الأقليات.. والخوف من الفناء

مهند الكاطع

عندما التقيت الأستاذ ماهر شرف الدين في دمشق، على هامش مؤتمر الحوار الوطني، بحضور الأستاذ غسان ياسين، بدأ حديثه مباشرة بشتم الشيخ الهجري مستخدماً ألفاظاً صادمة – لم أكن أتوقع أن تصدر من شخص يُفترض به أن ينتمي إلى طيف “نخبوي” أو “مثقف”.

قال حرفياً: “ك… أم الهجري، ابن الكذا، وأخو الكذا… العميل، الـ…”، ولم يترك شتيمة أو وصفاً سوقياً إلا وذكره، متهماً إياه بتعطيل التوافق مع الدولة السورية..الخ.

لاحقاً، وأنا أسترجع مواقف الأستاذ ماهر من النظام البائد، ومواقفه المتجددة حالياً والنفس الطائفي فيها ، بدا لي أنه يتجاوز مجرد الانفعال الشخصي. هناك ما هو أعمق وأكثر تعقيداً مما يظهر على السطح:

إنه العامل النفسي الخفي الذي يحكم سلوك كثير من الأقليات في لحظات التوتر… الخوف من الفناء.

الخوف من الفناء (Existential Threat)

هذا الخوف ليس جديداً ولا محصوراً بسياق محلي، بل هو ظاهرة نفسية متكررة عبر التاريخ وفي كل المجتمعات المتنوعة التي تضم أقليات.

هو خوف دفين، لا واعٍ، متجذر في ذاكرة جمعية متخمة بمآسٍ حقيقية أو متخيلة: من الإبادة، التهجير، الاضطهاد، وصولاً إلى طمس الهوية.

حتى لو لم يكن هذا الخطر راهناً أو حقيقياً، فإن الأقلية تتعامل معه كأنه شبح حاضر دائماً، متربص، ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض، شبح يمكن أن يكون برداء قومي، وربما يكون بمظهر وعباءة دينية، شبح يتضخم وتبرز له أسنان دموية وقت الأزمات.

هذا الشعور يخلق سلسلة من السلوكيات والديناميات منها :

  • تقوقع الأقلية على ذاتها والاقليات الأخرى التي تشاركها المخاوف او الغايات
  • الحساسية المفرطة من أي نقد داخلي
  • الارتهان لخطابات متطرفة داخل الجماعة
  • شيطنة المجتمع الأكبر، حتى عندما لا يكون معادياً ولا تاريخ له بهذا العداء المتخيّل!

عندما يكون المتطرف هو “المنقذ”

في هذا السياق النفسي، كلما اشتد الخوف، زادت حاجة الأقلية إلى متطرفيها.

فتراهم يعوّلون على أكثر الشخصيات غلواً، حتى لو كانت سبباً في أذيتهم في فترات سابقة، لأن هذه الشخصيات توفر لهم وهم “الأمان” و”الحماية” من الفناء، ويتجنبون كذلك انتقادها حتى لو كانت لديهم قناعة بأن ممارسات هذه الشخصية مؤذية لهم وسبب ربما في هذا الفناء الذي يخشونه، فهناك تشويش وتضارب بين الوعي واللاوعي يمنعهم من اتخاذ المواقف بشكل مباشر وصريح وشجاع.

ويصل الأمر أحياناً إلى التحالف مع أعداء صريحين، فقط لأنهم يقدّمون خطاباً يُشعر الأقلية بأنها “مرئية” أو “مهمة” أو أكثر أمناً بوجودهم.

هكذا نفهم:

  • لماذا يصطف مثقفون وعلمانيون من الأقليات خلف رجال دين متطرفين مثل الهجري
  • ولماذا يدافع أكراد متضررون من قنديل عنها اليوم، بالرغم من معرفتهم بفسادها وبطشها بهم قبل غيرهم! وتحالفها العضوي والتاريخي مع النظام البائد ضدهم.

إنه الخوف من الفناء، لا القناعة.

الصمت… والازدواجية

الأكثر خطورة هو أن هذا الخوف يُربك حتى المثقفين والعلمانيين والديمقراطيين من أبناء الأقليات.

فلا يعودون قادرين على ممارسة النقد أو اتخاذ مواقف أخلاقية واضحة.

بل يُضطرون للتماهي مع أشخاص أو قوى عملت – طوال عقود – ضد مصالح جماعتهم، بل وربما ضدهم شخصياً.

وفي المقابل، لا نرى هذا التردد عند أبناء الأغلبية.

أصواتهم غالباً مرتفعة، نقدهم لذاتهم لا يهدأ، وهويتهم الوطنية غير مرهونة بخوف وجودي مزمن.

بينما الأقلية، كلما توترت الساحة، تختبئ داخل قوقعة، وتلتحق بغريزتها لا بعقلها.

دعونا نتفق:

الخوف مشروع، لكن تحويله إلى محرك سياسي وأخلاقي أعمى كارثة.

فمن يتخيل أن الطائفة أو العرق أو الجماعة ستحميه من “الفناء”، غالباً ما يُفني ذاته بها، لا لأجلها.

المصدر: صفحة مهند الكاطع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى