مكتبتي تتنفّس

سعدية مفرح

بعد كل موسم لمعرض الكتاب في الكويت، لا أعود إلى مكتبتي كما كنت قبل الذهاب، ولا أدخلها بوصفها مكاناً ثابتاً للأشياء، بل بوصفها كائناً حيّاً يحتاج إلى إعادة نظر، وشيء من الجرأة، وربما قسوة محبّة. أفتش الأرفف كما يفتش المرء دفاتره القديمة، لا بدافع الحنين وحده، بل بدافع المساءلة أيضاً: ما الذي بقي حيّاً في داخلي؟ وما الذي صار عبئاً صامتاً لا يضيف معرفة ولا يوقظ دهشة؟

لا تشبه هذه الطقوس الترتيب السريع ولا التنظيف العابر، بل تشبه فعلاً تأمليّاً طويل النفس، كإعادة كتابة سيرة القراءة نفسها. الكتب التي تراكمت أعواماً، بعضها جاءني بدافع الشغف، وبعضها بدافع الواجب، وبعضها الآخر بدافع الفضول أو المجاملة الثقافية، تقبع أمامي صامتة تنتظر قراري بشأنها. ليس القرار أخلاقيّاً ولا عاطفيّاً خالصاً، بل قرار وعي؛ هل هذا الكتاب سيعود لي قارئاً مرّة أخرى؟ هل سيظل قادراً على محاورتي؟ أم أنه أدّى مهمّته وانتهى دوره؟

كنت في السابق شديدة الحساسية تجاه مكتبتي، أتعامل معها كما لو كانت امتداداً هشّاً لذاتي، أخشى التفريط في أي كتابٍ مهما كان حضوره باهتاً في حياتي القرائية. كان الكتاب، آنذاك، يحمل قيمةً رمزيةً تفوق محتواه؛ اقتناؤه بحد ذاته فعل أمان، وتركه أشبه بخيانة صغيرة لذاكرة القراءة الأولى. كنت أظنُّ أن الحفاظ على الكتب من أشكال الحفاظ على المعرفة نفسها، وأن كثرة الرفوف دليل امتلاءٍ داخليٍّ لا يجوز المساس به. لكنني تغيّرت، لا فجأة ولا بلا أسباب، بل نتيجة نضج بطيء وتجارب طويلة علّمتني أن العلاقة السليمة مع المعرفة لا تقوم على الخوف، وأن القارئ الواثق لا يحتاج إلى إحاطة نفسه بكل ما مرّ به يوماً. صرت أرى أن الكتاب الذي يؤدّي دوره ثم يغادر لا ينتقص من قيمتي، ولا من تاريخي القرائي، بل يؤكّد أنني كبرتُ بما يكفي لأفصل بين ما شكّلني ذات يوم وما لم يعد يعنيني الآن، وأن أختار الخفّة بدل الثقل، والوعي بدل التكديس، والقراءة بوصفها فعل حياة لا متحفاً للذكريات.

بدأت المهمة هذه المرّة، وأنا أعرف أنها ستستغرق أياماً، وربما أكثر، لأن المكتبة لا تُشذَّب على عجل، ولا تُهذَّب بلا مقاومة داخلية. ثمّة كتب تحاول أن تمسك بيدي، لا لأنها عظيمة بالضرورة، بل لأنها شهدت مرحلة ما من حياتي، وهناك كتب أخرى أضعها جانباً بلا تردّد، لأنني أعرف، بطمأنينة لا لبس فيها، أنني لن أعود إليها أبداً، أو أنني إن عدتُ فلن أقرأها بالعين نفسها ولا بالقلب نفسه.

الفرز الأولي وحده أخرج ما يقرب من مائتي كتاب. عدد يبدو صادماً للوهلة الأولى، لكنه في الحقيقة إعلان شجاعة أكثر منه خسارة. هذه الكتب لن تُرمى، ولن تُنسى، بل ستذهب إلى من يحتاج إليها، إلى قارئٍ لم تتح له الفرصة بعد، أو إلى مكتبة تبحث عن بداية. هنا تحديداً يتبدل معنى الامتلاك؛ فالكتاب لا يفقد قيمته حين يغادر رفّك، بل يستعيد روحه حين ينتقل إلى يد جديدة.

لا أريد الاحتفاظ بعد الآن بكتبٍ أعرف أنها لن تُقرأ مرّة أخرى. ليس لأن القراءة فعل استهلاكي يُقاس بعدد المرّات، بل لأن العلاقة بالكتاب يجب أن تبقى حيّة، قائمة على الرغبة لا على الشعور بالذنب. المكتبة التي تتحوّل إلى مخزن تفقد معناها، وتتحوّل من فضاء معرفة إلى شاهد صامت على تراكم لا يقول شيئاً عن القارئ.

التخفّف هنا ليس عداءً للكتاب، بل وفاء له. أن تمنح الكتاب فرصة حياة أخرى هو فعل احترام، وأن تعترف بأن ذائقتك تغيّرت هو من أشكال الصدق مع الذات. القراءة ليست خطّاً مستقيماً، بل مسار متعرّج، وما كان ضروريّاً في مرحلة ما قد يصبح زائداً في مرحلة أخرى.

وأنا أتنقل بين الرفوف، أدرك أنني لا أعيد ترتيب الكتب فقط، بل أعيد ترتيب علاقتي بالمعرفة، وبفكرة الامتلاك نفسها. ما أحتفظ به يجب أن يكون حاضراً في وعيي، لا مجرّد اسم على غلاف. وما أتركه يجب أن يغادر بلا ندم، لأن الكتاب، في جوهره، كائنٌ اجتماعي، خُلق ليُتداول، لا ليُحتجز.

المكتبة، حين تُنقّى، تصبح أكثر صدقاً، أكثر شبهاً بصاحبها، وأكثر قدرة على التنفّس. وفي هذا التنفّس المتجدّد، تتجدد علاقتي بالقراءة، لا فعل تكديس، بل فعل اختيار واعٍ، حميم، ومفتوح على الآخرين.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى