عندما لم يعد نقد إسرائيل محرّماً لدى اليمين الأميركي

طارق النعيمات

لطالما اشتكى الرئيس الأميركي ترامب من عدم نيله جائزة نوبل للسلام “لو كنت أوباما لنلتها بعشر ثوان”، أو “أوباما لا يستحقّها… ومن الظلم أن ينالها”. وتكون شكواه في لحظات انقلاب مزاجه: “نوبل… آه لن أنالها… مهما فعلت”. هذا في العلن. وفي الكواليس، فجيش المتملّقين حوله (ابنه طبعاً دونالد جونيور) الذين اختارهم على أساس “الوفاء” له، من نواب ووزراء ومستشارين ومبعوثين إعلاميين، يهتفون بالجائزة لترامب، ويعلنون رفضهم هذا “الظلم”، بعدم منحها له. اثنان رشّحاه من خارج الولايات المتحدة، من بين المعروفين على الأقلّ، الأول نائب أوكراني (أوليكساندر ميريجكو)، تراجع بعد سنة عن اقتراحه بعدما تبيّن له أن ترامب لا القوة عنده ولا النيّة لإرساء السلام في أوكرانيا. والثاني مكتب رئيس الوزراء الباكستاني بعد تدخّل ترامب في “حلّ” النزاع بين الهند وباكستان.

ماذا فعل ترامب ليستحق “نوبل للسلام”؟… داخل الولايات المتحدة نفسها، أفلتَ الأمنَ ذا الأقنعة في الشوارع بذريعة محاربة المهاجرين، وأعاد فتح معسكر غوانتنامو سيئ السمعة، وفرض “ميزانيةً واحدةً كبيرةً وجميلةً” تدمّر خدمات الدولة الصحّية والتعليمية، وأفرغ إدارات الدولة من خبرائها وموظّفيها، وسحب كلّ تمويل رسمي خاصّ بأزمة المناخ والكوارث التي تتسبّب بها، وأغلق أبواب أميركا على اقتصاد العالم. أفقرها، أضعفها… لائحة “سلمية” ترامب مع شعبه تطول؛ كلّ يوم بند جديد يُضاف إلى بنود تحويل الولايات المتحدة جمهوريةَ موز، تهدر بها الحرب الأهلية. إليكَ أغرب هذه البنود، ذاك القاموس الذي باتَ مُعتمَداً في الوثائق والمواقع الحكومية وفي البرامج المدرسية، وقد حُذِف منه حوالي مائة كلمة. ومن بين هذه الكلمات: عنصرية، تنوّع، أقليات، نسوية، تلوّث، أزمة مناخ، تمييز، عدالة، اضطهاد، صحّة نفسية، مساواة… أي أن ترامب يمشي بهداية رواية جورج أورويل “1984”، التي تصف إلغاء الكلمات بصفتها فاتحةً طريقاً نحو التسلّط.

أمّا خارج الولايات المتحدة، فـ”الإنجازات” أكبر. أطلق ترامب تهديدات باحتلال كندا المجاورة وجزيرة غرينلاند البعيدة، وفرض رسوماً جمركية ضيّقت الخناق على مواطني الكوكب الأرضي كلّه، وأطلق وعداً بحلّ حربَي أوكرانيا وغزّة. في الأولى خدعه “صديقه” فلاديمير بوتين، واشتدّت الحرب، وأخرجت أوروبا من استقرارها، وزادت من ميزانيّاتها العسكرية. وفي الثانية، غزّة، ما زال ترامب يدور حول نفسه. هذه ملامح أوّلية لشخصية عالمية تعاني عقدة نقص جائزة نوبل للسلام. الآن، هل يحقّ لنتنياهو أن يسمّي مرشّحاً لجائزة سلام، في عشاء تفاوضي علني، رسمي، وبشيء من البروتوكولية، مثل مغلّف ومصافحة وكلمة قصيرة وتشكّرات؟

أطلق ترامب تهديدات باحتلال كندا المجاورة وجزيرة غرينلاند البعيدة، وفرض رسوماً جمركية ضيّقت الخناق على مواطني الكوكب الأرضي كلّه

قبل التسمية هذه، كان نتنياهو ينشط كثيراً في مجال المديح لترامب: “ملتزم بأمن الشرق الأوسط وسلامه”. هو الذي انسحب من الاتفاق النووي مع إيران، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، ورفع العقوبات عن بعض المستوطنين، ومارس أقصى الضغط على إيران، فيستجيب ترامب للغزل، ومن علاماته أنه يدعو المحكمة الإسرائيلية المشرفة على محاكمة نتنياهو بتهم الفساد إلى إلغاء كلّ شيء، التهم والمحاكمة… إلخ. ويحضر نتنياهو إلى أميركا، وتحصل واقعة العشاء وترشيح نتنياهو ترامب لجائزة نوبل للسلام. صاحب “الحرب الخالدة” بالقتل والتجويع والترحيل، المطلوب بمذكّرة جلب دولية بسبب جرائمه، القائد الذي لن يبقى في منصبه لو أوقف الحرب، هذا الرجل الذي يبغض السلام، يرشّح ترامب لجائزة سلام. ماذا يريد نتنياهو من ترامب؟… أن يمنحه الأخير المزيد من الوقت للقتل، أي عكس السلام، فيوافق ترامب، ويضغط على نفسه، ويستمرّ القتل، فيعود نتنياهو إلى إسرائيل مزهواً بأنه ما زال مسموحاً قتل أهل غزّة، وأن يعده بحرب مقبلة على إيران، وقد يفعل أو لا يفعل.

فتحت “سابقة” نتنياهو الطريق أمام جمهرة من المتكلّمين عن “نوبل” وترامب، وفي طليعتهم خمسة رؤساء بلاد أفريقية: الغابون والسنغال وموريتانيا وغينيا بيساو وليبيريا. يظهرون مع ترامب في مكتبه، بمؤتمر صحافي مشترك. في بدايته، تبرز صحافية أنغولية، هي هاريانا فيراس، تسأل رؤساء هذه الدول إن كانوا ينوون ترشيح ترامب لجائزة نوبل، فنسمع “نعم”، وأشعار مديح. ولكن “الصفقة” التي جاءوا من أجلها تستحقّ هذا كلّه. يقول ترامب عنها: “كانت اليو إس إيد بيننا، والآن ننتقل مباشرة الى التجارة. التجارة هي القاعدة التي اعتمدتُ عليها دائما لحلّ خلافات كثيرة”، أي تحقيق “السلام”. ماذا يقصد؟

إن ربح ترامب “نوبل للسلام” تسقط الجائزة معنوياً، وإذا خسرها، تكون المرّة الرابعة، ولا ييأس

الـ”يو إس إيد” برنامج مساعدات أميركية خارجية تحصل القارّة الأفريقية على نصفه تقريباً، تشمل مجالات الصحّة واللاجئين والكوارث الطبيعية والنزاعات المسلّحة والتنمية الاقتصادية والأمن الغذائي والمياه النظيفة والتعليم والبنى التحتية وحقوق الإنسان والفساد وحماية النساء، والوقف المفاجئ لهذه الأنشطة بمرسوم من ترامب يهدّد أوجه الحياة في بلدان هذه القارّة. أمّا “الصفقة” بين هؤلاء الرؤساء الأفارقة وترامب، فهي أن يحلّوا مشكلة حرمانهم المفاجئ من هذه البرامج الحيوية، بالأموال. بالملاليم التي سيقبضونها من شرائه موارد بلادهم بأبخس الأثمان، من أراضٍ ومعادنَ نادرةٍ واحتياطات النفط. ويسمّيها “تجارة”.

“أنشودة نوبل ترامب” أخذت طريقها إلى البروتوكول الرسمي الترامبي، كلّ من أراد حفظ رأسه عليه الانضمام إليها. وهذا البروتوكول دشّنه نتنياهو رسمياً ودولياً. والفكرة سوف تنتشر بين مؤيّد ومعارض لمنح الجائزة لترامب. وفي الخريف المقبل ستتجه الأنظار كلّها نحو ستوكهولم، فإمّا يربحها أو لا. إذا ربحها، تسقط الجائزة معنوياً، وتتسبّب بسجال عن معنى السلام والحرب والفقر والاستبداد والاحتلال والأخلاق والمعايير والقيم وبلاطات الملوك. وربّما يكون سجالاً إيجابياً، ينفض الغبار عن الكلمات، وإذا خسرها، تكون المرّة الرابعة، ولا ييأس. فكما أسّس موقعه الاجتماعي “سوشال تروث”، يمكنه أن يؤسّس جائزة سلام خاصّة به يمنحها لنفسه كلّ سنة، كلّ لحظة، تفجيراً لغروره.

المصدر: العربي الجدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى