” الأحزاب والقوى السياسية في سورية 1961 ـ 1985″  فصول من كتاب .. الحلقة الاولى

رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي

مقدمة مختصرة

“في العام 1984 أطلعني الأخ المناضل رجاء الناصر / أبو طلال ـ المغيب في سجون النظام السوري منذ 20   نوفمبر/ تشرين ثاني 2013 على جهد يقوم به للتأريخ للأحزاب السياسية في سوريا، وبعد حوار حول موسع، استقر الرأي على أن نتشارك في إنجاز هذا العمل، بعد توسيع زاوية الرؤية والبحث ليصبح استعراضاً للأحزاب والقوى السياسية باعتبارها تمثيلاً لتيارات سياسية في حياة السوريين تعددت أدواتها لكنها تعمل وتحاول ان تخدم هدفا واحدا ورؤية واحدة، أو هكذا تفترض وتدعي.

واتفقنا على اعتبار المرحلة التي بدأت بجريمة انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة في 28 أيلول / سبتمبر 1961 هي البداية لبحثنا، باعتبار أنه في محادثات الوحدة  التي أقيمت رسميا في فبراير  1958 ، تم الاتفاق على حل الأحزاب السياسية في سوريا، لتتوافق الحياة السياسية في البلدين، حيث كانت ثورة 23 يوليو قد حلت الأحزاب السياسية في مصر، وتم انشاء تنظيم شعبي واحد تمثل في الاتحاد القومي، فتح أبوابه لكل القوى السياسية السابقة للعمل من خلاله، ولعل التنظيم الوحيد الذي رفض الانصياع لقرار الحل هو الحزب الشيوعي السوري، فيما التزم به حزب البعث العربي الاشتراكي، وحركة الاخوان المسلمين، وكذلك الأحزاب الوطنية السورية، ولم يكن واضحا في ذلك الوقت وجود أحزاب ” كردية”، حيث كان المكون الكردي مندمج في الحياة السياسية السورية، ضمن تيارات هذه الحركة: الناصرية والبعثية والإخوانية، والشيوعية.

وكنا قدمنا للكتاب بمدخل عام استعرض تطور العمل الحزبي في سوريا منذ أوائل القرن العشرين حتى بداية المرحلة محل البحث.

وهكذا قام الأخ رجاء بإنجاز ما التزم به، وقمت أنا بتقديم قراءتي لمسار هذه التيارات وأحزابها، وقد أضفنا فصلاً ختامياً للكتاب تناول تجارب العمل الجبهوي في سوريا خلال هذه المرحلة.

الكتاب كان جاهزا للطبع والتوزيع مطلع العام 1986، وتمت طباعة نسخ محدودة منه، تم توزيعها بشكل محدود أيضا، ووقتها حالت ظروف دون إتمام عملية النشر والتوزيع.

ورغم تطورات كثيرة وجوهرية وحاسمة طرأت على الحياة السياسية ” الأحزاب والتيارات” في سوريا منذ ذلك الوقت، لم أجر وأنا أعد هذه الحلقات أي تغيير على ما كان قد أنجز قبل قرابة أربعة عقود، التزاما بالفترة الزمنية التي التزمها البحث في حينه.

 اليوم وعبر المواقع الصديقة أعيد نشر فصول من هذا الكتاب، على حلقات متتابعة تفرضها طبيعة النشر في المواقع الالكترونية.

ولعل في هذا النشر رسالة تحية وتقدير لأخي العزيز المغيب قسريا رجاء الناصر، وهو من قادة المعارضة السورية، وكان حين اختطافه يشغل موقع أمين سر اللجنة المركزية في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي، وأمين السر في هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي في سوريا، متطلعا إلى لقاء به لا يتأخر كثيرا بإذن الله.”

   فصول من كتاب

             ” الأحزاب والقوى السياسية في سورية 1961 ـ 1985″

القسم الأول: الحركة الناصرية

الحلقة الأولى: الحركة الناصرية مقدمة عامة

على إثر انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة في 28 أيلول 1961 حدث رسم جديد للخارطة السياسية، إذ أصبح الانقسام الرئيسي في سورية بين أنصار الوحدة وبين أعدائها.

وظهر التيار الناصري باعتباره التيار الأوسع، والذي قسم في صفوفه كل الطبقات والقوى الشعبية من عمال وفلاحين وطلبة، وكان الناصريون هم أنصار الوحدة والاشتراكية، وفي مواجهة هذا التيار ظهر الانفصاليون الذين جمعهم العداء للوحدة ولعبد الناصر وللتيار الشعبي الناصري، وتحت راية الانفصال وقفت قيادات وأحزاب كانت في الماضي – قبل عهد الوحدة ـ تتصارع حتى الإفناء.  كل الأحزاب اليمينية والفاشية، وحتى التي كانت تطلق الشعارات التقدمية والقومية مثل الحزب الشيوعي أو بعض قيادات حزب البعث اجتمعت وتلاقت وتنافست على معاداة التيار الناصرية.

بدأت الجماهير الناصرية معركتها مع الحركة الانفصالية بنضال عفوي تلقائي وهي تردد شعارات الوحدة وتعلن تمسكها بقيادة جمال عبد الناصر كقائد وزعيم ورئيس. وبدأت جماهير التيار الناصري تنتظم في جماعات ومنظمات جديدة أخذت على عاتقها النضال من أجل إعادة سورية إلى الجمهورية العربية المتحدة، وترتكز على النضال الشعبي، وعلى خلق أوضاع غير مستقرة في الشارع تمثلت بإضرابات متواصلة، وتظاهرات مستمرة، وتوزيع منشورات، وإلقاء متفجرات.

كان الهدف الرئيسي للنضال الشعبي هو تحريض الجيش على التحرك والعمل على تصحيح الجريمة التي اقترفها بعض أبنائه، وفي هذا الاتجاه تحركت معظم المنظمات الناصرية لتكتل وتنظم قواعدها ضمن المؤسسة العسكرية.

   وأهم التنظيمات الناصرية في تلك المرحلة:

 1ـ حركة الوحدويين الاشتراكيين: التي أسسها أعضاء سابقون في حزب البعث العربي الاشتراكي من الجموع التي انسجمت مع عهد الوحدة ومع قرار حل الحزب، والتي أدانت مواقف قياداتها في جريمة الانفصال، والتي اعتبرت أن ولاءها هو للوحدة ولقيادة جمال عبد الناصر.

كانت بنية الحركة الأساسية من العمال والفلاحين والطلاب ومعظم قواعدها من الذين لم يشاركوا في النشاط السياسي قبل عهد الوحدة، ورفعت الحركة شعار (وحدة – اشتراكية – حرية) تأكيدا على أولوية النضال الوحدوي من جهة، وتمييزا عن شعار حزب البعث (وحدة-حرية-اشتراكية) من جهة أخرى، وكان مفهومها الإيديولوجي مزيجاً من الأفكار التي رفعها حزب البعث وعبد الناصر في الاشتراكية والوحدة مع هيمنة قضية إعادة وحدة الجمهورية العربية المتحدة، وكانت ترى أن تصحيح أي أخطاء لا يأتي إلا من داخل الوحدة وبعد إعادتها.

2- حركة القوميين العرب: وهي منظمة وجدت عقب نكبة 1948 ورداً على قيام (إسرائيل) ضمت أصلاً مجموعات من الشباب الفلسطيني القومي، ومعظمهم من طلبة الجامعة الأمريكية في بيروت، وأقيمت الحركة وفق الأسلوب الفاشي، وهي تحمل فكراً قومياً دون بعد اجتماعي محدد، وشعارها ( وحدة- تحرر- ثأر)،  ولاقت هذه المنظمة تأييداً كبيراً من قبل الأجهزة الأمنية خلال عهد الوحدة  في محاولة  لتدعيم نشاطها في الساحات العربية، وتعاظم هذا التأييد في مرحلة الصدام مع البعثيين إثر استقالتهم من وزارة الوحدة واتخاذهم مواقف سلبية من الوحدة ومن قيادة عبدالناصر، وبالمقابل وجدت هذه المنظمة في عبدالناصر القائد القومي الطموح المتصادم مع الإمبريالية والصهيونية، فأعلنت تأييدها الكامل له، وتبنت المقولات الناصرية، ورفعت شعاراً جديداً لها بدلاً من الشعار السابق فأصبح شعارها (وحدة – اشتراكية – تحرر- ديمقراطية)، واعتمدت في بنيتها على العناصر المثقفة والعمالية .

3- الجبهة العربية المتحدة: ( الخماسي الناصري )، وتشكلت أصلاً كتجمع برلماني ضم خمس أعضاء من مجلس النواب المنتخب في عهد الانفصال الرجعي، وهم (نهاد القاسم ، راتب الحسامي، عبد الصمد الفتيح، عبدالوهاب حومد، و علي بوظو )، ولم تتخذ شكل التنظيم السياسي إلا في مرحلة متأخرة، وهي تضم عناصر كانت أصلاً – في عهد ما قبل الوحدة – محسوبة على التيار اليميني خاصة حزب الشعب والحزب الوطني وحزب الإخوان المسلمين* ، واستطاع هذا التنظيم أن يستقطب أعداداً لا بأس بها من الحرفيين وصغار الكسبة والفلاحين وكان شعار الجبهة ( ناصر – وحدة – متحدة ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*من أبرز العناصر القادمة من الإخوان المسلمين “عبد الرحمن عطبة”، وكان عضوا في قيادة الاخوان، وأصبح الرجل الثاني في الانشقاق الذي قاده اللواء محمد الجراح أواخر عام 1967 داخل الاتحاد الاشتراكي العربي، التجأ فيما بعد إلى ليبيا، ثم انتقل للعمل في الخليج.

وإلى جانب هذه التنظيمات وجد العديد من التجمعات على مستوى الأحياء والقرى والمدارس والمعامل التي التفت حول زعامات شعبية وحول بعض الشخصيات المسؤولة في عهد الوحدة التي حافظت على تأييدها للوحدة.

كان الطابع المشترك لكل لهذه التنظيمات أنها مشكلة على أسس جماهيرية غير حزبية، تضم كل منها مجموعات غير متجانسة يربطها هدف واحد هو إعادة سورية إلى الجمهورية العربية المتحدة، وتلتف جميعاً حول قيادة جمال عبد الناصر.

هذه التنظيمات والتجمعات كانت كلها جزءا يسيرا من تيار ناصري عريض يضم غالبية الشعب.

ولم يكن الجيش بعيدا عن الأوضاع الشعبية فقد ضم العديد من التجمعات الناصرية التي امتازت بأنها تجمع أعدادا كبيرة من العسكريين من مختلف الرتب، لكنها كانت متشرذمة ومتعددة تربطها العلاقات الشخصية في كثير من أحيان، وعلاقات معظمها لم تكن متينة وواضحة مع التنظيمات السياسية، وقد استطاعت هذه التجمعات بالتعاون مع مجموعات مغامرة ومع التنظيم البعثي العسكري القيام بحركة الثامن آذار التي نجحت بسهولة بفضل التهيئة الشعبية عبر سلسلة من الإضرابات والتظاهرات التي عمت كافة أنحاء سوريا في الأيام التي سبقت الحركة.

كان التنسيق بين المجموعات التي قامت بحركة الثامن من آذار ضعيفا، والطموحات متعارضة، لكن الاعتقاد العام الذي ساد تلك المرحلة هو أن التيار الوحدوي الجماهيري سيجرف معه كل التناقضات لتعود الوحدة وليتسلم عبد الناصر مهمة إعادة تنظيم المجتمع والحياة السياسية في سوريا، لكن الوحدة لم تعد كما كان مقدرا لها، وبدأت مرحلة جديدة من العمل السياسي سِمتُها انتهاء ذلك الشكل من الحكم الانفصالي مع عدم عودة الوحدة.

وبدأ الصراع المرير والدامي بين الناصريين من جهة والبعثيين من جهة أخرى حول ذات القضية التي دار حولها الصراع في مرحلة الانفصال اليميني، حول قضية الوحدة وعودة سوريا إلى الجمهورية العربية المتحدة، رغم أن طرفي الصراع يحملان الشعارات ذاتها (الحرية والوحدة والاشتراكية).

لن نتحدث كثيرا عن تفصيلات الصراع، وإنما يمكننا القول إن الناصريين فقدوا زمام المبادرة السياسية بعد أن استطاع البعثيون تصفية الجيش من القوى الناصرية بالخديعة والمكر حينا، وعبر حمامات من الدم أحيانا أخرى، وكانت المجزرة الوحشية التي ووجهت بها حركة الثامن عشر من تموز/ يوليو 1963 ـ عندما حاولت مجموعة من العسكريين الناصريين تصحيح مسار ثورة آذارـ أكبر ضربة توجه إلى التيار الناصري، وقد أريد من هذه المجزرة أن تشكل جدار خوف في نفوس الجماهير التي كانت تواصل إضرابا مفتوحا منذ بدايات شهر نيسان، وفعلا استطاعت هذه المجزرة أن تحقق بعضا من أهدافها وخاصة أن الحركة الناصرية التي اعتمدت على الجيش لتحقيق التغيير، وكانت تنظر الى الجماهير باعتبارها أداة ضغط وتحريض لا أكثر، وظهر النضال الشعبي بعد تصفية الجيش وكأنه بلا جدوى، فالقوات المسلحة أصبحت تحت السيطرة الفعلية للبعث، وآمال التحرك العسكري المضاد أصبحت محدودة*

بعد فشل التوجه الوحدوي لحركة الثامن من آذار، ولمواجهة الإحباط الناجم عن هذا الفشل، توجهت قيادات التنظيمات الناصرية لتوحيد صفوفها، وأعلنت في الذكرى الأولى لحركة 18 تموز 1963 عن إقامة تنظيم ناصري موحد في سوريا، وأطلق على هذا التنظيم الموحد اسم (الاتحاد الاشتراكي العربي في الإقليم السوري)، وذلك على غرار الاسم الذي يحمله التنظيم السياسي الوحيد في الجمهورية العربية المتحدة، وضم الاتحاد كل التنظيمات الناصرية الرئيسية وهي:

ـ حركة الوحدويين الاشتراكيين

ـحركة القوميين العرب ـ فرع سوريا

3ـ الجبهة العربية المتحدة (الخماسي الناصري)

4ـ الاتحاد الاشتراكي

5ـ أنصار الميثاق.

6ـ إضافة إلى الشخصيات الناصرية البارزة من أمثال العقيد جاسم علوان، وجادو عز الدين، وأكرم ديري وغيرهم.

ولكن الاتحاد الاشتراكي الوليد بقي مجرد حلف لمجموعة من التنظيمات سرعان ما انفصلت الواحدة تلو الأخرى.

فالوحدويون الاشتراكيون انسحبوا عام 1965، وذلك نتيجة سعيهم للتحالف مع حزب البعث تحت دعوى ” دفع البعث إلى مواقع وحدوية”، و” النضال من داخل السلطة”.

والقوميون العرب انسحبوا عام 1966 مع بداية انسلاخ الحركة عن التيار الناصري، واقترابها من الفكر الماركسي ـ اللينيني، وبعد أن تطور فرع الحركة الرئيسي الى منظمة مقاومة فلسطينية باسم” الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” تحول الفرع السوري للحركة الى حزب العمال الشيوعي الذي تلاشى فيما بعد.

لكن هذه الانسحابات لم تؤثر كثيرا على تنظيم الاتحاد الاشتراكي إذ أن معظم قواعد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* سرح أكثر من أربعة الاف ضابط ناصري في الفترة الواقعة بين الأول من نيسان وحتى نهاية تموز 1963.

تلك المنظمات بقيت ضمن صفوف الاتحاد الاشتراكي لاقتناعها بأن الاتحاد يمثل الصيغة التنظيمية الناصرية السليمة.

وكان التطور الآخر في الحركة الناصرية هو تبني شعار ” الثورة الشعبية” في محاولة للتغلب على الإحباط الناجم عن عدم القدرة على التأثير في الجيش، وتحدثت نشرات

الاتحاد عن الثورة الشعبية لمفهوم ثوري للتغيير، لكن هذا التطور كان شكليا ولفظيا، حيث لم تقم قيادة الاتحاد بأي خطوة إيجابية في هذا الاتجاه.

وظهرت بين عامي 1965 ـ 1966 مجموعة من المنظمات شبه العسكرية مثل (حركة طلائع التحرير بقيادة العقيد عبد الحميد السراج*، وهي منظمة سياسية شعبية تعتمد أسلوب الكفاح المسلح، وطليعة الاشتراكيين العرب التي شكلها المناضل

الشهيد طعمة العودة الله**. وهي تدعو أيضا للعمل الشعبي المسلح، واستطاعت هذه المنظمة أن تجند آلاف الشباب الناصري وتحضير بعضهم للعمليات المسلحة.

 ولكنها عانت من التشرذم والاضمحلال بعد اغتيال مؤسسها في القاهرة على يد شاب سوري***.

وكانت القيادات الناصرية ومعها الجماهير تنتظر معجزة من عبد الناصر يقوم خلالها بترتيب أوضاع تعيد الوحدة، واستمرت أوضاع الحركة الناصرية على هذه الحال واقتصر دورها على المشاغبة وتوزيع المنشورات، والقيام بتظاهرات خاطفة حتى المرحلة التي سبقت حرب الخامس من حزيران 1967 هذه المرحلة التي قابلها الناصريون بالعمل على تهيئة مناخ ملائم للمعركة والدفع بالنظام السوري ليخوض الحرب ضد الكيان الصهيوني إلى جانب عبد الناصر نتيجة للاعتقاد بأن هذه الحرب هي حرب الثورة العربية بقيادة ناصر، وأن نتيجتها ستوثر بلا شك على مصير الثورة العربية ومصير الوحدة ذاتها وأن انتصار عبد الناصر في هذه المعركة سيعيد الوحدة بشكل تلقائي لأن جيوش عبد الناصر المنتصرة لن تتوقف عند حدود تل ابيب، ولكن قبل تبلور المنهج السياسي الجديد للحركة الناصرية في الإقليم السوري وقعت حرب الخامس من حزيران بنتائجها المعروفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*من أبرز القيادات العسكرية القومية قبل الوحدة، وكان رئيسا للمكتب الثاني في سوريا، ثم أصبح نائبا رئيس الجمهورية العربية المتحدة.

**ضابط سوري بارز كان من القوميين المساهمين في تحقيق الوحدة 1958، وأصبح وزيرا في عهد الوحدة، ومن ثم لاجئا سياسيا في القاهرة منذ وقوع الانفصال وحتى وفاته.

*** لم تعرف الأسباب الحقيقية لعملية الاغتيال، وقيل إنها تمت لأسباب شخصية.

كانت نتيجة الحرب قد غيرت من أولويات النضال العربي حيث قفز إلى مقدمة هذه الأولويات هدف إزالة آثار العدوان، هذا الهدف الذي وضع الناصريين في سوريا أمام مهمة جديدة تتطلب تحركا من نوع آخر، فالنضال الوحدوي خفت حدته، وبدأت

الأنظار تتجه نحو الحرب، نحو المقاومة والصمود، وأمام هذه المهمة ظهر في التيار الناصري اتجاهان:

الأول: يصر على استمرار النهج السابق، ويعتبر أن حرب حزيران أكدت المعطيات السابقة التي ترى في النضال الوحدوي الطريق السليم للانتصار على العدو الصهيوني، فالدولة العربية المركزية هي وحدها القادرة على حشد إمكانات الأمة العربية ودفعها الى معركة ناجحة في مواجهة الصهيونية المرتبطة بالإمبريالية العالمية.

الثاني: طرح شعار تحقيق الوحدة الوطنية عبر إقامة جبهة وطنية تقدمية تضم كل القوى القادرة على المساعدة في سبيل المعركة، وحشد كافة الإمكانات لقتال العدو الصهيوني، وأن المعركة مع العدو الخارجي قد تشكل مدخلا ملائما للوحدة العربية.

وفي هذه المرحلة أوقفت الجمهورية العربية المتحدة تعاونها المباشر مع التنظيمات الناصرية حتى لا تسيء لعلاقاتها مع الحكومات العربية، وقد ساعد هذا الموقف أصحاب الاتجاه الثاني الذي أخذ ينادي بإقامة جبهة وطنية تقدمية تشارك حزب البعث في السلطة وتدفع بالجميع للتحضير للمعركة القادمة وتأمين الجبهة الداخلية.

وعلى الصعيد العقائدي بدأت تطرح بوضوح الاشتراكية العلمية، والمسألة الحزبية، وفكرة تعدد الأحزاب ضمن جبهة عريضة بدلا من حكم الحزب الواحد، ومقولة أن تحالف قوى الشعب العامل يمكن التعبير عنها من خلال تحالف التنظيمات التقدمية، لكن سلطة البعث الحاكم لم تتجاوب مع هذا التوجه الجديد للحركة الناصرية، وزادت من سياستها القمعية التي طالت عددا كبيرا من القيادات والكوادر الناصرية.

ومن جهة أخرى أعلنت حركة القوميين العرب تجاوزها للفكر الناصري، وتخليها النهائي عن الارتباط الفكري والسياسي مع الناصرية، وبشكل عام ظهرت في هذه المرحلة ـ مرحلة ما بعد النكسة ـ معطيات جديدة أمام الحركة الناصرية تجسدت في التالي:

1ـ بروز قوى وحركات تدعي لنفسها حق تجاوز قيادة جمال عبد الناصر، وقد ساعدتها أجواء النكسة على شيء من الانتشار، ومن أبرز هذه القوى حركة المقاومة الفلسطينية، وبعض القوى الماركسية الجديدة.

2ـ ظهور أولويات جديدة في النضال العربي، يتقدمها إزالة آثار العدوان، وهبوط هدف الوحدة الى مرحلة تالية تأثرا بأجواء الهزيمة التي اعتبرت هزيمة لحركة القومية العربية.

3ـ نمو ساحة الإشكالات والاختلافات ضمن التيار الناصري في بعض المسائل الفكرية، وفي العديد من قضايا التنظيم والسياسة وذلك نتيجة عاملين اثنين:

الأول: اجتياز التيار الناصري لمرحلة رد الفعل التلقائي على حدث الانفصال، والانصراف جزئيا لدراسة المسائل العقائدية والسياسية التي أظهرت تأثير خلفيات قيادات التيار الناصري بسبب طبيعة انتماءاتها السابقة والمتعددة فكريا.

الثاني: الشعور بالعجز والإحباط نتيجة عدم الامكانية على تحقيق انتصارات سريعة وافتقاد الرؤية الاستراتيجية لطبيعة الصراع الذي يخوضه التيار الناصري.

4ـ خمود تأثير ودور الشارع الجماهيري الناصري على الحياة السياسية في الإقليم.

وفي نهاية هذه المرحلة حدث انتعاش جزئي للحركة الناصرية إبان المحادثات الوحدوية بين جمال عبد الناصر ومعمر القذافي ونور الدين الأتاسي إثر فشل القمة العربية في الرباط 1969، وكان لمشروع الاتفاق الوحدوي أثر هام حيث تم أول اتفاق بين البعثيين والناصريين ممثلين بالاتحاد الاشتراكي العربي ـ جناح جمال الأتاسي أكبر المنظمات الناصرية وأهمها آنذاك، ونجم عن هذا الاتفاق محاولة تنسيق مشترك في الانتخابات المحلية لنقابات المعلمين والعمال، لكن هذا التنسيق فشل بعد ذلك بسبب عدم موافقة القوى الفعلية في السلطة السورية عليه، وتحول هذا الاتفاق إلى عداء علني مرة أخرى مع قبول عبد الناصر مبادرة روجرز، وانعكس هذا العداء على العلاقة بين البعث والناصريين، لكن الانتخابات النقابية رغم نتائجها أظهرت محافظة الحركة الناصرية على جزء كبير من قوتها الجماهيرية.

ثم كانت وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28 / 9 / 1970، وخرجت الجموع الناصرية في كافة المدن والقرى السورية لوداع قائدها، وأظهرت هذه التظاهرات مدى شعبية التيار الناصري في سوريا، فقد خرجت هذه الجماهير بعد فترة انقطاع طويلة، ولم يكن هذا الخروج مجرد تعبير عن الوفاء للقائد الراحل، وإنما بدا وكأن هذه الجماهير تريد مرة أخرى إثبات وجودها وإصرارها على التأثير في مستقبل الحياة السياسية.

ومع الإعلان عن قيام الحركة التصحيحية ضمن السلطة الحاكمة في سوريا ـ بعد قليل من وفاة عبد الناصرـ وإذاعة بيان القيادة القطرية المؤقتة الذي تضمن “إدانة كاملة للعقلية الانتهازية المناورة والمتسلطة التي تسلطت على الحزب والجماهير”، تحرك الشارع الناصري ليلعب دورا بارزا في الوضع السياسي، وليخلق أجواء لو أحسن الاستفادة منها لاستطاع هذا التيار أن يحدث بعض المتغيرات في الوضع السياسي العام لا في سوريا وحسب وإنما في المنطقة العربية كلها.

فقد نزلت الجماهير الناصرية الى الشارع بشعاراتها الوحدوية لتعزل وتمنع أي تحرك بعثي مضاد للحركة الجديدة، والتفت حول الجناح الرئيسي للاتحاد الاشتراكي العربي لتعطيه القوة الكافية للقيام بدور سياسي فعال، لكن قيادات الاتحاد الاشتراكي لم تكن مهيأة للقيام بهذا الدور المطلوب فمرة أخرى عالجت مرحلة شديدة الحساسية بعقلية ميكانيكية وذاتية، وكانت حركة حافظ الأسد تقف جماهيريا شبه وحيدة،  فقواعد الحزب كلها وقفت ضد الحركة، والشيوعيون تخوفوا من ظهور العسكر بشكل مباشر على واجهة العمل السياسي، واليمين كان اضعف من أن يؤثر بسرعة في الأحداث بينما بدت قوة الجماهير الناصرية  بشكل غير متصور، وكانت القوة الوحيدة التي بإمكانها تأمين التغطية السياسية والجماهيرية للحركة التصحيحية، لكن قيادة الاتحاد الاشتراكي لم تستطع الاستفادة من هذه القوة الضاغطة، وأغفلتها من حركتها السياسية، وتقدمت للتعاون مع السلطة الجديدة وفق الأسس التي حددتها لها ووفق تمنيات وتصورات أوحت بها إليها، وعلى طريق التعاون كشفت كل اوراقها، وكل مناضليها، وأجرت تصفيات لأي صوت معارض لإرادتها داخل الاتحاد، وانحصر مركز القرار السياسي بيد فرد فيها.

كان تخطيط قيادات الاتحاد يقوم على فكرة “تعويم قيادة حافظ الأسد”، وفصلها تدريجيا عن حزب البعث، وعن مرتكزات السلطة السابقة في الحزب والجيش والطائفة، وضم التيارات السياسية التقدمية الثلاثة (الناصريون، البعث، الشيوعيون) ضمن حركة عربية واحدة عبر مسيرة جبهوية، ودفع النظام بمجمله للسير وفق منهج تقدمي وحدوي يشكل نموذجا جديدا للوحدة الوطنية بحيث يكون نموذجا رائدا على المستوى القومي كله.

كانت الآمال كبيرة، والتخيلات أكبر، لكنها لم تكن علمية أو منهجية، وكان التحرك باتجاهها غير واضح على الاطلاق، فقد تمكنت حركة الأسد من استعادة الحزب إليها، وبدا التصادم واضحا بين شعارات الانفتاح السابقة وممارسة أجهزة النظام ومؤسساته.

في الشارع كان الرفض لفكرة التعاون والانفتاح ، وعلى مستوى القيادة كانت الوعود والتمنيات، وعلى ضوء ممارسات أجهزة السلطة تصاعد التوجس والحذر لدى جماهير التيار الناصري، وقواعد الاتحاد الاشتراكي، أما قيادة الاتحاد فقد استمرت في سياسة التعاون غير المشروط وغير المتكافئ مع السلطة، ومارست تلك القيادات خديعة كبرى على الجماهير من خلال الايحاءات الضمنية بأن حافظ الأسد شيء وقيادة البعث شيء آخر، لكن الجماهير الناصرية لم تركن طويلا لهذه الخدعة،  وحدث التصادم الرئيسي بين الجماهير وقياداتها، فعادت الجماهير الى مواقعها وانكفأت على نفسها، وازداد لديها  الشعور العام بالإحباط وهي ترى قياداتها تستسلم دون مبرر لحزب البعث وتتخلى عنها، ولم يشفع لهذه القيادات ـ وبصورة أدق  لبعضها ـ عودتها لاحقا عن مواقع التعاون مع السلطة، لأنها كانت قد اضاعت فرصة تاريخية لا تعوض.

خرج جناح الأتاسي من الجبهة الوطنية التقدمية التي أنشأها النظام السوري مثخنا بالجراح، وانغلق على نفسه في عملية كمون طويلة استمرت لفترة أطول مما هو مقدر لها، وانشقت عن الاتحاد فصائل ارتضت البقاء على هامش السلطة وفي مواقع التبعية، بينما اضمحل الجناح اليميني الذي يقوده العقيد السابق محمد الجراح بسبب انغلاقه، وبسبب بنيته المعتمدة على العلاقات الشخصية وتعرضه لعملية تفسخ وانحلال.

لقد كان فشل نهج الاتحاد الاشتراكي هذه المرة أكثر قساوة لأنه جاء دون أن يطرح بديلا له، وترك الفكر السياسي الناصري في حلقة مفرغة.

في مراحل النضال الناصري الأولى ساد مفهوم التحرك “الانقلابي العسكري”، الذي استبدل لاحقا بمفهوم “الثورة الشعبية”، ثم استبدل به مفهوم الحركة السياسية والتغيير من خلال الحوار أي “العمل الجبهوي”، ثم أعلن عن فشل المنهج الأخير دون تحديد أي استراتيجية للمستقبل.

ونتيجة كل ذلك خسر الاتحاد مكانته وبريقه لدى الجماهير، وكذلك الحركة الناصرية، وانعدم تأثيره فيها.

ولم يكن انقسام المجموعة التي أعلنت التزامها بالجبهة الوطنية التقدمية هو الانقسام الوحيد في الاتحاد، فقد شهد الاتحاد قبل ذلك وبعده سلسلة من الانقسامات، وتكونت العديد من الأجنحة، ولكن هذه التنظيمات والأجنحة بقيت كلها على هامش التيار الناصري.

وحينما تفجر الصراع الطائفي بين السلطة الحاكمة وبين الأخوان المسلمين كانت خريطة العمل السياسي افي التيار الناصري تتكون من:

1ـ حزب الاتحاد الاشتراكي ـ جناح جمال الأتاسي ـ الذي عاد للحركة السياسية السرية.

2ـ التنظيم الشعبي الناصري ـ وهو التنظيم الوليد الذي تبنى مقولات الحفاظ على الناصرية والتحالف الوطني عبر التمايز العقائدي.

3ـ حزب الوحدويين الاشتراكيين ـ بقيادة فائز إسماعيل*ـ وهو من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية.

4ـ حركة الوحدويين الاشتراكيين الديموقراطيين ـ بقيادة أحمد الأسعد.

5ـ حزب الاتحاد الاشتراكي العربي جناح فوزي الكيالي، والذي انقسم الى ثلاث تنظيمات كلها ممثلة في الجبهة الوطنية التقدمية، وهي:

ـ الاتحاد الاشتراكي العربي ـ جناح “اسماعيل القاضي”.

ـ الاتحاد الاشتراكي العربي ـ جناح “صفوان القدسي”.

ـ الحزب التقدمي الناصري ـ جناح “يوسف جعيداني”.

6ـ حركة الحوار العربي.

7ـ حركة الأنصار.

_____________________________________________

*فائز إسماعيل من العناصر القومية المؤيدة لزكي الأرسوزي، لجأ إلى سوريا بعد اقتطاع لواء الاسكندرونة، ومن العناصر المؤسسة لحزب البعث، درس في دمشق وبغداد، وعمل معلما في مدينة حلب، أصبح عضوا في الجبهة الوطنية التقديمة منذ تأسيسها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى