآسي حياتهم. عاش صراعا نفسيا مريرا واصبح اعجز من ان يعرف ماذا عليه ان يعمل. كتب تقريره الأمني أكثر من مرة ومزقه. كان العقيد مراقب من ضابط الأمن المسؤول عن بلدة الجسر ويوافي المسؤولين تباعا عن احوال العقيد ومتغيراته، استدعته الى العاصمة بصفته معتقلا يجب ان يحقق معه ويحاسب، لقد تراخى في تنفيذ مهمته. أُخذ مكبلا ومطمشا إلى فرعه الأمني الذي كان ضابطا به، ليكون نزيلا به، يعذب ويحاسب وقد يموت فداء للامن والوطن والنظام الحاكم.
هنا تنتهي الرواية.
في تحليلها نقول: اننا امام رواية مكثفة جدا، لا تتجاوز المئة وخمسين صفحة، لكنها تكاد تختصر في تركيزها حكاية سورية الدولة الاستبدادية القمعية وآلية عملها في الهيمنة على سورية شعبا وارضا. السلطة الحاكمة، منبتها الطائفي مزار الدب ومزار الوحش عائلة حافظ الاسد اصلها الوحش، رغم أنها لم تكن يوما مخلصة لطائفتها بمقدار ما استخدمتها في معاركها وفي جيشها وأمنها، والأصل الحفاظ على السلطة ورمزها الذي يأخذ صفة القدسية والتأليه، وهي لا ترحم الشعب ولا المعارضين حتى لو كانوا من الطائفة. الرواية تخوض عميقا في بنية الاجهزة الامنية والجيش قبلها ووظيفتها الوجودية للحفاظ على النظام ورأسه، وأن اي منصب لأي ضابط جيش أو امن مصان يحمل كثير من المكتسبات بمقدار ما يخدم هذا الضابط النظام ومصلحته. وإن اي انحراف سيؤدي بهذا الضابط ليكون ضحية النظام وينكل به، في الرواية يغيب العرباويين بصفتهم الشعب الضحية، حاضرون فقط بصفتهم ضحايا عند النظام، يعملون ينتجون يعيشون الفقر والقهر، ضحايا الاستبداد، يوضعون تحت سكين النظام كل الوقت لمنع اي امكانية للثورة عليه أو مواجهته. العرباويين بصفتهم الشعب هم المنتج والضحية وموضوع القهر والسلطة وحضورها الدائم. في الرواية قد يوجد من ابناء النظام وضباطه من يعيد حساباته بصفة فردية، لكن السياق العام يؤكد على ظهور طبقة تبدأ من رأس النظام وتنتهي بآخر مخبر له، يعملون لمصالحهم على حساب الشعب واستغلاله واستعباده واستثمار خيراته، وتركه ضحية الخوف والجوع والقهر والتخلف. لذلك كان طبيعيا أن تنجب سورية عبر عقود الكثير من المعارضين الذين ضحوا بحياتهم موتا أو اعتقالا لفترات طويلة، أو تنكيلا عائليا و مجتمعيا، ومع ذلك استمروا يواجهون النظام الظالم جيلا بعد جيل. وكان ختامها ثورة الشعب السوري وربيعه عام ٢٠١١م مطالبا بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل، في مواجهة الاستبداد و لإسقاط النظام، بغض النظر عن مآل هذه الثورة بعد مضي ثماني سنوات عليها. لأن ذلك يعود للتدخلات الدولية والاقليمية والحديث يطول عن السياسة وتوازن القوى والمصالح المتصارعة في سورية.
الرواية ترينا وجها آخر لحضور ميشيل كيلو في الحقل السياسي العام السوري، من جانبه الأدبي هذه المرة. لقد كان مشرقا كما هو دوما.