مسؤوليتنا المشتركة: إعادة الاعتبار للمجتمع المدني والقواعد الشعبية

ريم منّاع

تتردّد منذ سنوات سردية تُحمِّل مؤسسات المجتمع المدني مسؤولية ما آلت إليه ساحات العمل العام في منطقتنا من ضعف وتراجع وتشتّت. اتُّهمت بأنها “فاشلة”، أو “أدوات خارجيّة”، أو “بديل ترفيهي” عن السياسة الحقيقية. وقد تبدو هذه السردية، للوهلة الأولى، مفهومة؛ فمع الوقت، انزلق عدد من مؤسسات المجتمع المدني نحو منطق “المشاريع” بدلاً من الرسالة والأثر غير المعدود، وتكيّف مع شروط التمويل الخارجي لضمان الاستمرارية والأثر، وتعامل مع التغيير بمنطق التعاقد: نشاطات، تقارير، استبيانات، وورشات أنتجت خبراء فوق الناس، لا قادة من الناس.

مع ذلك، اختزال هذه التجربة بسردية واحدة غير منطقي ومُجحف، لسببين: الأوّل أنّها تختزل مئات الحالات المتنوّعة لمؤسسات المجتمع المدني في قالب واحد، وهذا خطير. صحيحٌ أنّ بعض المؤسّسات أساءت للعمل المدني، أو أنّ نياتها كانت صادقة، لكنها لم تُترجم بطريقة فعّالة، إلّا أنّ كثيراً منها كان العمود الفقري لحماية الحقوق، وركيزة للتغيير الحقيقي، ومنبراً للمقاضاة واسترداد الحقوق، وخط الدفاع الأوّل في مواجهة محاولات إغلاق الفضاء العام، وإبقاء حدّ أدنى من حرّية التعبير مصاناً.

احتضنت هذه المؤسسات أجيالاً من الشباب، تحديداً جيل الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. شباب لم يرغبوا في الانتماء إلى أحزاب، ولا في الاكتفاء بورشات ودورات تنمية مهارات سوق العمل، فوجدوا في مساحات العمل المدني معنى للانتماء والفعل العام. ومن خلال هذه المساحات، لعبوا دوراً أساسيّاً في مقاومة أشكال متعدّدة من التسلّط والاضطهاد في مجتمعاتهم.

المجتمع المدني لا يقتصر على “مؤسّسات المجتمع المدني” والجمعيات، بل يشمل أيضاً الأحزاب، والنقابات، والعمل الطلابي، والأفراد المواطنين

لذلك، حين نركّز على تعميم فشل دور مؤسسات المجتمع المدني، أو لا ندافع عنها عند محاربتها وتحيّن فرص إغلاقها، فإننا نُسهم، حتى لو من دون قصد، في موت المساحة التي تسند شكلاً من الفاعلية المجتمعية، وتحمي عضلة العمل العام من الضمور. وبطبيعة الحال، لا يكفي ولا يرضينا، كشعوب حرّة تستحق العدالة والحرية، الدفاع عن مؤسّسات المجتمع المدني من دون أن تتحدّى هي نفسها، وتطوّر أدواتها وآليات عملها لتكون أقرب إلى القواعد المجتمعية. وتبقى مساءلة غير المجدي من هذا العمل واجباً علينا جميعاً.

والسبب الثاني أنّ المجتمع المدني لا يقتصر على “مؤسّسات المجتمع المدني” والجمعيات، بل يشمل أيضاً الأحزاب، والنقابات، والعمل الطلابي، والأفراد المواطنين. وحين يُحمَّل هذا القطاع وحده مسؤولية ما آلت إليه ساحة العمل المدني، ويُفرَّغ من دوره، فإن ذلك يتجاهل، في الحقيقة، سياسة مُحكَمة هدفت إلى تجفيف كل مصادر التنظيم الشعبي، بحيث يتحوّل المواطن إلى فرد معزول، لا جزءاً من جماعة قادرة على الضغط والتأثير.

ومن غير المعقول وضع كلّ حالة الفراغ القيادي التغييري في ساحة العمل المدني على ظهر مؤسسات المجتمع المدني العربية، بالصالح منها والطالح، فساحة الناشطيّة والتنظيم لم تُفرَّغ مصادفةً، بل بقصد سياسي مدروس. تحوّلت الأحزاب السياسية التي كانت تقود العمل الجماعي إلى كيانات رمزية، والنقابات التي شكّلت تاريخيّاً مصدر قوة للطبقات العاملة أُضعفت عمداً، وأُسقط عنها دورها النضالي العمالي، فيما أصبحت الجامعات، التي شكّلت يوماً فضاءً للنقاش والتنظيم، مساحات مُراقَبة أكثر من كونها مولِّدة للوعي السياسي. وفي النهاية، من دون الالتفات إلى هذه المسؤولية المشتركة للمجتمع المدني بكل مكوّناته في مواجهة سياسة التفريغ، لن تؤدّي هذه السردية إلّا إلى تعميق حالة العجز التي نعيشها كمواطنين.

الإشكال الحقيقي ليس في ضعف الناس أو محدودية قدراتهم، بل في التقليل من جدارتهم

لا يسعى هذا المقال إلى تلطيف النقد أو التخفيف من مسؤوليات مؤسّسات العمل المدني؛ بل ينطلق من ضرورة رؤية الصورة الكاملة للمسؤولية الجماعية، من دون الوقوع في فخّ لومٍ شامل أو تبرئة مطلقة. فالسؤال الحقيقي ليس: على من يقع اللوم؟ بل: ما الذي نخسره، يوماً بعد يوم، حين تتآكل عضلة التنظيم التي نشأت فطرياً في مجتمعاتنا؟ وكيف يمكن استعادتها باعتبارها مسؤولية مشتركة بين جميع أركان المجتمع المدني؟

في هذا السياق، تصبح إعادة الاعتبار للقواعد الشعبية مدخلاً أساسيّاً لأي نقاش جدّي. الناس الذين يُوصَفون غالباً بـ”العاديين” ليسوا جمهوراً يُستهدف ولا فئة تنتظر من ينقذها أو يمثّلها، بل أصحاب قضية وحق، وقادرون على تنظيم أنفسهم واتخاذ القرار جماعيّاً. أي خطاب يُعيد إنتاجهم “مستفيدين” من برامج أو كُتيبات تدريبية، بدل الاعتراف بهم أصحاب مشروع، هو خطاب يحتاج إلى مراجعة جذرية.

لكن السؤال عن دور المؤسّسات تجاه القواعد الشعبية يظل ناقصاً إن لم يترافق مع سؤال موازٍ: ما هو دور القواعد الشعبية نفسها؟ فحصر النقاش في زاوية المؤسّسات وحدها يعيد إنتاج نظرة فوقية توحي بأن التغيير يُصنع بخبرة “الخبراء” فقط. الواقع أنّ العلاقة المطلوبة هي علاقة تكامل وشراكة، تُبنى فيها القيادة جماعيّاً، وتُتقاسم فيها المسؤولية، لا امتيازاً لطرف على آخر. وهذه مسؤولية تقع علينا كأفراد بقدر ما تقع على المؤسسات.

من دون أفق جدّي لبناء موارد محلية شفافة وخاضعة للمساءلة المجتمعية، تبقى القدرة على اتخاذ القرار معلّقة بإرادة خارجية، مهما حسنت النيات

الإشكال الحقيقي ليس في ضعف الناس أو محدودية قدراتهم، بل في التقليل من جدارتهم، فالقواعد الشعبية قادرة على المبادرة والتنظيم والمطالبة بالقيادة، متى توفّرت لها مساحات حقيقية تحت مظلة مجتمع مدني أقوى وأكثر انفتاحاً. ومن هنا يبرز سؤال لا يمكن تجاهله: ماذا يعني الاستمرار في إنتاج برامج تستهلك الوقت والجهد والمال من دون أن تبنّي قوة حقيقية على الأرض؟ الإشكال ليس في كثرة الأنشطة، بل في تحوّلها إلى غايةٍ بحد ذاتها، فعندما لا تكون البرامج أداة لبناء التنظيم وتعزيز قدرة الناس على الفعل الجماعي، يصبح استمرارها جزءاً من المشكلة لا الحل. الموارد المحدودة لا تحتاج إلى مزيد من التشتيت، بل إلى تركيز واعٍ على ما يراكم أثراً قادراً على حماية نفسه بنفسه.

ويبقى سؤال الموارد حاضراً بوصفه سؤال قرار وسيادة، لا مجرّد تفصيل إداري، فالارتهان الطويل لشروط التمويل ينعكس مباشرة على من يملك القرار، ومن يحدّد الأولويات، ومن تُصاغ من أجله البرامج. من دون أفق جدّي لبناء موارد محلية شفافة وخاضعة للمساءلة المجتمعية، تبقى القدرة على اتخاذ القرار معلّقة بإرادة خارجية، مهما حسّنت النيات.

أخيراً، ما يجب أن نخافه حقّاً ليس فقط الضغوط السياسية أو المالية، بل أن نضيّع فرصة بناء قوة جماعية لا تُعيد إنتاج التبعية، بل تستعيد قدرتنا، كمجتمعات، على الفعل المشترك. الضعف الحقيقي ليس في تشتّت الأفراد، بل في عجزهم عن إيجاد بعضهم بعضاً. والنجاح لا يُقاس بتكاثر المبادرات، بل بقدرتنا على تحويل المجتمع المدني نفسه إلى شبكة حيّة تغذّي بعضها بعضًا، وتُغني قواعده الشعبية بدل أن تعمل كل جهة في جزيرتها الخاصة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى