محمد زاهد غل أكاديمي تركي يتقن العربية درس في سوريا ولبنان، ونال الماجستير من بيروت، قريب من حزب العدالة والتنمية ويعمل مترجماً فورياً للعربية مع بعض المسؤولين الاتراك.
الكتاب إطلالة على التجربة التركية منذ تأسيس الدولة؛ بشكل عام طبعاً، وتركز على مرحلة حكم العدالة والتنمية من عام 2002 إلى عام 2012.
* يتحدث الكتاب بالمختصر؛ لكن بوضوح ودقه، عن ولادة الدولة التركية، على يد المؤسس مصطفى كمال الملقب بأتاتورك، وأنه انطلق في الدولة التركية الحديثة، من القطيعة الكاملة مع ماضيها وتراثها ودينها الاسلام، و جعل قدوته ومثله الاعلى اوربا، وربط تقدم تركيا بأن تقلد الغرب في كل شيء، وكان مشروعه ينطلق من مبادئ ستة اعتمدها: حول إلغاء السلطنة والخلافة العثمانية وبناء الجمهورية التركية، و اعتماد الوطنية التركية، والاعتماد على التكنولوجيا والعلم، والديمقراطية والعلمانية. والحرية ومراقبة الدولة وسلوكها الاقتصادي. ورغم هذه المبادئ؛ فقد حكم مصطفى كمال حكما شبه فردي؛ فهو القائد وحزبه حزب الشعب الجمهوري؛ الحزب الوحيد المرخص حتى وفاة أتاتورك في ثلاثينات القرن الماضي، وانتقل الحكم الى رفيقه عصمت انينو الذي اقترب أكثر من الغرب وتقدم خطوة باتجاه الديمقراطية، و سمح بتشكيل الأحزاب وجاء الحزب الديمقراطي واستطاع الوصول للحكم؛ في اربعينات القرن الماضي.
* يعود الكاتب الى السنوات الأخيرة من عمر الخلافة العثمانيه المديد، ويؤكد ان بعض السلاطين بادروا بالإصلاحات الدستورية، وتدوين دستور، التي بدأت في عهد السلطان عبد المجيد الثاني، وكيف عطلها السلطان عبد الحميد ثم أعاد العمل بها مجددا، واكد ان موضوع الإصلاحات الدستورية واعتماد دستور جديد للسلطنة كان من الأولويات، وكان من الموضوعات المختلف عليها، سواء بالصراع مع الغرب الاوربي، او بتأثر كثير من العثمانيين بها والدعوة لها.
* يؤكد الكاتب أن طريقة مصطفى كمال، التي ادارت ظهر تركيا الى ماضيها وتراثها وعزلت تركيا عن دينها بطريقة عدائيه، لم تستطع ان تستمر؛ فسرعان ما عاد التيار الإسلامي عبر النظام الديمقراطي من عهد عصمت انينو وما بعده، وكان ذلك بين مد وجذر وكانت الدولة العميقة؛ المكونة من كبار ضباط الجيش والامن وكبار الرأسماليين وكبار مسؤولي الدولة، تعتمد على توجهات علمانية، وتستند على توجهات مصطفى كمال لتحكم سيطرتها على تركيا، التي دخلت في ازمات اقتصاديه وسياسيه عديدة، وكان التيار الإسلامي يشكل خشبة الخلاص، بدء من حكومة عدنان مندريس الذي ساهم في حل كثير من المشاكل، ولكنه أعدم بعد انقلاب الستينات الذي قامت به الدولة العميقة على يد الجيش التركي.
* لم يتوقف التيار الاسلامي عن محاولة القيام بدورة في اعادة تركيا لطريق الانسجام الذاتي، بين حقها في التقدم وحقها في الديمقراطية؛ وحقها ان تتصالح مع دينها الإسلام وتاريخها العثماني، وكانت هذه اجندة التيار الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان؛ الذي شكل العديد من الأحزاب الديمقراطية المتشبعة بالقيم الإسلامية، فبعضها حل وبعضها وصل لسدة الحكم بقيادته، عبر وزارة وحدة وطنية؛ كان لها الدور في معالجة المشاكل الملحة؛ اقتصاد متدهور وأزمات تحتاج لحل، لكن الدولة العميقة كانت بالمرصاد مرة اخرى وقامت بانقلابها في بداية ثمانينات القرن الماضي.
* لم يستطع الانقلاب الجديد أن يحل المشاكل المستفحلة لتركيا، وسرعان ما عاد التيار الإسلامي ليشكل البديل الوطني التركي لمعالجة كل مشاكلها، وكان تشكيل حزب العدالة والتنمية على يد رجب طيب أردوغان ورفاقه؛ وهو الآتي من مدرسة نجم الدين أربكان، وكان أردوغان قد اشتهر بنجاحه في قيادة بلدية اسطنبول في تسعينات القرن الماضي، لذلك عندما أعلن ولادة حزب العدالة والتنمية في 2001، ودخوله الانتخابات في 2002، سرعان ما فاز بها فوزا ساحقا، أعطاهم الحق بتشكيل الوزارة، واستمروا في نجاحهم الانتخابي حتى الآن لأربع فترات انتخابية، وهم يقودون تركيا لخمسة عشر عاما ناجحه، تابع الكتاب منها عشرة أعوام بالارقام والمعلومات .
* تبين المعلومات التي أوردها الكتاب، ان حزب العدالة والتنمية كان قد درس كل الشؤون التركية؛ وحدد لها ما يجب أن يفعله على كل المستويات وفي جوانبها العملية. فعدا عن برنامجه السياسي الذي كان شاملا لكل ما يجب فعله، كان له خططه الكاملة لكل مناحي الحياة، بحيث أعطى الجانب المعاشي اهمية كاملة، ففي عهده ارتفع المستوى الاقتصادي للمواطن التركي عدة أضعاف، وكذلك المستوى التعليمي والطبي والضمان الاجتماعي والخدمات العامه و الزراعي والصناعي واعادة الاعتراف بالتاريخ العثماني، وإعادة المصالحة بين الدين الاسلامي والدولة التركية، ووقوف الدولة على مسافة واحدة من كل العقائد، علمانيتها اصبحت احترام حرية معتقدات الناس وعدم مسها… الخ.
* يقدم الكتاب جردة كاملة حول كل مناحي الحياة التي تعامل معها حزب العدالة والتنمية خلال عشر سنوات، غطاها الكتاب نظريا وعمليا بالأرقام، فعلى المستوى التعليمي تضاعف الاهتمام ببناء المدارس والجامعات، وتم رفع سن التعليم الإلزامي، وقاموا بحملة محو الأمية، وادخلوا الانترنت والحاسوب الى المدارس والمعاهد والجامعات بكثافة، وصاغوا المناهج التعليمية محققين المصالحة بين الذات التاريخية العثمانية والدين الإسلامي والعلمانية والديمقراطية، وأصبح التعليم التركي في مصاف عالمية متطورة.
* وفي المجال الاقتصادي تم وضع خطط وبرامج نهضة اقتصادية اتت اكلها، بحيث تحولت تركيا لأعلى مستويات النمو العالمي وتبوئها الدرجة السادسة عشر عالميا، وارتفع معدل الدخل لاضعاف عدة، وهناك خطط لتطويرها مستقبلا، ورفعت معاشات موظفي الدولة عدة أضعاف، لتصبح قادرة على تلبية عيش الموظف الحكومي بكرامته وتحقيق أسباب الرفاه، وكذلك رفعت معاشات المتقاعدين، وتم إحصاء المعوزين ووضع معاش مساعدة حكومية لهم، وكذلك قامت الدولة بحملة اسكان وبناء بيوت شعبية للفقراء، يتم ايفاء اثمانها عبر عقدين بمبالغ زهيدة، وحصل تطوير هائل في المجال العمراني والصناعي وشبكة الطرق والمترو والقطارات والسفن… نكاد نجزم انه لا يوجد مجال اقتصادي؛ الا وتم العنايه به ودعمه لتحقيق تركيا نهضتها العملاقة، وكذلك المجال الزراعي والاعتناء به ودعم المزارعين ومربي المواشي.. الخ.
* وفي العلاقات الخارجية عادت تركيا لدورها التاريخي لتكون جزء من المنطقة وتقوم بدورها الايجابي فيها، وأعلنت مقولة: سلام داخلي وسلام خارجي، صحيح انها استمرت جزء من حلف الناتو؛ لكنها رفضت اي تورط للأتراك ضد شعوب المنطقة؛ كما حصل في الحرب الأمريكية على العراق؛ ورفضها مساعدتها في احتلال العراق، ورفضها للعدوان الاسرائيلي على لبنان؛ وعلى قطاع غزة، أعادت تركيا الاهتمام بالدول العربية والاسلامية والافريقية، ووجدت بهم امتدادها ومجالها الحيوي والاستثماري، واستمرت تركيا تعمل لتحقق شروط التحاقها بالاتحاد الأوروبي، وتدعيم علاقتها مع الغرب عموما، والالتفات الى جبهتها الشمالية حيث روسيا والدول الاسلاميه حديثة الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي… الخ.
* ان أهم ما قدمته تجربة حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا، هي إعادة تعريف الإسلام كفكر وممارسة منتصرة لحقوق الانسان والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، وإعادة تعريف العلمانية بكونها حرية المعتقد شخصيا. و حيادية الدولة تجاه كل العقائد المجتمعية واحترامها، ومساواة الناس كلهم على قاعدة المواطنة للدولة، دون تمييز عرقي او ديني او مذهبي، وتأثيرها على الفكر الاسلامي العام و العربي خصوصا… هذا النموذج الذي أعطى شرعية لتيار الاسلام الديمقراطي. ورفع الغطاء عن اي فكر اسلامي تكفيري او إقصائي، وإدانة له كممارسة ايضا.
* يؤكد الكاتب أن كمال التجربة التركية هو من خلال تدوين دستورا جديدا لها. (وهذا ما حصل فعلا في ٢٠١٨) متجاوزا لدستور الانقلاب السابق في 1981. يضمن تفاهم الاتراك على مصالحهم المشتركه وكيفية تحقيقها واعتباره مدونتهم التي يعودون إليها في كل وقت، ان السلطات التنفيذية ممثلة بالحكومة، والتشريعية ممثلة بالبرلمان، والقضائية باستقلاليتها، كلها تكتمل وجودا وعملا؛ من خلال دستور متوافق عليه يرتضي به اغلب الاتراك، وهذا ما عمل عليه حزب العدالة والتنمية وحكمه الحالي، وقريبا سيكون الاستفتاء الشعبي حول اقرار الدستور المقترح من الاغلبيه البرلمانيه أو يرفض.
* الكتاب دون في 2012 حيث بدايات الربيع العربي، حيث التركيز على دعم تركيا وحكومة العدالة والتنمية للربيع العربي في تونس ومصر، وأن هذا الربيع سيثمر نماذج حكم على طريقة تركيا وحكم حزب العدالة والتنمية، لكن واقع الحال كان انقلابا على الثورات العربية؛ حيث تم احتواء ثورة تونس؛ و أجهضت ثورة مصر وعاد حكم العسكر المستبد اسوأ مما كان؛ وحولت ثورتي ليبيا واليمن لحرب اهليه، وسمح للنظام السوري المستبد القاتل أن يقتل الشعب وشرده ويدمر سوريا، وتركيا في كل ذلك تحاول قدر إمكانياتها أن تنصر قضايا الثورات العربية، ولكن نتائج ذلك محدودة، خاصة بعد التدخل الروسي والصمت الأمريكي، وتحول الشعب السوري لضحية تحت القتل الاجرامي اليومي.
.اخيرا. إن كتاب التجربة النهضوية التركية مهم جدا، سواء كوثيقة معلومات بالارقام عن هذه النهضة وعظمتها وريادتها، ومهم بالنسبة لنا كعرب ومسلمين، حيث قدمت النموذج لنا: أننا عندما نتخذ المنهج العلمي؛ والتخطيط؛ والعمل الدؤوب؛ وننتصر للشعب حقه بالحرية والعدالة؛ ونعيد قراءة الاسلام؛ منتصر للناس وحقوقهم؛ وللديمقراطية وسيلة للعيش وإدارة شؤون البلاد والناس؛ ولاعتبار كل مواطن جزء من ورشة اعادة بناء المجتمع؛ وصناعة الحياة الأفضل؛ والرفاه الإنساني؛ والكمال الروحي؛ والتطور الاقتصادي؛ وبناء مجتمع إنساني نموذجي.
هكذا هي تركيا الآن في ظل حزب العدالة والتنمية، رغم انها لم تسلم من الصراعات المتواجده في داخلها وعلى حدودها، فهذا حزب ال ب ك ك يعيد نشاطه الارهابي فيها، وكذلك امتداده في سوريا ال ب ي د الارهابي؛ ودعم أمريكا والغرب له؛ والصمت عن اجرام النظام السوري، ولجوء ما يزيد عن ثلاثة ملايين سوري لتركيا؛ وما يمثله ذلك من عبئ اقتصادي واجتماعي عليها، وعمل الغرب ضد التوجه الحالي لحكومة العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، وصمتهم ودعمهم الضمني للانقلاب الفاشل، وصمتهم ورعايتهم لجماعة فتح الله غولان الإرهابية تخريبا لتركيا. لكن تركيا دولة وحكما وشعبا تقف في وجه هذه الهجمة، وستنتصر لأنها تعبر عن مصلحة الشعب وروحه وضميره ومستقبل ابنائه .