أنا سوداء، وفلسطينية.. هل أفزعتكم؟‏

أزميرا حموري ‏ *    ترجمة: علاء الدين أبو زينة

‏لم أعرف الكثير عن إرثي الفلسطيني أثناء نشأتي، لكن رحلة قمتُ بها إلى فلسطين كراشدة عرَّفتني إلى جمال الثقافة الفلسطينية والواقع العنصري للحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي.

*   *   *

نشأت في هاواي، وعلى الرغم من أن أحد أسمائي الأخيرة كان فلسطينيا، فإنني لم أعرف أبدا بطريقة يُعتد بها عن هذا الجزء من إرثي أو ارتبط به. كان والد أمي، جدي مروان، شخصا عرفتُ عنه بشكل أساسي من قصائدها وأغانيها. وقد أدت وفاته المبكرة عندما كانت أمي في الرابعة عشرة من عمرها إلى تفاقم هذه الهوة الثقافية، التي تركت العديد من قطع اللغز الفلسطيني ليتم نسجها معا. وفي وقت لاحق، ستحفر بقايا ثقافته مكانها المستحق في ذكرياتي الرائقة، ولكن ليس من دون الوعي المؤلم بمدى جهلي بالسياق. مثل الكثيرين، ثنتني وصمتي العربية بعد 9/11 عن التعرف على الحقائق السياسية في المنطقة. وعندما أتيحت لي فرصة التعرف على فلسطين في كلية الدراسات العليا، لم أستطع أن أتركها تفوتني. بصفتي طالبة جامعية من الجيل الأول من ذوي الدخل المنخفض من أصل أميركي فلسطيني أسود، رأيت كيف يفتح التعليم بوابات الاحتمالات التي لم يكن بإمكان أسلافي سوى أن يحلموا بها فحسب. كان السفر إلى هناك والتعرف على فلسطين مباشرة تجربة لا تأتي إلا مرة واحدة في العمر.‏

‏‏في العام 2019، بعد أن أمضيت الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر كانون الثاني (يناير) في فلسطين كجزء من برنامجي للماجستير في الدراسات اللاهوتية، أصبح من الواضح أنني كنتُ في حاجة إلى معرفة المزيد عن جانب أمي من الأسرة واستنطاق افتراضاتي الثقافية والدينية. في ذلك الصيف، عدت لمدة شهرين للتعلم والتدريس إلى جانب الطلاب والموظفين في “مدرسة أصدقاء رام الله” في الضفة الغربية. وقد استمتعت بتدريس قراءة وكتابة اللغة الإنجليزية لطلاب الصف الرابع وتعزيز الهوية الثقافية من خلال فنون الدفاع عن النفس الأفرو-برازيلية المعروفة باسم “كابويرا”. ذكرتني رؤية الشابات وهن يحركن أجسادهن بحرية ويعبرن عن أصواتهن بالحرية التي منحتني إياها الكابويرا (1) عندما كنت فتاة صغيرة.‏

عدت لزيارة مخيم عايدة للاجئين، ورأيت أرض جدي لأول مرة، وخيمت في أريحا، وتحدثت مع الفلسطينيين من أصل أفريقي، واستمعت إلى القصص، والتقيت ببعض الأشخاص اللطيفين والجميلين والدافئين والمحبين بشكل لا يصدق. كانوا يمارسون حياتهم اليومية، بكل تعقيدها، بحثا عن نفس السلام والحرية اللذين رأيت الناس العاديين يمارسونهما بطبيعية في الوطن -وهو النقيض التام لما تصوره الأخبار الأميركية في الغالب حول “المجاز العربي” في الولايات المتحدة. التقيت بمسيحيين ومسلمين فلسطينيين، وتعرفت حتى على يهود فلسطينيين من المدينة نفسها التي تنتمي إليها عائلتي -الخليل، المعروفة اليوم باسم هيبرون. كان كل ما سمعته في وسائل الإعلام أثناء نشأتي هو روايات تروج للشكوك حول كيف أن العرب، وخاصة الفلسطينيين، هم أجانب أو إرهابيون دائمون. وسواء كان الأمر يتعلق بسماع افتراءات مثل “زنوج الصحراء” أو مشاهدة شخصية علاء الدين، فإن هذه الصور النمطية روجت لكراهية الذات وكراهية الأجانب، وقد تمت صياغتها في صور استشراقية ضارة على أقل تقدير.‏

في المدرسة الثانوية، كان معلمي المفضل رجلا يهوديا أبيض. وكان يدرِّس الأدب والتعبير الإنجليزيين في “مدرسة جيمس كامبل الثانوية”، وقد أحببت بِنية، واستقلالية، وأخلاقيات الفكاهة التي استخدمها في دروسه. في اليوم الأول من الدراسة والتعارف بين طلاب الفصل، لن أنسى أبدا مدى إعجابه عندما علم أنني أمارس الكابويرا. وقد دهشت لأنه كان يعرف ما هي، وأنه جربها أيضا من قبل! وقدّرتُ أنه بدا وكأنه يتوقع المزيد منا في الدراسة. وعلى الرغم من أن نهج حبه القاسي وتكتيكاته الغريبة ضايقت البعض، فإنها حفزتني بطريقة ما على العمل بجد على المادة. أردت أن أثبت أنه مخطئ، وأردت أن أتعلم المزيد منه. وقد فعلت حتى أنني أصبحت مساعدته في التدريس خلال سنتي الأخيرة. ولن أنسى أبدا عندما وقّع كتابي السنوي وكتب عليه: “أنا سعيد للغاية لأنني لن أضطر بعد الآن إلى العيش في خوف كل يوم من أنك ستنسفين المباني”. لم تكن لدي أي فكرة عما كان يتحدث عنه. لماذا يقول ذلك؟ فاجأني الموقف، وأبعدته عن خاطري بالضحك.

كانت هذه واحدة من المرات الأولى التي أدركت فيها أن امتلاك إرث فلسطيني للفرد في أميركا يعد أمرا خطيرا. وبالنظر إلى أنه لم يكن لدي سوى القليل من السياق في ذلك الوقت، قلَّلتُ من حجم انزعاجي وعزوت الأمر كله إلى شخصيته المرحة. وعندما غضبت أمي عندما عرفت بما كتب، قلت لها أنها تبالغ في رد فعلها. لم يقصد أي ضرر من ذلك؛ اعترضت على غضبها نيابة عنه. كنتُ سريعة إلى حماية نواياه والتغاضي عن مشاعري الخاصة. ولم أدرك إلا بعد قدومي إلى كلية الدراسات العليا إلى أي مدى دفعت نفسي إلى استيعاب تلك “النكتة”. هل سيفترض الآخرون تلقائيا أنني إرهابية أو أنني أتواطأ مع “جماعة متطرفة مشؤومة” إذا تحدثت عن الظلم الذي شهدتُه في فلسطين؟‏

أو ما هو أسوأ من ذلك، مواجهة تكتيك الاستغلال العاطفي والتشكيك في الذات المعتاد والمُعاد تدويره كثيرا، هل سيعتبرونني “معادية للسامية”؟‏

‏لم يخطر ببالي إلى أن تم اعتقالي في مطار بن غوريون بعد سبع سنوات أثناء مغادرتي البلاد كم كانت “نكتة” معلمي بليدة وخالية من الإحساس حقا. تم اعتقالي لمدة ساعة (معظم الفلسطينيين يُحتجزون لفترة أطول)، وفتشوني عارية، وتحسسوا جسدي، واستجوبوني قبل الصعود إلى الطائرة. جريمتي؟ أن لي جدا فلسطينيا.‏

عندما أدركت أن هذه العنصرية الصارخة هي ممارسة شائعة مصممة لثني أولئك الذين في الشتات عن العودة، شعرت بالتمزق. ومثل معظم الفلسطينيين، تم تصنيفي على أنني “تهديد أمني” لتبرير مثل هذا التجديف. وفي حين أن احتجاز المرء داخل المطار يختلف عن تعرضه للاستهداف من الشرطة في الشوارع، فإنني لم أستطع إلا أن أفكر في مدى تشابه هذا التمييز مع التمييز ضد السود الذين يتم تصنيفهم عنصريا في الولايات المتحدة. كنت أسافر مع ثلاثة زملاء آخرين في جامعة هارفارد؛ أحدهم كانت امرأة يهودية أميركية بيضاء، وامرأة أخرى من غينيا السوداء، ورجل لاتيني. من بين مجموعتنا، كنت أنا الوحيدة التي تم إيقافي وتفتيشي واحتجازي. وعندما سألت ضابط المطار عن السبب في إساءة معاملتي على هذا النحو، تلقيت تحديقة غاضبة أعقبتها عبارة باردة: “هذه إسرائيل، ما رأيك؟” اعذرني حتى على مجرد السؤال، قلت في نفسي. شعرتُ بأنني كنت واهمة بتوقع أي شيء مختلف. لكم كان ذلك تصورا ساذجا مني!‏

شاهدت زميلتي اليهودية الأميركية البيضاء المغامرة بأكملها. استطعت أن أشعر بأنها منزعجة من الظروف السخيفة، ولكن لا بد أنها لم تكن لديها لغة لتسمية أي من انفعالاتها، لأنها باستنثاء عبارة “هل أنتِ على ما يُرام؟” بعد ذلك مباشرة، لم تقل أي شيء للاعتراف بهذا الظلم الهيكلي والمباشر. أصبحتُ أتوقع مثل ذلك الاهتمام المزيف الآن، لكنني كنتُ في ذلك الوقت في حيرة من أمري. بدلا من المتابعة لاحقا لترى على الأقل كيف كان حالي، اختارت التزام الصمت. والكثير من الناس يفعلون، وهل يمكنني أن أقول صراحة إنني مندهشة؟ أولئك الذين يستفيدون من الهيمنة ليس لديهم حافز يذكر للتنديد بها.‏

لو أننا اعتمدنا على الناس أصحاب الامتيازات ليتحدثوا علنا ضد الظلم، هل كان أي من الملونين سيكون هنا اليوم؟ أعرف أنني لم أكن لأصل إلى هنا. يذكّرنا مارتن لوثر كينغ بأن التقدم لا يتدحرج أبدا على عجلات الحتمية. وتدخل كوريتا (2) لتقول إن الحرية هي شيء لا يمكن امتلاكه حقا أبدا. إنك تكسبها وتفوز بها في كل جيل. الظالمون لا يريدون أن يتكلم المضطهدون ويرفعوا أصواتهم.‏

الحقيقة هي أن الناس، سواء تحدثتُ أو اخترت التزام الصمت، ربما يعلّبوني أو لا يفعلون في كل هذه الفئات؛ التصويرات الزائفة التي تمزق الروح بدلا من تكريم إنسانيتنا الجماعية. تذكرني أودري لورد (3) بأن صمتي لن يحميني. إنه لا يحمي أيا منا أبدا. وأنا سعيدة جدا بأن أسلافي لم يختاروا التزام الصمت بحيث تمكنتُ من أن أكون هنا اليوم.‏

‏لا أدعي أنني أعرف ما يعنيه أن يكبر المرء تحت الاحتلال العسكري، أو أن يُهدم منزله، أو أن يكافح ويعاني من قطع الحكومة المياه والكهرباء عنه عمدا في ساعات عشوائية من اليوم. وأنا لا أتحدث العربية بمهارة (حتى الآن) ولا يسعني إلا أن آمل فقط بأن أتعلم كيفية صنع بعض من هذا الطعام اللذيذ. أقر بأن هناك امتيازات معينة مرتبطة بامتلاك جواز سفر أميركي، لكن هذه الحصانات تُظهر أنها غير كافية عندما يتعلق الأمر بالعِرق. وأعرف أيضا أن عليّ مسؤولية قول حقيقتي. إن المعاناة في صمت لا تساعد أحدا، كما أنها تمنعنا من خوض الحوارات الضرورية، وإن كانت صعبة، مع أشخاص في حياتنا نحن، والتي يمكن أن تسفر عن إمكانيات لإحداث التغيير.‏

للأسف، توفي معلمي أثناء الوباء، لذلك لم تتسنّ لي أبدا فرصة إخباره بكيف جعلتني نكتته أشعر حقا. آمل أن تعمل هذه الكتابة على إطفاء أي حالات صمت مستقبلية ربما تجرؤ على التربص.‏

*‏أزميرا حموري ديفيس Azmera Hammouri-Davis: هي شاعرة ومتحدثة ومعلمة كابويرا/ هيب هوب أميركية سوداء حائزة على جوائز أميركية، وحائزة على درجة الماجستير في الدراسات اللاهوتية من جامعة هارفارد. وهي عضو مؤسس مشارك في “‏‏شبكة مسيحيين سود من أجل فلسطين‏”‏، وهي فنانة إبداعية وأدائية في برنامج فولبرايت، وخريجة جامعة جنوب كاليفورنيا التي تعمل على تعزيز الحكمة عبر التقاليد الدينية والأجيال.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: I’m Black and Palestinian, you scared?

هوامش المترجم:

(1) ‏كابويرا‏‏ Capoeira: فن قتالي‏‏ أفرو-برازيلي يجمع بين عناصر الرقص، و‏‏الألعاب البهلوانية‏‏ ‏والموسيقا والروحانية. من أهم مميزاته أنه يجمع بين الرقص والقتال للتمويه وكي لا يتفطن الأسياد إلى التدريبات القتالية للعبيد، وله أيضا أغانيه الخاصة التي أصبحت أغاني شعبية تغنى في البرازيل في المناسبات. ولد فن الكابويرا من ‏‏بوتقة انصهار‏‏ الأفارقة المستعبَدين الذين جلبهم المستعمرون البرتغاليون، ‏‏والبرازيليون الأصليون‏‏ والتأثيرات البرتغالية‏‏‏ في بداية القرن السادس عشر، وهو شكل من أشكال الفن دائمة التطور. التفسير الأكثر قبولا لأصل كلمة ‏‏كابويرا‏‏ يأتي من الكلمات التي تعني مناطق الغطاء النباتي المنخفض في المناطق الداخلية البرازيلية حيث كان يختبئ العبيد الهاربون.

(2) كوريتا سكوت كينغ Coretta Scott King‏ (27 نيسان/ أبريل 1927 – 30 كانون الثاني/ يناير 2006): كاتبة، ناشطة وزعيمة حقوق مدنية أميركية. أرملة مارتن لوثر كنغ الابن ومن قادة حركة الحقوق المدنية الأميركيين الأفارقة في الستينيات. لعبت كوريتا دورا بارزا في السنوات التي تلت اغتيال زوجها في العام 1968 في ممفيس، عندما قادت النضال من أجل المساواة العرقية، وأصبحت ناشطة في الحركة النسوية. تابعت كوريتا مهمة زوجها وأنشأت مركز مارتن لوثر كينغ للتغيير الاجتماعي السلمي في أتلانتا التي دفن فيها زوجها.

(3) أودري جيرالدين لورد Audre Lorde‏ (18 شباط/ فبراير 1934 – 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1992). كاتبة أميركية، نسويّة، أمينة مكتبة، وناشطة في مجال الحقوق المدنية، وشاعرة اشتهرت بالبراعة الفنية والتعبير العاطفي، وبقصائدها التي تعبر عن الغضب والحنق على الظلم المدني والاجتماعي الذي خبرته طوال حياتها. تتعامل قصائدها ونثرها إلى حد كبير مع القضايا المتعلقة بالحقوق المدنية، والحركة النسوية، وشؤون وتجربة المرأة السوداء.

المصدر: الغد الأردنية/- ديفيس – (موندويس)‏‏ ‏‏

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى