إنها لصدفة باهرة أن تكتشف شذا كيلو، ابنة السياسي والمفكر السوري ميشال كيلو (1940-2021) مخطوطة رواية كان الراحل قد أضاعها خلال تنقلاته وأسفاره المتلاحقة في البلاد وخارجها، ضيقاً بالاستبداد، وكان عنوان الرواية “مزار الدب”. وها هو العمل الأدبي الرمزي يجد سبيله إلى النشر (2023) عن دار الجديد.
تبدأ الرواية باستذكار الراوي قرية وسط إطار طبيعي ساحر، كان ملعب صباه وفتوته، في ما كان يسمى “مزار الدب”. ومن ثم لا تلبث حكاية، بل خرافة هذا المكان الساحر والمخيف أن تتظهر، وتتكشف شيئاً فشيئاً لتصير عالماً كاملاً، تحييه شخوص يبدون حقيقيين، ولكن في إطار مكاني وزماني غير محددين، ويحملون في ذواتهم وأفعالهم ما يرمز إلى غيرهم في الواقع المرجعي.
حبكة تبدأ بسيطة
ومبدأ الرواية هذه حكاية بسيطة، إنه كان ذات يوم، في تلك البقاع الموصوفة التي يصفها الراوي بأنها جنة أو شبيهة بالجنة، ضبعة قوية كانت تهاجم كل من يقرب من “مزار الدب” في إحدى القرى المتخيلة، وقيل إن هذه الضبعة هي متحولة من امرأة، كانت عروساً حلوة، قتل عريسها بعيد زفافهما، وإن جماعة من ذوي العدوانية اختطفوه وقتلوه، فما كان من زهرة، المتحولة ضبعة أن تنقض على كل من سولت له نفسه الاعتداء على المزار. ولم تمض أشهر حتى وضعت زهرة الضبعة طفلاً (طفلة) من زواجها القصير أمام بيت أحدهم، ويدعى أيوب الناعس، وزوجته العاقر، ليربيا الطفلة التي أسمياها كلثوم، ويقومان بذلك عن طيب خاطر.
ولما كبرت الفتاة كلثوم، وصارت فتنة القرية بناسها وشجرها وينبوعها، يلهجون بها ويتوقون ليمتعوا نظرهم بجمالها الخلاب ولمستها السحرية، طرأ أمر غير معروف في حينه أدى الى اختفائها، وقد تبين لاحقاً أن شخصاً هو ابن ظافر الهادي، أي حمدان الأبرص، كان قد عثر على الفتاة “كلثوم” في الغابة، بزعمه، في حين اتضح أنه هو الذي اختطفها واحتجزها لديه لإجبارها لاحقاً على الزواج به، وهذا ما حصل لها.
توالي النكبات
وفي دليل على غضب الطبيعة والعناصر من الخذلان الذي حل بكلثوم، على حد ما كشفه نايف المفزلك، أخذت تتوالى على قرية “مزار الدب”، إذ تسللت أول الأمر حيات من كل الأنواع إلى شوارع القرية، وبيوت الناس فيها وخزائنهم وأسرتهم حتى ضاقوا بها، ولم تكد تتوارى الحيات حتى انهالت الحجارة بكل الأحجام على منازل القرية وهشمت جدراناً وروعت سكانها، ولم يلبث أن أعقب هاتين الموجتين هجوم قطيع من الذئاب، وبعده فصيل من الثعالب لم تبق ولم تذر من الدجاج والطيور الأليفة ما يقي نساءها وعجائز القرية من الجوع والفاقة، وزيادة الطين بلة، يظهر عمود أسود ضخم يمتد من الأرض حتى السماء، وقد راح يخرج ناراً مهلكة تصيب الأخضر واليابس مما سلم من القرية، وعندئذ، يتصدى الشيخ حمدان الأبرص لهذا العمود ويفلح في حرف مساره ليصيب قرية مجاورة.
انقسام القرية
وبينما كانت الحوادث الغريبة تتوالى في القرية، يتبين للقارىْ من الوقائع والحوارات المنقولة بصيغة الغائب عن ألسنة الشخصيات في الرواية، أن ثمة انقساماً حصل بين فئتين من السكان، الفئة الأولى، من مثل عبلا الهبلا “التي تعرف سر ما حدث ومن كان وراءه” (ص: 29)، وكلثوم العروس ومربياها، وعفاف، وأخت حسان الأشهب، وغيرهم، ممن يلقون باللائمة على ظافر الهادي لكونه أطلق كل ما لديه من أرواح شريرة راحت تعبث بمصالح القرية (مزار الدب) وتبث الرعب في صفوف الغالبية العظمى من سكانها.
وفي المقابل، أمكن لظافر وابنه وجماعته، أن يؤلبوا الرأي العام في القرية ضد عبلا وأبيها ومن ناصرهما، ونجحوا في إبعادهما وعزلهما تمهيداً للقضاء على عبلا الناطقة بالحقيقة، حقيقة أن الأخير راح يبني سلطته حيناً بتسليطه قوى الشر على القرية، وحيناً آخر بابتداعه خطاباً أشبه بالديني، يقنع الناس به أنه صاحب مقام، وأن على أتباعه أن ينصاعوا لإرادته. وبالفعل، حالما تم لظافر أن يتخلص من عبلا، ويمعن في التمثيل بجثتها من دون أن ينجح في ذلك، ربما لطهارة الجثمان وتجذره في تراب القرية الأصيل، حتى مضى يشيع في القرية أنه صاحب السلطة الوحيد، وأنه الآمر الناهي فيها، وباسم الوكالة شبه الدينية المعطاة له.
بيد أن الأهم في الرواية التي تنساب وقائعها ذات الطابع الغرائبي والدلالة الرمزية، هو حصول التحول المنتظر في خطاب زعيم القرية الأوحد، الهادي والمستبد، من دعوة الناس إلى التسليم به، إلى حثهم على التخلي عن أملاكهم لصالحه، في مقابل تخليه عن أملاكه لهم، إذ يقول لمن عارضه في الدعوة، أو خالجه تساؤل في معقولية هذا المطلب.
ومن أجل أن يضمن سلطانه على القرية وأملاكها، عمد الهادي الأبرص إلى قسمة الناس فريقين، فريق يؤازره فيحصل على كل المغانم والأرزاق، وفريق آخر معارض له فيحرم من كل شيء.
فلسفة الاستبداد
ولكن أين تكمن فرادة النظام الاستبدادي أو الشمولي (التوتاليتاري) الذي يرمز اليه الكاتب ميشال كيلو، في روايته هذه، وإن شاءها متركزة في قرية نائية دعاها “مزار الدب”؟ للإجابة نقول، وفقاً لمجريات الرواية، إن من أخطر العوامل المساعدة على استدامة سيطرة المستبد أو الطاغية تعميم الروح الجماعية في الرعية، بل إزالة أي أثر للأنا، للفرد، من كيان الجماعة، بحيث تنعدم أي خصوصية لهذا الكائن، فلا يعود يهدد وحدة هذه الجماعة وسلطان حاكمها الأوحد.
وفي السياق عينه، يحمل الناس على نسيان ذواتهم وأسمائهم وهوياتهم التي وهبت لهم منذ ولادتهم، واستبدالها بهويات وأسماء هي كفيلة بالدلالة على انتمائهم، بل تبعيتهم لذاك الحاكم بأمره تعالى أو بما يدعيه كذلك، تطبيقاً لمبدأ “إنس نفسك”، بديلاً من مبدأ سقراط الشهير “اعرف نفسك”.
ومن الطبيعي والحال هذه، أن يفضي هذا الإكراه على النسيان العام المراد تحقيقه كرمى لعيون المستبد الهادي، ولسلطته القامعة (الناطور) المتمتعين وحدهما بذاكرتهما وباسميهما، إلى إرباكات بين الناس: “صحيح أن الرجال لم يسألوا نساءهم وأولادهم من يكونون، وأن هؤلاء لم يسألوا بعضهم بدورهم سؤال الصباح المتواتر، إلا أن الاستغراب كان سيد الموقف، إذ استغرب كل إنسان وجود الآخرين إلى جانبه ومعه واستغرب وجوده حيث هو، هل نسي المزاريون حقاً كل شيء؟” (ص:148)
بيد أن ذروة ما تطمح إليه سلطة الاستبداد، على نحو ما يمثله نهج الحاكم الظافر الهادي والمهدي، هو أن تصادر مستقبل الناس، بعد أن أفلحت أو كادت تفلح في محو ماضي الناس والسيطرة على حاضرهم، وذلك في منع المزاريين من الحلم، وفي أضعف الحالات مراقبة أحلامهم وتقييمها وقمع غير المناسب منها. ومن ثم أنشئت بقرار من الحاكم المستبد “جمعية رعاية الأحلام” في قرية “مزار الدب”، وهاهنا تتقاطع الرواية مع رواية أجنبية للكاتب الألباني إسماعيل كاداريه بعنوان “قصر الأحلام”، وفيها يعمد الحاكم إلى تخصيص أحد المباني في مملكته لغاية تحليل أحلام رعاياه التي ترد إليه من المقاطعات البعيدة والقريبة.
أياً يكن الأمر، فإن الكاتب الراحل ميشال كيلو ترك للقراء العرب تحفة في الأدب ذي الرمزية قريبة المتناول، بدلالات سياسية واجتماعية وأنثروبولوجية وإنسانية ولغوية وفيرة “مزار الدب”، سوف يتملون منها ويقارنون ويستخلصون ما يشاءون على أن يبقوا أحراراً في الجهة التي ينقلبون إليها غير ظالمين ولا مظلومين.
للكاتب السوري ميشال كيلو رواية “دير الجسور”، وكتب في السياسة، مثل “الاستخبارات في الحرب العالمية الثانية”، و”الديمقراطية الاشتراكية”، و”برلين-كابول- موسكو”، و”من هيغل إلى نيتشه”، و”من الأمة إلى الطائفة”، وغيرها.
المصدر: “اندبندنت عربية“.