
منذ أكثر من عقد، نعيش نحن الفلسطينيين السوريين بين الأمل والذعر، لا لأننا فقط ننتظر العدالة، بل لأننا أصبحنا غرباء حتى عن قوائم الضحايا.
في زمن تُفتح فيه ملفات الإخفاء القسري داخل سوريا، ما يزال أكثر من 6000 فلسطيني سوري مختفٍ بلا اسم، بلا صورة، بلا صوت في مشهد العدالة الانتقالية، وكأنهم ضريبة إضافية للنكبة واللجوء، لا أكثر.
شاركت مؤخراً بفعالية أقيمت في قصر الأمم المتحدة ضمن أنشطة مجلس حقوق الإنسان بمدينة جنيف، وكانت الفعالية بتنظيم مشترك بين “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا” و”مركز العودة الفلسطيني”.
خُصّصت الفعالية لمناقشة ملف الاختفاء القسري في سوريا، وكانت تحت عنوان: “الاختفاء القسري في سوريا: تحديات العدالة الانتقالية“، لكن لم أكن هناك فقط كمتحدث أو باحث، كنت هناك كأخ لمعتقل، كقريب لأربعة مختفين، كجارٍ لأمهاتٍ لم يسلمن صور أولادهن لأحد، لأنّ لا أحد سأل.
افتتحت كلمتي بشكر “مركز العودة”، ليس مجاملة، بل لأنّه كان أوّل مَن منحنا، نحن المنكوبين الصامتين في مخيمات اللجوء بسوريا، منصة لنقول: “نحن هنا، من رحم هذا الدعم، وُلدت (مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا)، التي رافقت الضحايا، منذ العام 2012، ووثّقت أسماءهم، أصواتهم، صورهم، وحتى صمتهم”.
قصتي ليست استثناءً: اعتُقل أحد إخوتي، اختفى زوج شقيقة زوجتي وشقيقتها منذ أكثر من عشر سنوات، فُقد ثلاثة من أبناء خالاتي في ظروف غامضة، عشرات من أصدقائي وجيراني في مخيم سبينة اعتُقلوا واختفوا بعدها بلا أثر.
في مداخلتي حاولت أن أوازن بين الألم الشخصي والمعطيات العامة.. نعم، قصتي خاصة، لكن المأساة جماعية، مجموعة العمل وثّقت أكثر من 6000 حالة اختفاء قسري لفلسطينيين سوريين، الرقم وحده لا يقول كل شيء، لكنه كافٍ ليطرح سؤالاً: لماذا هذا الغياب شبه التام عن الإعلام والمنظمات الدولية؟
الفلسطيني في سوريا يقع في منطقة رمادية قانونياً، فلا هو لاجئ يتمتع بالحماية الدولية الكاملة، ولا هو مواطن سوري يملك حقوق التقاضي والتمثيل، هذه الهشاشة القانونية جعلت من الفلسطيني فريسة سهلة إذ لا يعترف به أحد رسمياً، والمجتمع الدولي لا يسمع إلّا الصراخ المرتفع.
لكن المشكلة ليست قانونية فقط، بل سياسية بامتياز، فمنذ بداية الحرب في سوريا، تم تجاهل معاناة الفلسطينيين، من نظام المخلوع، ومن المعارضة السورية، وحتى من الفصائل الفلسطينية، ولم يظهر الفلسطينيون في أي مسار من مسارات العدالة الانتقالية، لم يُدْعوا للجان، ولم يُشركوا في التوثيق.. “كأننا لسنا من لحم ودم، بل مجرد بند إضافي على الهامش”.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى غياب التمثيل الحقيقي، ففي كل الاجتماعات الدولية حول المعتقلين، وفي كل المحافل السياسية، لا تجد مَن يتحدث باسم الفلسطينيين المختفين، رغم أن بعضهم معتقل، منذ العام 2011، وبعضهم مات تحت التعذيب ولم تُسلَّم جثته إلى اليوم.
رغم كل هذا، لم ننتظر من أحد أن يمنّ علينا بالعدالة، مجموعة العمل أطلقت أرشيفاً مفتوحاً، تواصلت مع مئات العائلات، ودعمت الحملة الفلسطينية للكشف عن مصير المعتقلين والمختفين قسراً، وهي اليوم منصة تنسيق بين منظمات المجتمع المدني وصحفيين وحقوقيين وناشطين وذوي الضحايا.
وأيدينا كانت وما تزال وستبقى ممدودة إلى كل جهد تنسيقي مشترك وتعاون، لذلك نرحّب بانطلاق الهيئة الوطنية السورية للمفقودين والمغيبين قسراً، وقبلها المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في الجمهورية العربية السورية، على أمل أن تكون بداية حقيقية لشراكة (فلسطينية، سورية، دولية) في هذا الملف.
في كلمتي، قدّمت خمس توصيات أساسية، ما زلت أراها مدخلاً ضرورياً للعدالة:
- دمج ملف الفلسطينيين المختفين في كل مسارات العدالة الانتقالية السورية.
- اعتبار الجرائم بحقهم جرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.
- إشراك المجتمع المدني الفلسطيني السوري في اللجان الحقوقية والآليات الدولية.
- مطالبة الأونروا والمفوضية بتحمل مسؤولياتهم تجاه هذا الملف.
- إشراك ممثلين فلسطينيين في التحقيقات والتوثيق وصياغة مستقبل العدالة.
قد يقول البعض إنّ هذه المطالب محقة ولا تحتاج حتى المطالبة بها، لكن أقول: “لم نطالب سنُنسى، وإن سكتنا سنُحوّل إلى مجرد رقم في هامش تقرير أو فقرة سريعة في نشرة أخبار”.
حين أنهيت كلمتي في جنيف قلت: “حين نتحدث عن الاختفاء القسري، فنحن لا نتحدث فقط عن أشخاص مغيّبين، بل عن ذاكرة مغتصبة، عن عائلات تعيش بين الأمل والذعر، عن حياة معلّقة”.
الفلسطينيون السوريون ليسوا ملفاً إنسانياً فحسب، بل اختبار لضمير العالم، فإذا كانت العدالة الانتقالية في سوريا ستُبنى فعلاً، فعليها أن تبدأ من أولئك الذين لم تُذكر أسماؤهم بعد، نحن لا نريد أن نُعامل كاستثناء.. بل كضحايا نستحق أن يُسأل عنّا، وأن نُذكَر، وأن نُنصَف.
المصدر: تلفزيون سوريا