قراءة في رواية: جورة حوّا

أحمد العربي

منهل السراج: روائية سورية متميزة جدا، هذه روايتها الثانية التي نقرأها لها، بعد رواية كما ينبغي لنهر، من مدينة حماة، حماة التي تنطبع في رواياتها بكل عمق وحب وشغف.

جورة حوّا: تأخذ الرواية تسميتها من هذا الاسم لأحد أحياء مدينة حماة، الحي المطل على نهر العاصي ونواعير حماة.

كتبت الرواية في تاريخ ٢٠٠٣م، متابعة سيرة حياة مجموعة من النساء والرجال يعملن في بيت الفن في المدينة، يرسموا و يتواصلوا و يتفاعلوا فيما بينهم، يعيشوا حياتهم، يبيعوا بعض رسوماتهم للسيّاح الذين يمرون على المدينة.

نستطيع القول أن الرواية نسويّة بجدارة، الشخصيات المركزية فيها نساء، تتابع الرواية حياتهم بدقّة، على المستوى النفسي والاجتماعي والحياتي عموما، وإن كان للرجال حضور فيها، فلأنهم حاضرين اصلا في حياة النساء كما هي الحياة. كما أن الرواية تغوص عميقا في حياة ابطالها، بحيث نجد أننا مطّلعين على واقع حياة الكل وفي أدق التفاصيل. نلتقط الإشارات والإيماءات، نغوص عميقا في ذات المرأة بصفتها امرأة، وفي الذات الخاصة لكل امرأة في الرواية، لأن لكل ذات خصوصيتها وفرادتها.

تتحرك الرواية على شكل فصول تسلط الضوء على احدى الشخصيات، عمقها النفسي والاجتماعي والسلوكي، وكذلك بقية الفصول. ولأنها تعود وتدور على شخصياتها الاساسية عبر فصولها المتعاقبة، سنعتمد بالقراءة على التحدث عن كل شخصية على حدى، وتطور حالتها، مع اظهار الترابط بينها وبين الآخرين. الى ان تكتمل قراءة الرواية باستكمال الحديث عن كل الشخصيات.

٠ مي…

اصغر اخواتها الفتاة التي درست الفنون الجميلة، وبدأت رحلة الفن من خلال المشاركة في بيت الفن في حماة مع آخرين وأخريات. أخواتها اللواتي يكبرونها متزوجات. اما اخاها الوحيد، فقد هاجر خارج سورية منذ زمن بعيد، لقد جاءه طلب من جماعته السياسية ؟!. أن يخرج وبسرعة الى امريكا او السعودية، لأنه قد يعتقل بأي وقت، كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي. وبالفعل خرج وقتها، وصنع لنفسه عملا ناجحا، واستقر بالسعودية وتزوج، وأصبح ثريا وإمكانياته المادية جيدة، لذلك كان يدعم اهله بالمال، وهذا انعكس على اخته مي ايضا، التي لم تكن تشكوا من فقر او حاجة. مي مسكونة بعلاقة وجدانية خاصة مع الالوان، فهي تشعر بها، تعطيها حياة وانطباعات، وتجعلها رمزا للحياة بتعقيداتها، مي تعيش حياتها بحرية زائدة، تظهر متحررة في حماة وفي حيّها جورة حوّا، أكثر مما يحتمل الحي الأقرب للتدين. مي جميلة بعينيها الخضراوين، وقامتها الممشوقة، تترك نفسها على سجيتها مع كل من يحيطها، جعلت الكثير من الشباب يتعلق بها، لكنها لم تقدم نفسها لأحد، دائما لديها حدودا لا تتجاوزها، لكن ذلك لا يمنع سمعة ظهرت عنها أنها فتاة لعوب وسلوكها ليس مضبوطا كما يجب بفتاة حموية، كانت تتردد على بيت الفن، ترسم وتشطب ما ترسم. الألوان عصية على أن تتروض بين يديها، ملولة، سرعان ما تترك الرسم والمرسم وتغادر متجولة في الازقة والاحياء، تعود لاحقا الى البيت وبعدها للمرسم، وتتالى عليها الأيام، وهي غير راضية عن نفسها وانجازها، هناك شيء ما ضائع منها لا تعرفه، ولم تجده للآن. لكن كسوفا حصل جعل الناس يخافون من إشعاعه، أما هي فلم تهتم، ذهبت إلى مرسمها، تفاعلت نفسها مع غياب الشمس واحتجابها بالقمر، توحدت مع الحالة، حلقت نفسيا، رسمت لوحتها، وحيدة كانت، تعرت من بعض ملابسها، رقصت على إيقاع نفس تتوق لخلق جديد،  تجسّد بلوحتها، وبحضور شمس تولد من جديد بعد كسوف دام بعض الوقت. لكن فرحة مي لم تكتمل، حضر من شاهدها ترقص امام اللوحة وهي ولهانة شبه عارية، صنع منها حكاية، وبدأت حملة تشويه وتشهير بمي، واخلاقها المعطوبة واستهتارها، صحت مي على فضيحة. اصاب الاب والام كرب وألم نفسي، احتجبا عنها وعن الناس، اما مي فقد امتنعت عن الظهور في الحي. وصل الخبر الى أخاها في السعودية، فما كان منه إلا أن استقدمها بطلب زيارة اليه، وما ان وصلت حتى زوجها، من أحد الشباب السوريين الذين يعملون في شركته. ذلك الشاب السوري وجد بمي طاقة نجاة وخير عليه، فهو يعمل بكدّ و انتاجه قليل ويسكن مع عمال آخرين. أعطاه اخاها المال واجّر له بيتا، و زوّجه من اخته. كانت مي شبه غائبة عن وعي ما يحص معها، خرجت من فضيحة الرقص شبه عارية، لتجد نفسها زوجة لإنسان لا تعرف عنه شيئا وليس عندها أي مشاعر اتجاهه، مع ذلك تزوجت، كان الزوج ممتنا لها ولاخيها، يعاملها أفضل معاملة، بدأت تتفهم حاجات جسدها وجسده، وتعيش نموذج الزوجة التي تقوم بواجبها في بيت الزوجية، حاربت هواها للرسم و لمعانقة الالوان، و انخرطت بحياتها الروتينية الجديدة. لكن حياتها لم تستمر هكذا، حتى التقت بشاب في الحرم المكي حيث كانت تقوم  بشعائر العمرة، وهو كذلك، احست عندما رأته والتقت نظراتهما، بصعقة نفسية، وكأنها عاشت الحب من أول نظرة، كان الشاب جسورا اقترب منها، اخذ اسمها ورقمها، وبدأ يتواصل معها، وهي مفعمة بحب احسّت وكأنه أحياها من موت كانت تعيشه، أصبحت تلتقي به في الشوارع والمحلات بجوار الحرم، لكنهما لم يكتفيا بذلك اتفقا ان يلتقيا في شقته، حيث يسكن. عاشت احلاما وردية على امل لقاء حميمي جدا، كتبت اسمه على اوراق الورد، وشاهد زوجها ذلك وواجهها، اخبرته انه حبيبها و ستلقاه، بُهت الزوج و اخبر الاخ، الذي حضر وضربها واعادها الى حماة مجددا. مع قرار بمنع المصروف عنها. اذهبي الى حياتك لم اعد مسرولا عنك. كانت مي صادقة مع نفسها، فهي لم تحب زوجها رغم كونه كان معها جيدا ولم يسئ إليها. كانت فجيعتها بالشاب الذي أحبته، عندما اخبرته بما حصل معها، خطّأها وتنصل منها، وقال لها انه يبحث عن علاقة حرة ودون مسؤولية، وهو ان تدخل ودافع عنها فإنه سيسفّر من السعودية، لذلك تركها لمصيرها، ممتلئة خيبة منه وبه. عادت مي لحماة مطلقة، لقد ذهبت من حماة بفضيحة الرقص عارية أمام لوحتها، وعادت بفضيحة مطلقة لسوء أخلاقها، الاهل تواروا ولم يواجهونها. مي فكرت بنفسها وماذا يجب أن تعمل لتعيش، وجدت فرصة عمل ان تعمل موزعة لدعايات أدوية ومستحضرات طبية على الأطباء. مي تكتشف نفسها مجددا، وتقرر أن تعمل لتعيل نفسها ومن ثم ترسم لوحتها حيث تتجاوب الالوان معها، وتكون لوحتها الجديدة قد أعلنتها  مبدعة في هذه الحياة.

٠ كوثر وأمها آمنة.

كوثر هي صديقة مي الاقرب منذ مرحلة الدراسة الثانوية،  كذلك ديمة صديقتهم الثالثة. كوثر الفتاة المتدينة جدا الى درجة الهوس، هي ابنة لعائلة مؤلفة من أباها وأمها وأخواتها الثمانية، ذهب أبوها واخوتها في الأحداث ؟!!. التي تذكر عابرا على انها مرت في حماة، حيث تغيرت معالم المدينة، وهدمت بعض الأحياء وغاب الاهل والاولاد. لم يبقى في البيت غير الأم تحلم بعودة زوجها واولادها، وابنتها كوثر التي درست الفنون الجميلة والتي تعمل في المرسم مع مي، وتبيع بعض اللوحات وتحصل على بعض المال للعيش على الكفاف مع امها. امها التي تصنع بعض المشغولات من الاقمشة في البيت وتبيع بعض الحاجات المنزلية، تعرضهم في السوق كل يوم لتحصّل لقمتها وابنتها. تعيش كوثر هاجسا مرضيا؛ أن هناك لطخة سوداء تتواجد في وجهها بين حاجبيها. وان هذه اللطخة تكبر وتصغر، وتظهرها بشعة ومشوهة، هذا غير ان كوثر سمراء نحيلة وقصيرة، وتعتقد انها غير جميلة، تتردد على معلمة دين تعتبرها استاذتها، تسترشد بها في كل أمر. تخدمها وتساعدها على رعاية ابنها، تعلمها بعض شؤون دينها، تحاول أن تجد لها عريسا مناسبا، لكن الخطاب يحضرون ويغادرون ولا يعودون ابدا. لها عقدتها من طفولتها حيث اعتدى عليها ابن عمها جنسيا، وهي طفلة في الصف الأول، لا تذكر الكثير، جسدها يغالبها دوما، تشتاق ان تعيش جنسا سويا مع انسان آخر كزوج، وليس بأن تداعب نفسها وتمتع نفسها بنفسها، كانت سعيدة جدا عندما حصرها أحد الشبان في باص نقل ولامسها في شبه حركات جنسية، كانت سعيدة وممتنة له. عاشت محطمة بين إشباع رغبة جنسية، وبين حرام لا يقبل عنه الله، لم تجد لها منقذا من معاناتها لكونها مخطئة دوما، والمشاعر الجنسية تهاجمها دوما، وهي وصلت الى ما فوق سن الثلاثين، جاء من اقترح عليها ان تنتقل الى معلمة دين جديدة مختلفة، وبالفعل انتقلت الى معلمة دين صوفية، وجهتها الى التبتل والتهجد ومنع الطعام والشراب والاعتكاف، حتى تصل الى مرحلة الاتحاد مع الله وتستغني عندها عن المخلوقات كلها. حاولت ولم تستطع أن تستمر، كان شاب الباص يلاحق احلامها، والطعام وملذات الدنيا أيضا، هربت الى الحياة مجددا. كان خالد صديقهم الاخر في المرسم قد راقب مشكلتها، ووجهها الى كونها اضاعت نفسها عندما اخذت دينها من غيرها، اقترح عليها ان تتطلع على الدين الإسلامي بنفسها. وبالفعل قرأت و تبحرت في القرآن والحديث والسيرة، اكتشفت رحابة الإسلام والايمان وانها استعادت انسانيتها وبدأت اللطخة تزول اول باول،  وبدأت ترى في الحياة ومن حولها الكثير مما يشجع لعيش حياة سوية وصحيحة، عادت إلى مرسمها وشاركت وصنعت لنفسها ابداعها الخاص.

اما امها آمنة، فقد عاشت حياتها وهي تأمل أن يعود زوجها وابناؤها الثمانية، رغم أنه لم يعد أحد من تلك الأحداث التي مرت بهم، كانت تصنع بعض المشغولات وتبيعها مع غيرها لتؤمن لقمة عيشها وابنتها، كان خالد صديقهم الفنان المشارك في المشغل الفني، يحب آمنة ويلتقي بها دوما حيث تفرد بضاعتها في السوق، يعرض عليها حبه واستعداده للزواج منها. غير أن خالد نفسه متزوج ولديه بنتان، زوجته تكرهه، تراه رجلا لا يقدم لأسرته ما يجعلها تعيش بمستوى لائق، تراه مجرد مصدر دخل، لذلك كان حبه لآمنه تعويضا عن حب مفقود في بيته، وبديل مرغوب مع امرأة لا ترى في حياتها إلا حالة انتظار مفتوح لعودة زوج واولاد خطفتهم الأحداث، خالد يريدها وهي تريد أولادها وزوجها، تصده بالحسنى وهو لا ييأس من المحاولة. حتى جاء يوم مرضت به و سعلت آمنة كثيرا ومن ثم ماتت. تاركة لحبيبها خالد غصة ولابنتها يُتما زاد حياتها شقاء. استمر خالد في تحمل مسؤولية كوثر حيث ربطها فيهه و بناته ووعاها دينيا، وساعدها أن تكتشف نفسها ودينها وتستعيد ذاتها وتعيش انسانيتها بشكل سوي نسبيا.

٠ ديمة…

ثالثة الثلاثة مي وكوثر وديمة رفيقات الدراسة.  أكملت  دراسة ديمة في هندسة الديكور، لكنها لم تكن تحتاج ان تعمل بشهادتها، لقد خطبها حيان التاجر الكبير، وتزوجا، انتقلت الى حياة من الرفاه لم تكن تحلم به. انجبت طفلة، كان زوجها كثير الترحال يركض وراء أعماله التجارية، كانت تدعمه و تسايره، تحصل منه على المال والهدايا والمجوهرات الكثير، صنعت من نفسها سيدة أعمال كبيرة، خلقت شبكة علاقات مع نساء مثلها، يلتقين من اجل اظهار امتياز كل منهن،  سيارتها و مجوهراتها و ملابسها.. الخ. يعشنّ حياة بزخ بلا حدود، حياة تافهة مليئة بالتباهي والمنافسة والغيرة والحسد والتمظهر. كانت ديمة ممتلئة بحياتها وترى أنها حققت من الدنيا أقصى ما يمكن ان تعطيها. لكن زوجها و لنقص اهتمامها به، وقع في حبائل سكرتيرته التي دفعته للزواج منها، وتزوجها، وهذا ادى الى تحويل حياة ديمة إلى جحيم. انقطع زوجها عنها، وقطع مصروفها اضافة للمعاملة السيئة لها. مما دفعها لتعيد حساباتها مع نفسها، وتحدد اين اخطأت و ماذا عليها ان تعمل، عادت ديمة للتواصل مع صديقاتها مي وكوثر، وتكتشف ان لكل منهما حكاية أسوأ من حكايتها، وانهن لم ييأسن بل بدأن من جديد، وهي كذلك قررت ان تستثمر دراستها، وتبدأ في ممارسة هندسة الديكور، وبالفعل  أخذت عملا في شقة وباشرت بها.

أما خالد الرجل الوحيد الذي يتم التحدث عن حياته كشخصية مركزية في الرواية، فهو واحد من رسامي المشغل الفني، ويعيش جحيم زوجة متطلبة غير ودودة، يبحث عن حب مستحيل مع امرأة وهبت عمرها لذكرى زوجها وأولادها المفقودين، حتى توافيها المنية خطفا. يمد يد العون لكل من حوله، يقدم النصح حيث يكون ممكنا ومفيدا، ساعد مي وكوثر وديمة وشكل معهم ومع بناته عالما اقرب للانسجام انسانيا.

تنتهي الرواية  والكل مي وكوثر وديمه وخالد يعيدون حساباتهم بعد تجربة قاسية مرت على كل منهم، يبدؤوا من جديد رحلة حياة قد تكون أنجح هذه المرة،  لانهم محملين جميعا بخبرات تجاربهم الشخصية، وتجارب من يحيطهم، لعلهم يصنعون حياة افضل واجمل واكثر عطاء وانسانية.

في تحليل الرواية نقول:

اننا امام رواية متميزة جدا، لقد ابدعت الكاتبة في تقمص شخصيات روايتها، وتلبس مشاعرهم الذاتية والمنعكس الاجتماعي لكل منهم، لقد أظهرت عمومية مشكلة المرأة العربية والسورية، وفرادة كل ذات نسوية على حدى، كان الغوص عميقا تعبيرا عن دراية واطلاع وفهم واستيعاب، لذات المرأة بصفتها امرأة وانسان وابنة بيئة، وكذلك الرجال والوضع العام التي تتحرك به الشخصيات. خصوصية مدينة حماة، والأحداث التي مرت بها، نعم الرواية كتبت في سورية، وحديث التورية مهم، احداث مجازر حماة التي اخذت الابناء وهدمت البيوت والحارات، و اجبرت الناس على صمت مزمن يرتبط بالحفاظ على حياة من بقي على قيد الحياة.

لغة الرواية مريحة و ومتعة، قريبة للنفس، تجذب القارئ كل الوقت، اننا امام رواية نتمنى ان لا تنتهي، لانك طالما تتابع وتقرأ، فأنت تُشبع معرفيا ونفسيا وانسانيا، من معين لا ينضب.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى