فصول من كتاب ” الأحزاب والقوى السياسية في سوريا 1961 ـ 1985″ الحلقة الثانية والعشرون

رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي

الحلقة الرابعة: أحزاب الشيوعية السورية في مرحلة الانقسام 3/3

 

 أولا: الحزب الشيوعي السوري ـ خالد بكداش

في السابق كان الحزب الشيوعي السوري يفتخر وبحق بأنه الحزب الوحيد الذي لم يتعرض لأي انقسام جدي طوال حياته المديدة، في الوقت الذي كانت فيه معظم الأحزاب السياسية في سوريا قد تشرذمت إلى أجنحة وتكتلات وأحزاب، هذا المرض الذي لم تخل منه أيضا معظم الأحزاب الشيوعية على مستوى العالم، التي تأثرت بالانقسامات التروتسكية والماوية والمحلية.

وكانت للشيوعيين السوريين عبارة طالما تغنوا بها بأنهم ” رقم غير قابل للقسمة”، لكن هذه العبارة سرعان ما تهاوت فجأة، ليدخل الحزب في دوامة الانقسامات اللامتناهية، وكان خالد بكداش أمين عام الحزب الذي حافظ على وحدة الحزب طوال المرحلة السابقة هو نفسه أول من فتح هذا الباب.

ففي المؤتمر الثالث المنعقد عام 1969 اضطر خالد بكداش لمسايرة العاصفة التي هبت في وجهه والتي عملت على توجيه الحزب خارج المسار الذي سار عليه طوال عمره.

في هذا المؤتمر تمت إدانة واضحة لتاريخ الحزب ولقيادته وللعديد من سياساته ومواقفه، حيث أدينت بشكل قاطع ظاهرة “عبادة الفرد”، والمقصود بها هنا شخص الأمين العام خالد بكداش…. وغياب الديموقراطية المركزية، والاستهتار باللوائح الداخلية، وعدم عقد مؤتمرات الحزب في مواعيدها، وكبت حرية الحوار والنقاش.

كما تمت مراجعة العديد من المواقف المصيرية للحزب، وعلى رأسها قضايا الوحدة العربية، والمسألة الفلسطينية، والعلاقة مع الاتحاد السوفياتي، وأممية الحزب الشيوعي، واستقلاليته، وتقبل خالد بكداش النقد، وتقبل قرارات المؤتمر، فأعيد انتخابه أمينا عاما.

لكنه سرعان ما اصطدم مع رفاقه أعضاء المكتب السياسي الجديد بسبب محاولته تطويع قرارات المؤتمر وتجاهلها، وانتقل الخلاف إلى قواعد الحزب التي بدأت تصلها نشرات ومواقف متناقضة، فظهرت حالة انشقاقية أولى تمثلت في تمرد بعض قواعد الحزب على قيادتها المتمثلة بالمكتب السياسي، واللجنة المركزية، والتفافها حول الأمين العام.

وعقدت مؤتمرات انتخابية وقاعدية وتشكلت منظمات موازية، وفي 3 نيسان / إبريل 1972 ظهر الانقسام إلى العلن من خلال بيان أصدره الأمين العام ومساعده يدينان فيه موقف الأغلبية ويحرضان قواعد الحزب على الانشقاق عنها.

وركزا في بيانهما على أن موقف أغلبية القيادة يعبر عن حالة خروج عن “الأممية”، ومروق عقائدي وسياسي مغلف بعبارات تنظيمية، لذلك فإن تلك الأغلبية تمثل حالة انشقاق.

وتدخل الاتحاد السوفياتي في محاولة لرأب الصدع في الحزب، وقدم ملاحظاته على مشروع التقرير السياسي، الذي أعدته الأغلبية، والتي جاءت متقاربة بحذر مع موقف الأمين العام.

وعقد في عام 1972 مجلس وطني ضم الطاقم القيادي، وممثلي المناطق والمحافظات، وفي هذا المؤتمر عرض خالد بكداش رؤيته للصراع قائلا: “إن أسباب الأزمة بالحزب، أو أسبابها الرئيسية تتمثل:

 فكريا: في ضغط الأفكار القومية والضغط القومي بشكل عام… أي ضغط العقلية البرجوازية الصغيرة.

سياسيا: تعقد المهام التي يجابهها الحزب في المرحلة الحالية..”.

وأضاف ” أما مهام الحزب الشيوعي العربي الموحد، والمزاودات والشعارات المتطرفة من القضية الفلسطينية، وشعار الوحدة العربية غير المشروطة فهي مجرد واجهات للخلافات الفكرية والسياسية”.

وتحدث عن رؤيته حول ما أشيع عن غياب الديموقراطية، وعن أزمة الفردية، وبشكل خاص مقولة وجوب خضوع الأقلية للأكثرية قائلا:”… إن هناك اتجاهات ومساع لإغماض العين عن كل ذلك (ويقصد الشروط الجماعية لمفهوم المركزية الديموقراطي)، وتقليص المركزية الديموقراطية وجعلها تتلخص في ثلاث كلمات فقط هي ” خضوع الأقلية للأكثرية”.

ولكن المجلس الوطني لم يستطع إعادة اللحمة للحزب، ولا تدخلات السوفيات استطاعت ذلك، واستمر الانقسام بعد أن تحددت التخوم بشكل واضح، وألقى الاتحاد السوفياتي بثقله إلى جانب خالد بكداش.

واعتمد هذا الجناح في الجبهة الوطنية التقدمية التي يقودها حزب البعث، وتتلخص مواقف الحزب السياسية وفق رؤية الأمين العام في التالي:

1ـ الموقف من الوحدة العربية والأمة العربية:

يرى الحزب الشيوعي ـ جناح خالد بكداش ـ أن العرب على طريق تكوين أمة، حيث إن التشكيلة العربية تملك وحدة اللغة والتاريخ والأرض، ولكنها لا تملك وحدة المصالح الاقتصادية التي اعتبرها ركنا هاما، بل الركن ألأهم من بين عوامل التشكيل القومي حسب النظرية اللينينية ـ الستالينية للقومية، وأن النضال من أجل الوحدة القومية ليس من مهام الشيوعيين، وإنما من مهام الحركة البرجوازية.

وفي أكثر مراحله تسامحا خلال الأزمة قال بكداش ” الوحدة لا يمكن أن تكون هدفا بحد ذاتها، لأنه من الممكن أن يكون لها محتوى مختلف، والهدف الرئيسي لنا نحن الشيوعيين هو الاشتراكية، ومن خلال النضال في سبيل الاشتراكية يكون للوحدة مكانها.. وأخيرا ينبغي أن يكون واضحا أن القومية العربية ليست شعارنا نحن الشيوعيين، ولكنا أيدنا ونؤيد المحتوى المعادي للاستعمار فيها…”.

2ـ الموقف من القضية الفلسطينية:

يرى الحزب الشيوعي ـ جناح بكداش ـ “أن إسرائيل هي واقع موضوعي لا يمكن ولا يجب نفيه، هذا الموقف النهائي، إن هذا لا يلغي أن إسرائيل وجدت كقاعدة عدوانية للإمبريالية، وأنه يجب على الطبقة العاملة الإسرائيلية قيادة النضال ضد البرجوازية التابعة للإمبريالية وإقامة المجتمع الاشتراكي بالتحالف مع الطبقة العاملة العربية”.

ويطرح الحزب إزالة آثار العدوان وتحرير الأراضي العربية المحتلة بعد عدوان 1967، ويؤيد عقد مؤتمر دولي بإشراف الدوليتين العظميين ـ الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة ـ، وهو يعتبر أن الصراع العربي الصهيوني إنما هو صراع قوى الإمبريالية والرجعية، وليس صراعا يستهدف الوجود العربي.

وفي سؤال وُجه لخالد بكداش حول ما إذا وصل الحزب الشيوعي الإسرائيلي إلى الحكم في فلسطين المحتلة، فماذا يكون الموقف من “إسرائيل”، يجيب: إذا وصل الحزب الشيوعي الإسرائيلي إلى الحكم انحلت المشكلة، لأن معنى ذلك هو:

أولا: أنه تم القضاء على سلطة البرجوازية اليهودية الكبرى وكبار ملاكي الأراضي اليهود.

ثانيا: انقطعت السلسلة التي تجمع بين إسرائيل وبين الصهيونية العالمية والإمبريالية العالمية، ولا يبقى هناك لا سيطرة استعمارية، ولا صهيونية، ولا عدوان، وينفتح المجال لعودة الشعب العربي الفلسطيني إلى وطنه وتقرير مصيره بنفسه، وتبقى القضية بين كادحين عرب وكادحين يهود، ومن الواضح أنهم في ظل الاشتراكية يمكن أن يتفقوا بسهولة على كل شيء بما في ذلك التسمية نفسها..” ويقول أيضا: “إن النضال الطبقي في إسرائيل لإلغاء الصهيونية، ومنع الصهيونية من التوسع على حساب الأراضي العربية، وإزالة آثار العدوان سلما أو حربا، وتشكيل دولة فلسطينية في الضفة والقطاع هي المطالب الرئيسية للحزب الشيوعي السوري”.

3ـ مسألة السلطة والوضع في سوريا:

يرى جناح بكداش أن ” سوريا تمر بمرحلة التحرر الوطني، لذا فإن تحقيق التراكمات الرأسمالية، وخلق قطاع عام، والنضال ضد الامبريالية، والتحالف مع  الاتحاد السوفياتي، وإقامة جبهة تقدمية في الداخل هي الملامح الأساسية للمرحلة الوطنية” ويتحدث عن أن سوريا تأخذ مواقف تقدمية على مستوى السياسة الخارجية ومقارعة الاستعمار، لكنه ينتقد الكثير من الممارسات الداخلية وبخاصة نمو الطبقة الرأسمالية الطفيلية، وعدم الاهتمام الكافي بمشاكل الجماهير، ويطالب بمزيد من الحريات لأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية،،، ويؤكد بشكل خاص على وجه الحزب المستقل ضمن العمل الجبهوي.

أما مسألة السلطة فإن الحزب الشيوعي يرى أن الوصول إلى السلطة هو الهدف الرئيسي لأي حزب سياسي، لكن أسلوبه في سوريا حاليا يعتمد على الاحتواء لا الانقلاب، أي دفع العناصر اليسارية في حزب البعث الحاكم إلى اتخاذ مواقف أكثر جذرية، وانجاز تحولات مادية عميقة في بنية الاقتصاد السوري، مع دعاية ماركسية مكثفة بين الجماهير، وتؤدي هذه الإنجازات والمواقف والتحولات إلى أن يتحول حزب البعث إلى حزب ماركسي لينيني، ويتم تحول في التحالف نحو إقامة صيغ أرقى للعلاقة بين الحزبين تصل بالنتيجة إلى  الوحدة على أساس من تبني النظرية الماركسية اللينينية، وفرض صيغة الحزب البروليتاري.

4ـ الموقف من المسألة الاشتراكية:

الاشتراكية التي يتبناها الحزب الشيوعي السوري هي الاشتراكية العلمية الماركسية اللينينية، ويعتبر أن ما يطرح من مقولات اشتراكية أخرى إنما هي عبارة عن فكر البرجوازية الصغيرة، ويعتبر أنه من الممكن بناء الاشتراكية في دولة صغيرة مثل سوريا، ويضرب على ذلك المثال الكوبي، ولكنه يربط هذه الامكانية بالدعم السوفياتي، ويطرح الحزب برامج اقتصادية تقدمية كما يقدم رؤيته الخاصة في كافة المجالات الاجتماعية.

5ـ العلاقة مع الاتحاد السوفياتي

المسألة الهامة لدى الشيوعيين البكداشيين هي مسألة العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، وفي هذا يقول خالد بكداش بوضوح ضد رفاقه الذين رفضوا الانصياع الحرفي لتوجيهات السوفييت: “لا يكفي أن نعلن نحن الشيوعيين أننا أصدقاء للاتحاد السوفياتي، بل ينبغي أن تنسجم استراتيجيتنا مع الاستراتيجية العامة للحركة الثورية العالمية التي يؤلف الحزب الشيوعي السوفياتي قوتها الرئيسية وطليعتها… إننا نحن الشيوعيين لا يمكن أن نكون من دعاة الاستقلالية عن الاتحاد السوفياتي، وعن حزب لينين… بل نحن دعاة الانسجام معهما، أما الاستقلالية بالنسبة لحزبنا فيجب أن تتمثل بالاستقلالية عن الاستعمار، وعن الرجعية، ويجب أن تتمثل أيديولوجيا وتنظيميا في الاستقلال عن العقلية القومية الضيقة، وعن الحركات القومية المتصفة ولو بشعرة.. لو ببذرة من التعصب القومي…”.

استطاع الحزب الشيوعي البكداشي أن يستقطب مجددا مجموعة من العناصر المؤيدة للجناح الآخر “جناح الترك”، وعلى رأسهم ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي نفسه، وهم ظهير عبد الصمد، وإبراهيم بكري، ودانيال نعمة، وانتخب قيادة جديدة له في المؤتمر الرابع الذي عقد عام 1975، بعد أن أخذ وبشكل نهائي صيغة الحزب المستقل.

ولم تمض فترة طويلة حتى ظهر خلاف جديد ضمن صفوف الحزب، وأخذت المجموعة المعارضة لخالد بكداش تكيل الاتهامات المتعلقة بالفردية والديكتاتورية من جديد، وطالبت بعقد مؤتمر جديد… لكنه تم فصل هذه العناصر وعلى رأسها عضو المكتب السياسي مراد يوسف، وثمانية من أعضاء اللجنة المركزية.

وفي العام 1979 عقد الحزب مؤتمره الخامس الذي أدان الانشقاق الجديد وثبت مقررات المؤتمرات السابقة.

وعلى مستوى العلاقة مع نظام الحكم شهدت الثمانينات علاقة متأرجحة مع السلطة السورية، فقد أعلن الحزب دعمه المطلق لحزب البعث في صراعه مع الأخوان المسلمين، وتعرض بعض عناصره للاغتيال بسبب هذا الموقف… وفي مرحلة التحضير لانتخابات مجلس الشعب السوري لدورة عام 1982 طالب الشيوعيون بدور أكبر لهم في الحياة السياسية، ووزعوا بيانا انتخابيا يتضمن انتقادات للسياسة الداخلية للنظام السوري، وأدى هذا الموقف إلى إخراجهم من قوائم الجبهة الوطنية التقديمة، وبالتالي عدم مشاركتهم في عضوية مجلس الشعب لتلك الدورة… إلا أن مرحلة الفتور مرت بعد أن تعلم الشيوعيون درسا هاما جول حدود دورهم في رسم سياسة البلد.

وتجري حاليا صراعات حادة داخل صفوف الحزب حيث نشأ تكتلان جديدان، يقف على رأس أحدهما الأمين العام خالد بكداش، ويقف على رأس الآخر الأمين العام المساعد يوسف فيصل.

يتواجد الحزب في معظم المحافظات السورية بدرجات متفاوتة، لكنً أهم مناطق تواجده هي: منطقة الأكراد في دمشق، ومناطق الطبقة والجزيرة وعفرين في الشمال، وأهم عناصره القيادية: خالد بكداش، يوسف فيصل، موريس صليبي، دانيال نعمة، ظهير عبد الصمد، أبراهيم بكري…. ويصدر نشرة شبه علنية باسم ” نضال الشعب”، كما يملك عددا من المكتبات والمؤسسات المالية، وله عدد كبير من المنح الدراسية في الدول الشيوعية.

ثانيا: الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي

اعتبارا من المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري ظهر الخط السياسي والعقائدي والتنظيمي الجديد للحزب الشيوعي السوري… هذا الخط الذي نجم عنه المظهر الجديد، والذي أطلق عليه تسمية “المكتب السياسي” أو جناح رياض الترك.

والتسمية جاءت نتيجة وقوف معظم أعضاء المكتب السياسي، وهو القيادة العليا للحزب، وراء الخط الذي عبر عنه ذلك المؤتمر، وفي مواجهة الأمين العام خالد بكداش، وأنصار خطه السياسي والعقائدي والتنظيمي، وعندما اختار الأمين العام وأنصاره الانشقاق عن الحزب بعد رفضهم لشرعية المكتب السياسي، انتخب رياض الترك أمينا عاما للحزب، ولكن نتيجة ظروف أممية وداخلية عاد عدد من كوادر الحزب، وبعض أعضاء المكتب السياسي عن موقفهم الأصيل، وأعلنوا التزامهم بجناح بكداش، فيما أنشأ بعضهم أجنحة صغيرة خارج إطار الجناحين الرئيسيين للحزب، جناح بكداش وجناح الترك.

لابد من التوقف عند المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري المنعقد عام 1969 حيث إن هذا المؤتمر شكل الأرضية الفكرية والسياسية لانقسام الحزب وتشكيل الأجنحة المختلفة، كما أن الحزب خرج بمقررات تعتبر القاعدة الأساسية لهذا الجناح.

أتى المؤتمر الثالث بعد ما يقرب أربعين سنة من تشكيل الحزب… وبعد ما يزيد عن ربع قرن من آخر مؤتمر له… وكان لابد من أن يحمل الكثير من القضايا والهموم وخاصة أن هناك العديد من الأحداث والمسائل التي تعرضت لها البلاد أثرت بشكل كبير على الحزب… وأهم هذه القضايا على الاطلاق قضية النهوض القومي العربي، ومسألة الوحدة العربية، ومسألة فلسطين والصراع العربي الصهيوني، ومسألة العلاقة مع السوفيات، والعديد من المسائل التنظيمية والسياسية الخاصة بالحزب مثل دور القائد للحزب والعلاقة مع النظام السوري.

وفعلا طرح العديد من كوادر الحزب وقياداته هذه المسائل بزخم وتنسيق جيد، مما ساعد على فرض منطقهم على معظم مندوبي الحزب في المؤتمر، وقام الحزب بنقد ذاتي أدان فيه طبيعة العلاقات الفردية التي تحكمت بمؤسساته، وأدان فيه جزءا هاما من تاريخه، وخاصة موقفه من قضية الوحدة، ومن عهد الوحدة المصرية ـ السورية، ومن مسألة الصراع العربي الصهيوني، وغيرها من المسائل.

وأقر المؤتمر مجموعة من المسائل أثارت زوبعة في الحركة الشيوعية العالمية، واضطر إثرها القادة السوفيات للتدخل في الصراع، واتخذوا موقفا إلى جاني الأمين العام، فقد تمسك المؤتمرون بقضية الوحدة، والنضال من أجلها، وضرورة تشكيل حزب شيوعي عربي موحد يأخذ على عاتقه النضال من أجل الوحدة العربية، وحسم رؤيته للأمة العربية بأنها “أمة واحدة”، وليست “أمة في طور التكوين “،وحدد أن النضال من أجل الاشتراكية، ومن أجل الوحدة العربية، لابد أن يسير جنبا إلى جنب، مؤكدا أن التقدم الاجتماعي في دولة عربية كبيرة يجري بصورة أسرع وأعمق وأشمل منه في دويلات وكيانات صغيرة….. وأكدت المقررات على أنه اعتبارا من أن الشعب السوري هو جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، له مع سائر شعوبها أهداف ومصالح مشتركة، لذا فإن الحزب الشيوعي السوري يسعى بالاتفاق والتشاور مع الأحزاب الشيوعية الشقيقة الأخرى لتكوين حزب شيوعي عربي موحد يساهم في تحقيق مطامح الشعب العربي في بناء دولته الموحدة، وفي بناء الاشتراكية.

ومن جهة أخرى أدانت وثائق المؤتمر مواقف الحزب السابقة من القضية الفلسطينية ـ كما ذكرنا ـ وأكدت على أن جوهر القضية يكمن في حق الشعب العربي الفلسطيني في تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني وأيدت بوضوح مسألة الكفاح المسلح.

وأعلنت المقررات نوعا من التأييد للنظام الحاكم في سوريا بسبب خطواته التمهيدية التدريجية نحو مرحلة بناء الاشتراكية، رغم تمثيله لبعض شرائح البرجوازية الصغيرة.

في الحقيقة كانت بصمات الناصرية، والحركة القومية، واضحة على هذه المقررات، وكان هناك وعي لقدرات الناصرية والتيار القومي التقدمي عموما على الارتباط بالجماهير وكسب الطبقات الكادحة إلى جانبها.

ولكن الأمر لم يستتب للمكتب السياسي المنبثق عن هذا المؤتمر، والذي كان في غالبيته العظمى من مؤيدي هذا البرنامج، إذ قاد الأمين العام، والأمين العام المساعد، حملة مركزة ضد زملائهم، وضد برنامج ومقررات المؤتمر الثالث… واتهموا رفاقهم بأنهم شوفونيون (متعصبون للقومية العربية)، وأنهم ضد القيادة الشيوعية العالمية، وبدأت الحملة تشتد في قواعد الحزب مما أدى إلى انقسامه إلى جناحين:

الأول: ويضم ثلثي كوادر الحزب وأعضائه، وقد وقفت إلى جانب المكتب السياسي.

الثاني: يضم الثلث الذي ساند الأمين العام ومعظمهم من أكراد دمشق، ومن الأقليات.

وفي مرحلة لاحقة انشق ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي وانضموا إلى خالد بكداش وهم: دانيال نعمة، وظهير عبد الصمد، وإبراهيم بكري، وسحبوا معهم قسما من أعضاء الحزب، وعانى الحزب مرة أخرى من الآثار النفسية والتنظيمية لهذا الانشقاق.

وعندما استقر الحزب الشيوعي على شكله الحالي بعد المؤتمر الخامس، كانت قد جرت الكثير من التحولات في بنيته التنظيمية، ولم يبق من طاقمه القيادي السابق سوى رياض الترك، وعمر قشاش، وفائز الفواز.

وعلى مستوى الحركة السياسية فرغم تبني الحزب لسياسة التعاون مع الأحزاب القومية ـ أحزاب البرجوازية الوطنية ـ إلا أنه انتقد بشدة ما أسماه بالسياسة الاستسلامية التي تتبعها قيادة الحزب ضمن الجبهة التقدمية، والتي تشكلت في أعقاب الحركة (التصحيحية) التي قامت أواخر عام 1970، ولكن هذا الانتقاد لم يشكل بحد ذاته موقفا من الجبهة نفسها على المستوى النظري، ولكن وقوف معظم نواب الحزب ووزرائه وممثليه في الجبهة الوطنية التقدمية إلى جانب خالد بكداش أدى عمليا إلى وجود جناح المكتب السياسي خارج إطار الجبهة…. فمد يده لبعض قوى المعارضة، وخاصة للاتحاد الاشتراكي العربي ـ جناح جمال الأتاسي، وحزب البعث العربي الديموقراطي (صلاح جديد، وإبراهيم ماخوس)، واتجهت سياسة الحزب نحو معارضة النظام الذي اعتمد جناح بكداش كممثل وحيد للشيوعيين..، وتعرض بعض قادته وعلى رأسهم عمر قشاش للاعتقال الطويل.

كما تقطعت خيوط اللقاء مع القادة السوفييت، ومع العديد من الأحزاب الشيوعية العربية المؤيدة للنهج السوفياتي، بينما تدعمت مع معظم الأحزاب الشيوعية العاملة في أوربا، وعلى رأسهم الحزب الشيوعي الفرنسي.

وفي أوائل عام 1980 توصلت بعض أحزاب المعارضة التقدمية في سوريا إلى إقامة “التجمع الوطني الديموقراطي”، الذي ضمه إلى جانب الاتحاد الاشتراكي العربي، وحزب العمال الثوري، وحزب البعث الديموقراطي، كما نسج خيوطا مع البعث العراقي، وشاركت بعض عناصره في الخارج في “التحالف الوطني لتحرير سوريا” بصفتها الشخصية.

وخلال هذه المرحلة عمق الحزب موقفه المعادي لنظام الحكم السوري، وأصدر بيانا خلال حوادث الصدام بين الأخوان المسلمين والنظام هاجم فيه الحكم، ودعا لإقامة جبهة شعبية إسلامية، وبعد هذا الموقف وبتحريض من جناح خالد بكداش شنت السلطات السورية حملة واسعة ضد قيادات الحزب وكوادره، واعتقلت بموجبها معظم هذه الكوادر الذين تجاوز عددهم 300 عضو، واستمرت الحملة متصاعدة منذ ذلك التاريخ حيث لا يزال معظم المعتقلين في السجون، ولكن بعض كوادره التي نجت من الاعتقال استطاعت متابعة العمل الإعلامي ، وتوزيع نشرة الحزب السرية، وبمساعدة بعض حلفاء الحزب بشكل متقطع، نظمت حملة إعلامية دولية للإفراج عن أمينه العام رياض الترك، بدفع من الحزب الشيوعي الفرنسي، لكنها لم تحقق اية نتيجة.

ثالثا: الحزب الشيوعي السوري ـ منظمات القاعدة

لم تنته أزمة الحزب الشيوعي بالانقسام الكبير والحاد وتشكيل حزبين بشكل رسمي، أحدهما بقيادة “خالد بكداش”، والثاني بقيادة “رياض الترك “، وإنما استمرت الأزمات متلاحقة، وخاصة في جناح خالد بكداش، إذ لم تمض خمس سنوات على المؤتمر الرابع الذي كرس الانقسام الأول حتى ظهرت أزمة جديدة، وتولدت معارضة جديدة للقيادة التاريخية الممثلة بخالد بكداش، يوسف فيصل، وكانت جوهر الملاحظات الموجهة لهذه القيادة التاريخية تتمثل بالتالي:

1ـ الموقف من النظام السوري: إذ اعتبرت المعارضة الجديدة، والممثلة بعضو المكتب السياسي مراد يوسف، ومجموعة من مؤيديه في اللجنة المركزية، أن القيادة التاريخية تتعامل مع النظام بانبطاحيه شديدة أدت على عزلة الحزب عن الجماهير، وفقد الحزب دوره الطبقي، ولم يعد يمارس دوره في انتقاد التطورات السلبية في البلاد، مما أحدث خللا في سياسة الحزب المقررة في وثائقه، بدلا من أن توفق القيادة موقفها بين الجانبين المقررين في سياسة الحزب: تأييد الإيجابيات، ونقد السلبيات، بقيت سياسة الحزب تسير على رجل واحدة عرجاء تتمثل في تأييد الايجابيات رغم تزايد السلبيات والأخطاء والانتهاكات خلال السنوات المنصرمة… و “ظل السعي لتجميل الوضع، وتبرير الانحرافات، والتقليل من حجمها وأخطارها هو الوجه البارز السائد من نشاط القيادة، بينما النقد البناء ظل يتقلص ويتلاشى حتى غدا محصورا بعرض بعض المطالب الشعبية في جريدة الحزب، وبعض مناقشات مجلس الشعب”.

2ـ بروز اتجاه يميني انتهازي واضح في قيادة الحزب: على رأس هذا الاتجاه “يوسف فيصل”، و”تكوينه كتلة في المكتب السياسي واللجنة المركزية من أجل فرض اتجاهه اليميني على الحزب…. وهذه السياسة اليمينية التي عملت على تشويه وتمييع مقررات الحزب، وخاصة حول إبراز وجهه المستقل، وتشديد نضاله الطبقي، ونشر الأدب الماركسي، وتعميق المعالجات الفكرية في نشر الحزب”.

3ـ الموقف من وحدة الحزب ومن التعاليم اللينينية في بنائه ونشاطه: حيث أدانت المعارضة السلوك الفردي للقيادة، وطريقة معالجتها للخلافات الحزبية، وأسلوب ممارستها للعمل، وهي نفس الإدانات الموجهة سابقا للقيادة، كما توضح في بيانات مجموعة المكتب السياسي، فقد عدد بيان المعارضة الصادر في نوفمبر تشرين الثاني 1979 أوجه السلوك الفردي للقيادة في نقاط محددة:

**إن القيادة تسعى لعرقلة انعقاد المؤتمرات إذ أنه مرت سنة على مدة انعقاد المؤتمر الخامس المقررة دون أن تقوم بالتحضير له.

** قيام القيادة بتزوير الانتخابات القاعدية، وشق المنظمات الحزبية، وتصفية اقسام منها، وإخراج ألوف الأعضاء منها، وفرض القيادات الموالية للاتجاه اليميني على المنظمات، وتشكيل منظمات موازية.

** الإساءة لوحدة الحزب من خلال تعميم المواقف التي لا تخدم الحزب، والتجريح ببعض قياداته، وإفشاء الأسرار الحزبية، وفرز الحزب بين الكتل.

** الطمس المتعمد لملاحظات القادة السوفيات، التي أبديت في لقاء تم بين قيادة الحزب والقيادة السوفياتية بناء على طلب قيادة الحزب في حزيران 1979، والتي تبين القلق العميق الذي يشعر به الرفاق في الحركة الشيوعية تجاه الوضع المتردي داخل جزبنا منذ سنوات.

وأقدمت قيادة الحزب على فصل وتجميد عناصر المعارضة، ومؤيديهم ومنعتهم من المشاركة في الانتخابات الحزبية، مما أدى إلى تكريس الانقسام، وتشكيل حزب شيوعي جديد أطلق على نفسه اسم: “الحزب الشيوعي السوري ـ منظمات القاعدة”، واعتبر نفسه الممثل الحقيقي للحزب الشيوعي السوري، وعقد الحزب الجديد مؤتمره في نيسان 1982، واعتبر المؤتمر مكملا للمؤتمرات الأربعة السابقة، لذلك بات هذا هو المؤتمر الخامس، وأقر في هذا المؤتمر برنامجه بعد أن استكمل هيئاته القيادية وتشكيلاته التنظيمية.

ويدعي هذا الجناح بأنه يضم 70% من أعضاء الحزب الأصلي بعد المؤتمر الرابع، بينما لم يبق مع خالد بكداش سوى 30% من الأعضاء.

وتتجسد مهام “الحزب الشيوعي ـ منظمات القاعدة” كما يطرحها برنامجه بالتالي:

1ـ تقوية التعاون مع الأحزاب الشيوعية والعمالية الشقيقة، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي السوفياتي، والعمل على توطيد الشيوعية العالمية، والتضامن مع بلدان المنظومة الاشتراكية، والنضال لتعزيز وحدة العملية الثورية الثلاث: المنظومة الاشتراكية، والحركة العمالية في البلدان الرأسمالية، وحركة التحرر الوطني.

2ـ العمل على تعميق الروح الأممية في صفوف الحزب والنضال ضد التيارات التحريفية والانتهازية، اليمينية و”اليسارية”، وضد الجمود العقائدي، ومظاهر التعصب القومي، وفضح الدور التخريبي للقيادة الصينية، والجماعات الماوية والتروتسكية والشيوعية الأوربية.

3ـ تأييد ودعم حركات التحرر الوطني.

4ـ النضال ضد الامبريالية العالمية والصهيونية والرجعية، والعمل لإيجاد أشكال جديدة ومتطورة للتضامن الكفاحي بين فصائل حركة التحرر الوطني في البلاد العربية، والسعي لتشكيل جبهة تضم كافة قوى التحرر الوطني في البلدان العربية.

5ـ في المسألة الفلسطينية: الإقرار ب “أن جوهر مشكلة الشرق الأوسط وأساسها اغتصاب حقوق الشعب العربي الفلسطيني، والسياسة العدوانية التوسعية لإسرائيل، وأن حل هذه المشكلة لا يمكن تحقيقه عن طريق التسويات الاستسلامية المنفردة… إن حل مشكلة الشرق الأوسط لا يمكن أن يتم إلا على أساس تحرير كافة الأراضي العربية المحتلة بعدوان 1967، وضمان حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية التي تحدد في المرحلة الحالية في العودة وتقرير المصير، وإقامة دولته الوطنية المستقلة على ترابه الوطني، أما الحل الجذري فيتطلب تغيير موازين القوى في المنطقة لصالح قوى حركة التحرر الوطني العربية، وتغيير ميزان القوى داخل إسرائيل نفسها لمصلحة قوى التقدم والسلم، بحيث تؤدي إلى إجراء تغييرات أساسية في بنيتها، وحينذاك يمكن قيام ” دولة علمانية ديموقراطية” معادية للإمبريالية، ومتحررة من الصهيونية ، يعيش فيها العرب واليهود بإخاء ومساواة، وقد تكون دولة كونفدرالية أو اتحادية أو موحدة، أو أي شكل يختاره الشعبان العربي واليهودي.

والحزب الشيوعي يدعم منظمات المقاومة من أجل تحقيق الأهداف العربية الممثلة بتحرير الأراضي العربية المحتلة بعد عام 1967، ويدعم نضال الشيوعيين اليهود والعرب داخل إسرائيل في سبيل تحقيق الأهداف البعيدة في إقامة دولة ديموقراطية علمانية

6ـ في مسألة الوحدة العربية: يقول البرنامج: “إن الوحدة العربية التي يناضل حزبنا الشيوعي من أجل تحقيقها هي الوحدة التي تقوم على أساس الديموقراطية ومراعاة الظروف الموضوعية وتقوية وتوسيع النضال ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية، وضمان حقوق الشعوب والقوميات الأخرى…….وإن الطبقة العاملة هي الطبقة الوحيدة القادرة على تحقيق وحدة عربية راسخة”

7ـ في القضية الوطنية: يعطي البرنامج تقييما وطنيا للنظام السوري، وخاصة لموقفه من “كامب ديفيد”، وعقد معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفياتي، ووقوفه ضد الإمبريالية.

إلا أنه يرى أن التطور العام منذ أواسط السبعينات اتسم بالتضييق على الحريات الديموقراطية للجماهير الكادحة، وقواها السياسية والنقابية، والعمل على جذب الرأسمال العربي والمهاجر، وتوسيع العلاقات الاقتصادية مع الدول الامبريالية، والأخذ بالاعتماد على القروض والمساعدات الخارجية، وتضخيم مشاريع الأبهة والخدمات غير الشعبية وتوسيع مجالات الدمج والاستثمار للرأسماليين في مجالات الزراعية، وبعض فروع الصناعة، وفي التجارة والخدمات السياحية والبناء والنقل والسمسرة على منتجات قطاع الدولة ومستلزماته، مما أعطى دورا مميزا للبرجوازية الطفيلية، وفتح مجالات الاغتناء البيروقراطي، وأدى إلى زعزعة أسس السياسة التقدمية، وأخذ يشكل خطرا على السياسة الوطنية السورية، ويؤدي إلى تقوية الرجعية واشتداد خطورتها في إثارة النزاعات الطائفية، وأعمال العنف والإرهاب ضد الجماهير الشعبية وقواها الوطنية والتقدمية”.

ويحدد البرنامج أن القوى الاجتماعية المؤثرة في النظام السوري هي البرجوازية البيروقراطية، باعتبارها الفئة الأساسية المهيمنة على سلطة الدولة وإدارة الاقتصاد، والمتشاركة في بعض الأوضاع والأطراف مع البرجوازية الطفيلية القوية في بعض الميادين، إضافة الى البرجوازية المتوسطة في قطاعي الزراعة والعمل الوظيفي.

ويحدد الحزب الشيوعي ـ منظمات القاعدة “بأن هدفه النهائي هو إقامة النظام الاشتراكي في سوريا من خلال شكل ملائم لديكتاتورية البروليتاريا، بقيادة الطبقة العاملة وحزبها الماركسي ـ اللينيني ثم الانتقال إلى بناء المجتمع الشيوعي.

أما المرحلة الراهنة فهي مرحلة انجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية والتوجه نحو الاشتراكية، التي تتطلب اتحاد القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في إنجاز هذه المهام، وهي الطبقة العاملة والفلاحون الفقراء والبرجوازية الصغيرة، والشرائح الدنيا من البرجوازية المتوسطة، واتحاد القوى السياسية الوطنية والديموقراطية والتقدمية التي تمثل هذه الفئات الاجتماعية والطبقات”.

وعلى المستوى العملي: يطرح الحزب أنه يناضل من أجل انتزاع الاعتراف الرسمي من قبل القيادة السوفياتية، مشيرا إلى أن علاقاته مع السوفيات حسنة رغم أن السوفيات لا يعترفون رسميا بغير قيادة بكداش، كما يسعى إلى انتزاع تأييد الحركة الشيوعية العالمية والعربية من خلال تنظيمه لعلاقاته مع الأحزاب الشيوعية المختلفة.

أما حركته السياسية وتأثيره الشعبي فهو ضعيف، إذ أنه غير معترف به من قبل الجبهة الوطنية التقدمية التي يقودها حزب البعث، كما أن علاقته مع أحزاب المعارضة المختلفة ضعيفة جدا ومحدودة، حيث لا يعتبر نفسه جزءا منها، ويدعو إلى موقف متميز يقوم على التعاون مع الاستقلالية، ويعتبر الحزب الشيوعي نفسه على يسار الأجنحة الشيوعية الأخرى، ويتهم أنصار الترك بالتعصب القومي، كما يتهم جماعة بكداش بأنهم عملاء للبعث، ويتهم باقي الفصائل الماركسية بالمراهقة والطفولية … الخ، ولا يقيم اية علاقة مع القوى القومية ألأخرى، ولا يزال يحمل انطباعا سلبيا لعهد الوحدة، والقيادة الناصرية.

ويصدر الحزب نشرة شعبية غير رسمية باسم “صوت الشعب”، وهو حزب مكشوف يمارس نشاطه بصورة معروفة، ولكنه غير معترف به رسميا. تعتبر دمشق وحمص وعفرين المراكز الرئيسية لوجوده، ومن أبرز عناصره: مراد يوسف، وحيد رأفت، فائز جلاجح.

رابعا: رابطة الشيوعيين العرب / حزب العمل الشيوعي

من خارج سياق الحزب الشيوعي السوري، وإفرازاته المختلفة، وفي أجواء نكسة الخامس من حزيران / يونيو 1967، ولدت حركة تأصيل ومراجعة ماركسية جديدة، عمادها جماعات شبابية من منابع تنظيمية مختلفة، وفي ظل متغيرات محلية وقومية ودولية عاصفة، التقت على ضرورة البحث والتعمق في الماركسية في محاولة للإجابة على الاستعصاءات التي غطت مختلف مظاهر الحركة والتغيير في العالم وليس فقط في منطقتنا العربية، والتي اعتقد هؤلاء الشباب أنها جميعها صادرة عن القصور في الفهم الصحيح للماركسية اللينينية الحقيقية.

في رحم العقد التالي لنكسة حزيران وتداعياتها ولدت هذه الحركة، وبدت وكأنها تعبيرا وتجاوبا مع الحدث الوطني والقومي والعالمي الذي صبغ تلك المرحلة، لذلك استقطبت هذه الحركة “الشباب” الذين خاب أملهم بالحركات الماركسية القائمة وبالتيارات اليسارية التي انشقت أو تميزت عن الحركات القومية. ورأوا أنفسهم جزءا من اليسار الجديد الذي بدأ يسجل هجمات ومبادرات من فرنسا إلى فيتنام، ومن منظمات العنف الثوري في اليابان وإيطاليا إلى منظمات المقاومة اليسارية التي جسدتها الجبهات الشعبية الفلسطينية.

ومن خلال حلقات فكرية “منفصلة ـ متصلة” تداعى إليها هؤلاء، بدأت عملية المراجعة، ثم تطورت هذه العملية من خلال لقاء هذه الحلقات في اجتماعات عامة ثلاثة عام 1974، 1975، كان آخرها في العام 1976 وجاء بمثابة مؤتمر عام لهذه الحلقات حضره ثلاثون مندوبا يمثلون 120 عضوا.

وانتخبت في هذا الاجتماع قيادة من هيئة مركزية ضمت 15 عضوا واختير منها لجنة قيادية من خمسة أعضاء، واعتمد فيه تقرير سياسي بمثابة برنامج عمل ورؤية لهذه الحلقات، وتم خلال هذا الاجتماع تدشين ولادة رابطة العمل الشيوعي، وفي اللائحة التنظيمية للرابطة جاء تعريفها بأن رابطة العمل الشيوعي ” فصيل ماركسي يبني مهمته المركزية العمل الجاد مع بقية الفصائل الماركسية اللينينية على الساحة السورية لبناء فرع سوري للحزب الشيوعي العربي، هدفها رفع وعي وتنظيم وتعبئة الطبقة العاملة وحلفائها الطبيعيين لإنجاز الثورة الاشتراكية بالأفق الأممي البروليتاري”. وعقدت الرابطة مؤتمرها الأول عام 1981، في بيت النائب اللبناني “زاهر الخطيب” ـ الأمين العام لرابطة الشغيلة اللبنانية ـ، في قرية شحيم بلبنان بحضور 55 مندوبا يمثلون 120 عضوا.

وفي هذا المؤتمر وهو الأول والأخير اعتمد اسم حزب العمل الشيوعي في سوريا بدل رابطة العمل الشيوعي، وبذلك يصبح الاسمان:( رابطة العمل الشيوعي، وحزب العمل الشيوعي) تعبيرين عن مسمى واحد.

بسبب طبيعة الولادة والمرحلة فقد كان الحزب الوليد يحمل فكرا على يسار كل الأحزاب الشيوعية والماركسية القائمة، ويقيم علاقات مع الحركات والتيارات اليسارية داخل المقاومة الفلسطينية، ولطبيعة الولادة نفسها فإن التركيبة العمرية والاجتماعية كانت تركيبة مثقفين مدينيين ،وطلاب جامعات في دمشق وحلب واللاذقية ودير الزور وحماة وحمص، ينتمون في الغالب إلى الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية، ورغم موقفهم المعارض بشدة للنظام القائم وسياساته، ورغم حملات القمع الشديدة التي واجههم بها النظام المرة تلو الأخرى، فإن عناصر الحركة لم تستطع أن تنفصل عن الحراك العام اليساري العربي الذي كان يحوم حول النظام السوري ممثلا بسياسة الرئيس حافظ ألأسد تجاه فلسطين والتسوية ولبنان، وفي ظل انحسار حركة التحرر العربي. والذي كان يتخذ من دمشق ممرا وموقعا له.

ورغم النفس اليساري الحاسم في الموضوعات التي تناولتها حلقات ومن ثم الرابطة وحزب العمل، فإنها جميعا كانت تدور في فضاء القضايا التي فجرت الحزب الشيوعي السوري، على مستوى البناء الداخلي والمستوى الوطني والقومي والعلاقات الأممية، وجاء هذا واضحا في الخط الاستراتيجي الذي اعتمدته رابطة العمل الشيوعي / حزب العمل الشيوعي في التأسيسي.

استراتيجية حزب العمل الشيوعي

تقوم استراتيجية الحزب على تنشيط مرحلة الدعوة من أجيل بناء حزب سيوعي جديد يقود الطبقة العاملة في سبيل تشكيل جبهة شعبية ديموقراطية متحدة بقيادة هذا الحزب الجديد.

وتتحدد المهمة الأساسية لهذه الجبهة بقيادة الثورة الديموقراطية الثورية، وإقامة نظام ديموقراطي ثوري بقيادة الطبقة العاملة من أجل انجاز كافة مهام مرحلة الديموقراطية الثورية، واستمرار النضال من أجل انجاز الثورة الاشتراكية.

وعلى المستوى القومي تتمثل استراتيجية الحزب بالنضال من أجل تشكيل حزب شيوعي عربي تكون نواته في سوريا ولبنان وفلسطين، يتطور فيما بعد ليشمل المنطقة الآسيوية العربية، ليتوسع في مرحلة أخرى نحو مصر والشمال الافريقي.

 ويرسم الحزب طريقه إلى ذلك على نحو خاص حين يحدد:

” إن بناء الجبهة الشعبية، والحزب الشيوعي العربي الموحد، يجب ان يأتي عبر نضالات تحتية وفوقية، وأن تشكيل الجبهة الشعبية يتم وفق ثلاث مراحل:

مرحلة أولى: يتم فيها توحيد التيار الشيوعي والثوري

ومرحلة ثانية: يتم فيها توحيد الحركة الشيوعية بكافة تياراتها

ومرحلة ثالثة: يتم فيها الالتقاء مع القوى الديموقراطية الثورية والبرجوازية الصغيرة.

وفي إطار تميزه اتخذ الحزب في تقريره السياسي الصادر عن مؤتمره التأسيسي مجموعة من المواقف على الصعيد الدولي والعربي والداخلي

ففي السياسية الدولية:

” يتبنى الحزب في السياسة الدولية التعاطف مع الاتحاد السوفياتي وسياساته الخارجية مع بعض الاستقلال النسبي، وقد حدث تطور في المؤتمر الأخير حين أعلن عن سياسة دولية متطابقة مع الرؤية السوفياتية، وهاجم بشدة كافة خصوم السوفييت سواء القيادات الصينية أو الأوربية الغربية ـ والنيو شيوعية، وحتى القوى المعارضة داخل المنظومة الاشتراكية، وأكد بشكل خاص تأييده الموقف السوفياتي في بولندا وأفغانستان.

وفي السياسة العربية:

يعرض التقرير رؤيته للأوضاع العربية مؤكدا أن الذي يسيطر على السلطات في الوطن العربي هي أنظمة برجوازية وإقطاعية، وقد أسقطت هزيمة حزيران برامج الأنظمة البرجوازية نهائيا، وإن هذه الأنظمة تسير وفق سياسات استسلامية، ولا يمكن لها بسبب طبيعتها إلا أن تسير وفق هذا الاتجاه، والتسوية السياسية المطروحة في قضية الصراع العربي ـ الصهيوني هي استسلام من البرجوازية الذي يجب أن يجابه برفض شامل للتسوية، وعدم الانخداع بذلك التعارض بين بعض الأنظمة العربية وبين بعضها الآخر…”.

ويطالب التقرير “بالتحرير الشامل وإقامة دولة فلسطينية ديموقراطية علمانية، تؤمن حق تقرير المصير للشعب اليهودي، كما تؤمن مصالحه ومصالح سائر الشعوب بالمنطقة، ويعارض الحزب جبهة الصمود والتصدي باعتبارها جزءا من قوى الاستسلام العربية”، ويؤكد في معرض تقييمه للحرب العراقية ـ الإيرانية على إدانته لموقف النظام العراقي في مهاجمته للثورة الإيرانية، مع انتقاد جزئي لموقف إيران من حق تقرير المصير للشعوب التابعة للجمهورية الإيرانية، ويعتبر هذه الحرب جزءا من مخطط إمبريالي رجعي، يستهدف إركاع المنطقة تحت قدمي الامبريالية، ويهاجم التقرير كافة الأنظمة العربية، فيما عدا نظام اليمن الديموقراطية والجماهيرية الليبية، كما يهاجم بعنف القيادة اليمينية لمنظمة التحرير الفلسطينية ويندد بمواقفها من قضية التسوية,

وفي نطاق سياسته العربية أعلن التقرير عن تأييده للبوليزاريو، وانتقد القوى الوطنية المغربية، كما أعلن عن تأييده للجبهات السياسية التي تشارك فيها الأحزاب الشيوعية العربية في العراق والخليج واليمن، وعن تأييده أيضا لمنظمة ” إلى الأمام” الماركسية المغربية، ولحزب العمل الثوري المصري وللحزب الشيوعي السوداني، وللحزب الشيوعي اللبناني.

وفي السياسة الداخلية:

أكد حزب العمل الشيوعي على تقييمه للنظام السوري بأنه “نظام البرجوازية البيروقراطية”، واتهمه بأنه ضالع في قضية التسوية الاستسلامية، معتبرا أن هذه التسوية تختلف عن اتفاقيات كامب ديفيد في المظهر فقط.

وأعلن أن الصراع الطائفي الذي جرى في سوريا بين الاخوان المسلمين والسلطة إنما هو صراع بين قطبي البرجوازية البيروقراطي والتقليدي، وأن هدفه كسر عظم النظام وإخضاعه للرؤية ألأمريكية الاستسلامية، وأكد الحزب أن توقيع معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفياتي “الموقعة في 8 أكتوبر تشرين أول 1980” لا تمنح النظام ورقة البراءة الوطنية، وهي ليست سوى ورقة ضغط من جهة، وأنها جاءت بسبب عدم الوصول إلى خيط مشترك بين المخططات الصهيونية، وبين الحد ألأدنى الذي يمكن أن يقبل به النظام السوري دون أن يتأثر وضعه الداخلي، وهاجم ما أسماه بتسلط النظام على المنظمات الشعبية، ووصفه بأنه “نظام بوليسي فاشي”.

وعن القوى السياسية الأخرى هاجم الحزب الشيوعي الرسمي (جناح بكداش) بسبب تبعيته للنظام السوري، وهاجم أيضا قوى المعارضة المتجمعة في “التجمع الوطني الديموقراطي”، بما في ذلك الحزب الشيوعي ـ جناح المكتب السياسي، لوقوعها في فلك الرجعية العربي، واعتبر ذاته القوة الوحيدة المؤهلة لقيادة القطب الثالث في الصراع الدائر في سوريا.

وفي الختام دعا إلى إنشاء جبهة شعبية بقيادته تضم الحلقات الماركسية، وقواعد الأحزاب الشيوعية السورية، وفصائل القوى الديموقراطية الثورية، مع إشادة خاصة بحزب البعث الديموقراطي العربي الاشتراكي (مجموعة 23 شباط).

من أهم قيادات الرابطة / الحزب: عبد العزيز الخير، فاتح جاموس، صفوان عكاش أصلان عبد الكريم، أكرم بني، كامل عباس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى