في ثقافة الكراهية السورية: مؤشرات سوسيولوجية

د- طلال المصطفى

مساهمة الدكتور طلال المصطفى في مبادرة “معاً في مواجهة خطاب الكراهية بين السوريين” التي أطلقها اللقاء الوطني الديمقراطي في سوريا.

مقدمة:
خلفت الحرب السورية الدموية، التي شنها النظام السوري وبعض التنظيمات الراديكالية على السوريين بدءا من العام 2011 وحتى الآن، جملة من الاهتزازات على مستوى البنى الاجتماعية والثقافية للمجتمع السوري، ما أفرز عديد من التصدعات في أنماط وروابط الأنساق الاجتماعية السورية كافة.
تَقصد النظام السوري في مرحلة الأسد الأب والأبن تحطيم مؤسسات التنشئة الاجتماعية كافة وتدجينها الى درجة الهشاشة، مما أفقدها أساليب التنشئة السليمة، حيث عجزت عن مواكبة المتطلبات السيكولوجية والاجتماعية لجيل معنف من قبل مرجعياته الثقافية، السياسية، الأيديولوجية، وحتى الدينية لمدة خمسين عامًا، جعله عاجزًا في الوقت نفسه عن إعادة تعريف ذاته في ظل التحولات المعاصرة في الهوية الجماعية للسوريين عبر فضاء اجتماعي عنيف و غير آمن، خاصة وأن مضامين الخطابات (الخلبية) للنظام السوري ولمعظم التيارات السياسية السورية المعارضة دفعت الى بروز ثقافة الكراهية في الأوساط السورية كافة، وخاصة الثقافية و السياسية.
هذه الخطابات ل (النظام وبعض المعارضة)، هي المسؤولة عن الفشل في ردم فجوة الكراهية بين الأنا والآخر السوريين، مما استدعى النكوص إلى بنى تقليدية (آمنة وأولية) يحتمي فيها -الأنا- بالانتماء لهوية جماعية تقليدية محدَدة ومعرَفة مرجعيًا، تقف بحزم في مواجهة الآخر، حيث تبقى الكراهية سلاحا مشتركًا لدى السوريين كافة في حرب الإقصاء المفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها التقسيم لدويلات قومية ومذهبية وطائفية…الخ.
لقد تجلت ارتدادات الحرب السورية في ظهور تَمثل عدواني جديد لقيم التعايش والتسامح، أنتج خطابا مشحونا سياسيا وإيديولوجيا بثقافة الكراهية، يحمل دلالات عميقة لحقيقة اجتماعية (مخيفة)، فالاجتماعي لا يوجد خارج هذا الخطاب بل داخله، لا باعتباره مضامين ومحتويات فقط، بل باعتباره محددا لسمات الخطاب وشكله وبنيته وللتحولات التي تطرأ عليه.
ثقافة الكراهية السورية من منظور سوسيولوجي هو تشكَل اجتماعي غير سوي (منحرف قيميًا) قائم على الخوف من الآخر يظهر اليوم كمنتوج ثقافي قيمي لنظام استبدادي حكم لمدة نصف قرن من تاريخ سوريا، حيث استثمرها من أجل صناعة كراهية تسود الأنساق الاجتماعية السورية كافة، وبهويات ثقافية متصارعة وكارهة لبعضها البعض في الابعاد الجغرافية السورية كافة .
تتغذى ثقافة الكراهية السورية الحالية من مخلفات النظام الاستبدادي الإقصائية، التي شكلت بدورها الهويات الجماعية التقليدية «غير الوطنية السورية الجامعة» المرتبطة بجماعات عرقية، طائفية، مذهبية ودينية، المعتمدة على ممارسات ثقافة خطابية ذات قدرة (تدميرية) تساهم في إعادة إنتاج وتثبيت الهويات الجماعية الغير وطنية، ورسم للعلاقات الاجتماعية الوهمية داخلها.

1في مفهوم الكراهية:
عودة إلى تعريفات الكراهية، لم نجد تعريفًا علميًا موحدًا متفقًا عليه عالميًا، لذلك وجدنا أول تعريف له عام 1993 في الولايات المتحدة الأمريكية، بأنها “الخطاب الذي يدعو إلى أعمال العنف أو جرائم الكراهية، ويوجِد مناخًا من الأحكام المسبقة التي قد تتحول إلى تشجيع لارتكاب جرائم الكراهية.
هناك تعريفات متعددة للكراهية يمكن إجمالها بأنها نوع من العبارات التي تتضمن هجومًا أو تحريضًا أو انتقاصًا أو تحقيرًا من شخص أو مجموعة من الأشخاص تجاه الآخرين، الذين يحملون صفة إنسانية مميزة بالدين، العرق، الطائفة، المذهب ، الأيديولوجيا، السياسة، و حتى المكان الجغرافي… الخ، ودائمًا ما تكون هذي الكراهية أداة لتحفيز المشاعر، تعمل على إثارتها وتعبئتها في تجاه معين؛ فتصبح أداة لتكوين سلوك وثقافة واقتناع بالتميز عن الآخرين وانتقاص حقوقهم المتعددة، وهنا تكمن خطورة الكراهية، خاصة إذا وجد منابرَ إعلامية تحتضنها، كما هو حاصل في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعتبر بيئة خصبة تزيد من انتشارها وفاعليتها.
يأخذ تعريف الكراهية توصيفات عدة، يمكن أن نجملها في العنف اللفظي المُتضمَّن في العبارات اللغوية السوقية، والكراهية الصريحة المعلنة، والتعصّب المذهبي الديني والتمييز الطائفي والعرقي والنظرة الاستعلائية في الخطاب السياسي المصحوب بالإقصاء للآخرين. وبالتالي يمكن الحديث عن الكراهية، كظاهرة اجتماعية مرضية، انتشرت في السنوات التسعة الأخيرة بسرعة أكثر من السابق بفعل الحرب السورية وانتشار وسائل الاتصال الاجتماعي.

2- في ثقافة كراهية النظام السوري وبعض مواليه:
في البحث عن بعض المؤشرات السوسيولوجية للكراهية السورية تبرز مكثفة جدًا في خطاب رأس النظام بشار الأسد في وصف المحتجين على استبداده وفساد نظامه ب “الجراثيم”، وبالتالي هناك ضرورة طبية مجتمعية لاستئصالهم، وهذا ما فعله في سنوات الثورة والحرب في المدن والبلدات السورية كافة.
أيضًا في البحث في منشورات ( بوستات ) وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة الفيسبوك لدى موالي النظام السوري وجدنا فيها أنماطًا سلوكية تتسم بالكراهية والإقصائية العدائية العلنية للآخرين السوريين، وصلت إلى حدّ الدعوة العلنية لارتكاب جرائم الإبادة الجماعية في المدن السورية الخارجة عن سيطرة النظام، كما حصل في عشرات المجازر الجماعية في معظم المدن السورية، التي سبقتها مجزرة مدينة حماة عام 1981، هذه اللغة العدائية الإجرامية صدرت وتصدر من أفراد وجماعات، تتخذ أشكالًا متنوعة، من أبسطها استخدام المفردات اللغوية السوقية المحلية التي تنتمي في الغالب، إلى اللهجات المحلية، وتحديدًا لغة الشارع التي لم تستوعبها لغة الفصحى وثقافة التمدن. إلى التفاخر بثقافة “تعفيش” بيوت الآخرين، وتصل إلى ممارسة القتل الفردي والجماعي، كونه مشرعًا لها على أرض الواقع كما تعتقد في ثقافتها الطائفية، ودليلها أنها خارجة عن محاسبة القانون لها.
أمام هذه الظاهرة – ثقافة الكراهية – في دوائر النظام السوري لا بدّ من طرح عدة تساؤلات حول العوامل التي تقف وراء ظهورها، وخصوصيتها في المجتمع السوري. هل تتصل برواسب التعصب المذهبي والطائفي، التي ما زالت تفعل فعلها في هذه الظاهرة؟ أم هل لسرديات المظلومية التاريخية لدى بعض الطائفة العلوية دور فاعل فيها؟
الواضح أن المحرك الرئيس لهذا الخطاب هو التعصب المذهبي والطائفي، الذي تستثيره ثقافة قديمة مرتبطة بسردية المظلومية التاريخية، التي عادت لتتجدد في ذهنية بعض موالي النظام السوري، تتغذى من الثقافة الأسرية المغلقة على نفسها، وبقايا ثقافة المجتمعات المحلية المغلقة على نفسها أيضًا، ومن مؤسسات اجتماعية وجمعيات أهلية أخرى حديثة العهد، تقوم على أساس مذهبي، طائفي، أو عرقي…. إلخ.
إذا دققنا في ثقافة الكراهية لدى موالي النظام السوري وجدناها تتراوح بين ثقافة وطنية ظاهرة ( تحارب الإرهاب) وبين ثقافة طائفية تتلطى متخفية وراء الأولى (الوطنية)، تعتمد على التشويه والتعبيرات غير اللائقة، وعلى لغة صدامية ترفض التوفيق أو التوافق، بل تصر على الانتصار على ( الإرهاب) كما تزعم، ولو على حساب الاعتبارات الإنسانية، لغة بعيدة عن أعمال العقل، توجهها غرائز وحشية ناتجة عن رواسب ثقافية خرافية، – لم تعد مقبولة في عصرنا- في ذهنيتها، شمولية تضع الخير كله في طرفها والشر كله في الطرف الآخر، وأي تشكيك في ذلك هو تشكيك في الانتماء إلى هوية الجماعة (الطائفية) بالساتر وفي هوية الانتماء للوطن (النظام) في الظاهر.

3- في ثقافة كراهية بعض المعارضة السورية:
الحالة غير الطبيعية أن تظهر ثقافة الكراهية لدى بعض المعارضة السورية، خاصة الذين تعرفوا إلى تجارب الآخرين في السلوك السياسي والاجتماعي خارج سورية، ولا سيما في المجتمعات الأوروبية الديمقراطية؟ أليست تسعة سنوات خارج سوريا والعيش في تلك المجتمعات الديمقراطية كافية لإحداث تعديلات في ثقافة التعامل مع الآخر المختلف معه سياسيًا، ثقافيًا… إلخ، وبكلام آخر: ألا يكفي تسعة سنوات للقطع البنيوي مع الثقافة الاستبدادية الإقصائية، التي تتسم بالكراهية للآخر؟ ألا تكفي كل تلك المدة للإقلاع عن تبرير سلوكيات الكراهية الممارسة من قبل بعض المعارضة بشماعة الحكم الاستبدادي الأسدي لمدة خمسين عامًا.
المعروف أن السياسة هي المجال الخصب والأبرز لممارسة الأفعال التي تمكن الإنسان من التعبير عن نفسه وعن ثقافته، ومن هنا فإن متابعة ما يُحرّر في وسائل التواصل الاجتماعي خاصة (الفيسبوك) من آراء سياسية، في ما يخص بعض الموضوعات والأحداث السياسية الخاصة بالقضايا السورية، تُظهر استمرار ثقافة الكراهية الإقصائية لدى أغلب السوريين المعارضين ، من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي سلاحًا لقمع الآخر المختلف معهم، ليس بالموضوعات السياسية والفكرية فحسب بل في موضوعات حياتية يومية تصل إلى موضوعات الموت والمشاركة بالعزاء من عدمه وكذلك برفض مشاركة الفرح لإطلاق سراح معتقل سياسي من معتقلات النظام الاستبدادي لانتمائه دينيًا ( بحكم الولادة) لطائفة أخرى …. إلخ، ومناهضة الآخر بحقه بالتعبير عن ذاته الثقافية والسياسية بحرية، من خلال ممارسة اللغة الشتائمية، لدرجة تجعل البعض يحتقر نفسه ويملؤوه الخجل من الإفصاح عن بعض الآراء السياسية التي لم يُوفق بالتعبير عنها.
ما يزال هذا البعض من السوريين المعارضين حتى اليوم مصرًا على أنه الوحيد الوطني، الصائب في مواقفه السياسية، المستشرف لما يحدث سياسيا، الأذكى في كل شيء، لذلك يحق له ما لا يحق للآخر. والآخر هو الغبيّ، الذي لا يقدر على إدراك الحقائق والأحداث السياسية مثله.

4في ثقافة كراهية بعض النخب المثقفة:
نلحظ ثقافة الكراهية لدى بعض النخب المثقفة، في نقاشاتها حول موضوعات متنوعة (أيديولوجية، ثقافية، سياسية، وحتى اجتماعية شخصية)، تعكس صورة نكوص أيديولوجي ثقافي، من خلال العودة إلى ثقافة تعبّر عن أنساق اجتماعية تقليدية ( ما قبل الحداثة والوطنية)، أي إلى ثقافة مغلقة على ذاتها، من المفترض تجاوزها لدى هؤلاء، بحكم انتمائهم إلى ثقافات عابرة للطوائف، للأديان وحتى للوطنية، تتلطى خلف ثقافة (أممية) شكلًا.
بروز ثقافة الكراهية لدى هؤلاء في الوقت الحالي يستدعي الوقوف على الخلفية، التي تلعب دورًا في ظهورها واستمرارها، بهدف التوصل إلى فهم موضوعي لها.
أولها الخلفية التعصبية، حيث يعرّف التعصب بأنه: “الرأي المسبق أو التحيز ضد أو مع شخص معين أو شيء معين، علمًا أن الآراء المتحيزة يمكن أن تكون إيجابية أو سلبية، إلا أنه لوحظ أن المصطلح يشير في الغالب إلى تجاه سلبي، أو غير إيجابي تجاه جماعة أو أفراد جماعة معينة. ويتسم هذا التعصب بالمعتقدات المتأثرة بالصور النمطية التي لم تختبر على محك الواقع، وإنما تستند إلى مشاعر الشخص واتجاهاته”، وبالتالي فإن هذه الذهنية الطائفية التعصبية تتضمن جانبًا معرفيًا، يتمثل في الصور النمطية التي يحملها الفرد عن الآخرين، ويتجسد في الابتعاد عن العقلانية من خلال الأحكام المتعجلة أو المسبقة أو التعميم المفرط، أو التفكير في إطار القوالب النمطية، ورفض تعديل الآراء في ظل ظهور دلائل جديدة، كذلك الجانب الوجداني الذي يتمثل في مشاعر الكراهية التي يحملها الفرد ذو الذهنية، التي تتسم بالكراهية للآخر، والابتعاد عن معيار المشاعر الإنسانية الذي ينتقل من اللامبالاة تجاهها إلى العداوة النشطة، أي عدم التحمل، وأخيرًا الجانب السلوكي الذي يتمثل في المسافة الاجتماعية التي يضعها الشخص الطائفي، بينه وبين الآخرين، أي الابتعاد عن معيار العدالة كمؤشر للمساواة في المعاملة، فهو يتطلب وجود المساواة في المعاملة بين الأشخاص جميعهم، في كل مجالات الاهتمامات العامة ما عدا المعاملات الفارقة التي تقوم على أساس تمايز القدرات، وأشكال الإنجاز التي ترتبط وظيفيًا بمتطلبات الموقف، ويسمى السلوك الذي ينحرف عن هذا المعيار بـ “التمييز”، ويفرض معيار العدالة على الشخص الحداثوي أن يتجنب هذا التمييز، وأن يعيه ويعارضه حينما يراه موجهًا إلى طرف ثالث.
ثانيها تتمثل بالثقافة الاعتقادية التعصبية، التي تعد واحدة من تلك المتغيرات التي يمكن أن تؤدي إلى زعزعة أمن الأنساق الاجتماعية في المجتمع واستقرارها؛ مما يولد علاقات كراهية متبادلة، وتناحر وتنافر بين الجماعات المختلفة ضمن النسق الاجتماعي الواحد التي قد تصل أحيانًا إلى حد العنف وبالتالي تفكك روابطه الاجتماعية.
كذلك الأمر، ينظر إلى التعصب الثقافي القيمي على أنه عامل تفكيكي في عمليات التفاعل الاجتماعي، وأنه يشوه العلاقات بين الأفراد ضمن النسق الاجتماعي الواحد، ويقف حاجزًا ضد كل ما هو جديد، على الصعيد الثقافي والمعرفي بكل عام، ويعزل أصحابه عن الجماعات والفئات الأخرى في النسق الاجتماعي ذاته ويبعده عنهم، إنه حالة مرضية تدفع الى الميل لممارسة العنف تجاه الآخر، لهذا تنظر إليه كثير من الدراسات باعتباره مرضًا اجتماعيًا سياسيًا.
أما أهم العوامل التي تقف وراء بروز ثقافة الكراهية لدى هؤلاء النخب الثقافية، التي يظهر بعضها فوق السطح، ويبقى بعضها الآخر تحته، الآتية:
–1 ادعاء البعض امتلاك المعرفة المطلقة بكل القضايا الحياتية، وأنهم الوحيدون الذين يملكونها، هذا يدفعهم إلى النزوع إلى إقصاء كل من يخالفهم الرأي.
–2 غياب ثقافة المواطنة في الممارسة الحياتية اليومية لديهم، أدى بهم إلى النكوص للانتماء إلى هويات فرعية، أيديولوجية، قومية، سياسية، وحتى طائفية، من خلال الدفاع عن معتقدات هذه الهويات الفرعية، بغض النظر عن الهوية السورية المشتركة.
– 3الاستكانة لكل ما هو موروث وتقليدي ثقافيًا في المواقف والسلوكيات أدت إلى مقاومة التغيير في الذهنية الثقافية.
–4 إشكالية عدم تقبل الآخر والتصور بأنه المتآمر عليه، أيديولوجيته، قوميته، حزبه السياسي، وحتى طائفته، دون النظر إليه كمواطن وشريك في هذا الوطن.
5- وجود تكتلات (شلل) ثقافية أنتجت عنفا رمزيا تجاه كل ما هو خارج هذه المجموعات (الشلل)، بحيث باتت تتشكل ثقافة إقصاء وإهمال لكل خطاب وإنتاج لا ينتمي إلى هذه الجماعات (الشلل) أو إلى نيل الرضى في أدنى تقدير.
4- في ثقافة الكراهية الطائفية:
لا شك أن ظاهرة الطائفية من الظواهر المسكوت عنها في سورية لدى النظام السوري و بعض المعارضة الراديكالية في وسائل الاعلام الصدرة عنهما، أما في الخفاء، فهي بارزة إلى حد التضخم لدى الطرفين، وقد تم توظيفها كورقة في التغطية على الإشكالات الحقيقية التي تقف وراء الثورة السورية 2011 من قبلهما في التحشيد الشعبي والعسكري ضد بعضهما البعض في فترة الحرب (2012 – 2020 )، أي كلاهما عملا على إذكاء الصراع الطائفي والانقسام الاجتماعي داخل المجتمع السوري، وبالتالي التأسيس للعنف وتعميمه في كل أنحاء سورية، الذي عمل على تفكيك ما تبقى من الروابط الاجتماعية للهوية السورية الجامعة، وبالتالي الميل إلى تفضيل خطاب التقسيم لدى الطرفين ضمنيًا على خطاب الدولة السورية الواحدة المعلن رسميًا.
ثقافة الكراهية المتعلقة بالانتماء الطائفي في سورية قديمة جدًا ومرتبطة بالنسق السلطوي للنظام السوري، من خلال التجربة المعاش، وليست من مفرزات الثورة، كما يدعي البعض بهدف وصم الثورة بالطائفية، إضافة إلى ازدواجية الهوية لدى هؤلاء في اللحظة ذاتها، من ثقافة وطنية شكلية ومعلنة الى ثقافة طائفية مستترة خلفها. التوجس والخوف الدائم من الأخرين لمجرد انتماءهم لطوائف أخرى مختلفة عنهم ، بالإضافة تضمين مقياس تقييم ولاء الآخرين للنظام بناء على الانتماء المذهبي والطائفي أي بناء على ذهنية “تنميطيه” تنظر إلى الآخرين باحتمال أن يكونوا أعداء للنظام السياسي المنتمي إليه طائفيًا، باعتبارهم خارج نسق طائفته، وتنصيب نفسه ممثل نسق السلطة الأمنية، وهي مهمة تطوعية على الأغلب غير مكلف بها رسميًا، مارسها العديد من أفراد النسق السلطوي الطائفي تاريخيًا، وخاصة في فترات أزمات اهتزاز نسق السلطة في الثمانينيات ( حركة الاخوان المسلمين) وما بعد ثورة 2011، ومثل هذه الذهنية الطائفية النمطية أدت إلى معارك دينية – طائفية عديدة عبر التاريخ.
قام هؤلاء الطائفيون بوضع أسيجة شائكة، بينهم وبين الآخرين (من عدم الرغبة في السكن والتجاور إلى جانب الآخر، وعدم الرغبة في التشارك بالعمل المهني، إلى الوصول إلى تحريم التزاوج واعتباره جريمة لا تغتفر)، وبالتالي الحفاظ على مسافة مكانية بينهم وبين الآخر، حتى لو مارسوها في الذهنية الطائفية. تماهي بعض التنظيمات الراديكالية، ذات الطابع الطائفي التي برزت في مرحلة ما بعد ثورة 2011 –كردة فعل- على ممارسة النسق السلطوي للنظام في زمان ومكان محددين طائفيًا، من خلال إظهار الامتيازات السلطوية الهوياتية في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، وبالتالي ظهرت لدى هذه الجماعات الراديكالية هويات دينية طائفية خاصة بها بدلًا من أن تتحرر منها، وبالتالي انتقل المجتمع السوري الفسيفسائي -دينيًا وطائفيًا- من حالة التعايش المعلنة بقوة النسق السلطوي الأمني، إلى حالة النزاع العنفي الطائفي في زمان ومكان معينين ، حتى لو اختفى فيما بعد عن الأنظار، نتيجة عودة هيمنة النسق السلطوي الأمني، فهو أي -النزاع الطائفي- كامن في الأعماق ينتظر لحظة انفلاته على الجبهات العنفية لدى جميع الطوائف.

5- ثقافة الكراهية مهزومة تاريخيًا:
عودة الى تاريخ البشرية القريب تبرز الأوهام لدى من يعتقد -أفرادًا كانوا أم جماعات- أن ثقافة الكراهية يمكن أن تنتصر، أو أن تستمر اذا انتصرت في زمان ومكان محددين، بل إذا لم يكن العكس، أي لم تجلب لأصحابها إلا الهزيمة، حيث لا بدّ من التذكير أن “ ثقافة الكراهية” أصبحت، بتعريفاتها المختلفة، بحكم المحظورة في عدد كبير من دول العالم الديمقراطية، لذلك يتوجب على السوريين العقلاء كافة دون استثناء رفض ثقافة الكراهية صراحة وبكل أشكالها العلنية وغير العلنية (ضمن المجموعات الدينية، المذهبية ،الطائفية وحتى السياسية) والاتجاه نحو حوار شفاف وفعال لبناء الهوية السورية الجامعة للسوريين كافة، وحل الخلافات كافة على أسس بعيدة عن لغة الكراهية ( القتل والإبادة والإقصاء) على أسس القيم الوطنية والإنسانية الجامعة للسوريين كافة.
إمكانية إلحاق الهزيمة بثقافة الكراهية في سوريا لا يمكن أن تحصل دون القطع البنيوي مع الثقافة الاستبدادية الإقصائية التي يتسم بها النظام السوري، والتأسيس لثقافة تبادل الثقة بين السوري والسوري الآخر، مفهومًا وسلوكًا من أجل الخروج من مستنقع ثقافة الكراهية السورية.
حالة التعدد الديني، المذهبي، الطائفي، السياسي، الفكري، الثقافي القيمي في المجتمع السوري، حالة طبيعية، بل هي مشروعة دستوريًا وقانونيًا في سوريا المستقبل، التي سوف تنجز على أنقاض النظام الاستبدادي الحالي، حيث لكل فرد أو مجموعة من الأفراد منظومة فكرية وسياسية خاصة بهم، تختلف قليلًا أو كثيرًا عن منظومة الآخرين التي تؤسس مبررات تعدد الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في دولة القانون والمواطنة.

* باحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، سجين سياسي سابق، دكتوراه في الدراسات الفلسفية والاجتماعية، أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق، له العديد من البحوث السوسيولوجية المحكمة المنشورة وعدد من الكتب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى