مازن عرفة روائي سوري متميز، قرأت له سابقًا رواية وصايا الغبار، منشغل بالهم السوري بعمق. الغرانيق؛ رواية تتحدث بصيغة المتكلم على لسان بطلها الأساسي لنسمه “الشاهد”، كما يتناوب على منصة السرد أبطال آخرون: الجنرال الزعيم وشخصيات أخرى من عامة الناس ومن الثوار المشاركين بالانتفاضة السورية على ظلم النظام المتمثل ب”الجنرال”. كما أن الرواية تعتمد طريقة المونولوج الداخلي النفسي لبطلها احيانا، او هلوساته أو سرده حيثيات حياته، في خلط عجيب بين الواقعي والمتخيل، الوهمي والمعاش، المعبر عن عقد دفينة والعادي… الخ.
تبدأ الرواية من الشاهد متحدثا عن بلدة ما في سورية، بلدة نموذج وكأنه يريد أن يقول أنها “سورية المصغرة”، بلدة تقبع في حضن جبل من جهة، وتمتد الصحراء في الجهة المقابلة، بعد أن جف النهر الكبير وأصبحت البلاد في حالة أقرب للتصحر، وناسها يسكنهم الفقر والخنوع والاستسلام لأقدارهم، في حضرة الزعيم الجنرال، الحاضر في كل شيء، الصور المغطية البيوت بما فيها غرف النوم، والمراكز الحكومية، الساحات تتوسطها تماثيله الحجرية السوداء، مذكرة بحضوره الطاغي المهيمن كإله جبار. الشاهد مواطن نموذجي كما يسمي نفسه، يعمل في بلدية البلدة موظفا في النفوس، مع موظفتين اخرتين ذوات مظاهر أنثوية مترهلة لنساء انجبن الكثير من الأولاد، حياته مقتصرة على ذهابه للعمل والجلوس تحت صورة الجنرال الزعيم يتفيأ ظله، او في بيته حيث زوجته واولاده، زوجته المترهلة السمينة ذات المؤخرة الكبيرة، يقضي جل وقته معها في ممارسات جنسية مرهقة، هو يحلم بفتاة من بنات أحلامه، وهي تحلم برجل ما، يحصل جنس مُعاش بينهما، ومتخيل مع آخرين او اخريات، في غرفة نوم تحضر بها صورة الزعيم الجنرال، وفي كثير من الأوقات، يمارس الزعيم الجنرال الجنس مع الزوجة بدلا عنه أو بالتوازي معه، تعاش كل هذه الاستيهامات والهلوسات وقائع في حياة الشاهد، يذهب كل يوم مساء الى مقهى البلدة يلعب الورق مع اصدقائه في الحي، تحت صورة الجنرال الزعيم وبحضوره، قدرا مسلطا كالهواء، انجازات اللاعبين هي انتصارات تنسب للجنرال الزعيم. في البلدة “دار المتعة” وهي عبارة عن مركز دعارة فتح بتوصية من الجنرال الزعيم لحل مشكلة الجنود المحقونين بذكوريتهم التي لم تجد لها فرصة للتصريف عبر حروب لم تخض مع “العدو” لعقود. بيت المتعة تتصدره صورة الزعيم، يحييها الجنود قبل الدخول لممارسة الجنس مع فتيات وجدن بيع أجسادهم وسيلتهم الوحيدة لعيش ممكن. البلدة فيها أيضا مقبرة تتكاثر فيها القبور ليلا، صديق الشاهد حفار القبور يقول إن المقبرة تشهد اقبالا منقطع النظير هذه الايام، ففي اغلب الليالي تأتي سيارات الجنود محملة بجثث ترمى في حفر على عجل وتمضي، تحضر الكلاب الشاردة، تنبش القبور وتنهش الجثث، الجثث لكبار وصغار ونساء ورجال، وبعضها مهشم وبعضها مقطّع، سمع حكايا حافر القبور وذهب للتأكد، ادمن الذهاب، أصبح يلتقي بأطفال يحدثونه عن حياة كانت يعيشونها، حدثوه عن عربات كبيرة اُحضروا بها أموات، وعن معتقلين بين الحياة والموت يرمون بالجثث والأشلاء في حفرة اعدتها الة حفر كبيرة لهذا الهدف في طرف المقبرة، ثم يرمى المعتقلين مع الجثث في الحفرة ويطمر الجميع احياء واموات، حدثوه عن موت قاسي وقعوا ضحيته، زادت هلوسته وكوابيسه، واصبح اقرب الى رجل مهووس بحضور الجنرال، وتفريغ الاحتقان النفسي والقمع عبر جنس يمارسه مع زوجته السمينة المترهلة، ويعيشه مع محبوبته الشابة المتخيلة.
ينتقل الشاهد في فصل آخر ليتحدث عن نفسه طفولته، ولادته في البلدة المتواضعة والده المتزوج من اثنتين، أمه التي توبخه دوما، جدته التي تنبأت له بحياة يكون فيها زعيما جنرالا كالزعيم الجنرال، كبر في طفولة كان للقراءة والتخيلات فيها دور كبير في صناعة شخصيته، من بيئة فلاحية هو، عاش طفولته تحت الأشجار ومع انداده الصغار، كبر في الحقول، عايش مراهقة عادية، تعرف على الجنس من خلال علاقة بجارة تكبره استخدمته لمتعتها. كان موظفا في البلدية ومتزوج وعنده اولاد، كان ككل الناس يعيش حياته بحدود المتاح، تحت ظل الزعيم الجنرال، وحضوره الطاغي حاصيا أنفاس الناس و حاصدا حياة معارضيه.
المتغير الجديد على حياته وحياة كل أبناء بلدته، هو خروج مجموعات من الشباب في مواجهة الجنرال الزعيم، داعية لاسقاطه، مطالبة” بالخبز والكرامة والحرية” كانوا مجموعة من المجانين الذين يغامرون بحياتهم وحياة اهاليهم، لكنهم خرجوا بصدورهم العارية لمواجهة الجنرال الزعيم وجيشه وقوته العسكرية الطاغية. يطل الشاهد على حراك الشباب من شرفته حيث يتابع الحدث اليومي والحياتي للبلدة في ساحتها الرئيسية، الشاهد ابن البلد يعرف ما يغلي في صدور الشباب، وكيف تُسرق البلدة من أهلها، لم يكن كافيا، ما أصاب البلاد من جفاف ينابيع ، ونقص امطار، ويباس اشجار، وقلة اعمال، وفقر مستديم. تحالف ازلام الجنرال مع مستثمري الخراب والفقر وبدؤوا في تحويل ذلك لمكتسبات لهم، اشتروا الأراضي بارخص الاثمان، اقرب للسرقة، توسعت ظاهرة المخبرين الذين يحصون أنفاس الناس، التحاق الشباب في الحزب الحاكم بحثا عن مكتسبات مهما كانت تافهة، التزاوج بين الفاسدين ورجال الجنرال الزعيم، في سرقة الأراضي، وتجارة المخدرات وترويج الدعارة، وتعميم القهر والظلم والفقر على الناس، كل ذلك دفع الشباب لخروجه في انتفاضته، قرروا الخروج للمطالبة بالخبز والكرامة والحرية، في الشوارع والأحياء الفقيرة خاصة، لكن جيش الجنرال وشبيحته لم يسكتوا عن ذلك، واجهوا حركة الشباب بالسلاح والقتل العلني المباشر.
في الرواية تفاصيل عن كيفية مواجهة الجنرال وجيشه وشبيحته لجموع المتظاهرين السلميين. الجنرال الزعيم يقرر ان يتعامل مع كل من خرج ضده بصفته عدو، وقرر قتله، وبدأ من الدائرة المحيطة به وقتل بعض المقربين منه، ليؤكد هيمنته على مقاليد السلطة وانه الاله الواحد لسورية، المعبود الأوحد، أخرج المسيرات المليونية لقطيع الناس الخانعين، ثم باشر بقتل الناس في كل البلاد.
قرر المنتفضون أن يعتمدوا السلمية في مطالبتهم الجنرال بالرحيل وتحقيق أهدافهم، لكن الجنرال استخدم شبيحته وجنده لقتل الناس. في البلدة حاول أن يستدعي مؤيديه ليخرجوا في مسيرات تأييد له ردا على تظاهر شباب البلدة ضده، اصطدم الشباب بمسيرة المؤيدين، وحصل صراع ادى لكثير من الاصابات والجرحى، وانسحب مؤيدو الجنرال وشبيحته مهزومين. يومئ الكاتب إلى استخدام الجنرال للشبيحة الذين يستحضر هم من طائفة النظام او من طوائف اخرى، في محاولة لزرع فتنة بين مكونات الشعب السوري، التواصل مستمر بين مسؤول الأمن والخوري في الكنيسة، يزرع في ذهن المسيحيين أن هؤلاء الشباب يريدون إمارة إسلامية ومن ثم سيظلموا المسيحيين وغيرهم من الطوائف الاخرى، لكن الناس كانوا اوعى من ان يقعوا ضحية هذه المكيدة، هناك رجل دين مسيحي (خوري) مع الثوار، فالبعض كان مع الجنرال من كل الطوائف والبعض كان من المنتفضين المتظاهرين من كل الطوائف، بما فيهم المناضل المعتقل السابق، والمخبر المعتقل السابق، تفاصيل كثيرة تكتب تعني بلدة “ما” في سورية ، نموذجا عنها كلها، ينجح الجنرال بشق صف الشعب بتنوعه، رغم كونه كله ضحية. من كل المكونات يخرج الثوار، وتنقسم حتى العائلات حول ما يحدث، ولكن الغلبة تكون اخيرا للمتظاهرين حيث سيطروا على البلدة وأخرجوا انصار الجنرال منها بعد صراع مرير مع شبيحته سقط على إثرها بعض الشهداء وأصبح الشباب أقرب لفكرة حماية انفسهم واهلهم بالسلاح المتاح، رغم اصرار الاغلب على سلمية الانتفاضة، جهز الشباب انفسهم لمواجهة الجنرال والدفاع عن اهلهم. الجنرال لن يقبل الهزيمة، يرسل جنوده من المعسكر المجاور للبلدة مع الدبابات من أجل اجتياحها واعتقال الثوار المهيمنين عليها، حضرت الدبابات والجنود، اعتقلوا اغلب شباب ورجال البلدة و ساقوهم إلى معسكرهم ليحقق معهم ويذيقهم تعذيبه، وقد يقتل البعض. يتجول المخبرين معهم بوجوههم المقنّعة يخبروهم عن المتظاهرين و المنتفضين. تلاحق الدبابات والجنود الشباب المنتفض في الأحياء القديمة وفي المزارع المجاورة وتقضي عليهم ، يهرب البعض، وتصبح البلدة خاوية على عروشها، تحولت ساحات البلدة ومداخل شوارعها الى حواجز ومتاريس، مع جنود مدججين بالسلاح، يتجول حولهم ماتبقى من المؤيدين للجنرال الذين يحتفلون على جثث الناس وخراب البلدة.
الشاهد من شرفته يدون كل ذلك، تارة ضحية لهلوسات تصيبه، وتارة نادما انه كان جبانا ولم يشارك الشباب ثورتهم، وانه بقي حيا ليشاهد كيف قتل حلم الحرية في بلدته الصغيرة، رمز لسورية كلها.
تنتهي الرواية عندما يصوب الشاهد مسدسه الى رأسه ويطلق النار”لا اموت انا تموت البلاد”.
في تحليل الرواية نقول: أننا أمام نموذج مختلف من الرواية المتحدثة عن الثورة السورية والمنتمية لها. فعندما يستفتح روايته عن هيمنة الزعيم الجنرال على كل مناحي الحياة في البلدة “البلاد” يريد القول ان القهر والظلم والفساد والاستبداد هيمن على فضاء الحياة كلها، حتى غرف نوم الناس وشاركهم الجنس مع زوجاتهم، كأسوأ مستوى للذل والتدخلية الظالمة في حياة الناس.
وعندما يسرد قصة بلدة نموج من سورية بواقع حياة ناسها وحياته هو ومحيطه، ودرجة الفساد والخراب واستغلال البلاد لصالح النظام وعصبته، استغلال النفوذ سرقة اراضي الدولة والناس، تجارة المخدرات، التزاوج بين النظام والفاسدين في البلاد، كل ذلك جعل حياة الناس جحيما، وبالتالي أصبحت الثورة عليه ضرورة عاشها الشباب فكرة تحولت لواقع مارسها الشباب كضرب من الجنون في مواجهة نظام قاتل. وبالفعل يرصد الكاتب كيف قامت الثورة، وكيف تمت مواجهتها بأعتى درجات القتل والتنكيل. ورغم أن الرواية ينتهي زمان سردها في الأشهر الاولى للثورة، لكنها تومئ ضمنا لما بعد ذلك، حيث انحسار التظاهر السلمي، والانتقال للعمل العسكري من قبل الثوار، وحصول تدخلات دولية واقليمية، جعلت سورية لعبة بيد اللاعبين الدوليين، وإطلاق يد النظام مدعوما من إيران وروسيا ومرتزقتهم، لقتل الشعب السوري، قصف بالطيران والصواريخ تدمير مدن وتهجير جماعي الى كل بلاد العالم، ملايين من المشردين ونصف سورية مدمر، ما يزيد عن مليون شهيد ومثلهم مصابين ومعاقين.
للرواية أسلوب مميز مختلف بحضور الصور الجنسية بكثرة، والهلوسات، والانتقال من زمان لآخر ومن شخصية الى أخرى، لعلها كلها تحاول الاحاطة بالكارثة السورية، التي يستحيل احاطتها بنص واحد.