بعد الصعود الكبير للقومية العربية ، وامتداد حضورها وانتشارها في الساحات العربية ، وتشكيل حاضن شعبي عارم لها في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، عندما استطاع عبد الناصر أن ينقل الفكرة القومية من النخب السياسية التي كانت تتداولها في منتدياتها الضيقة إلى أوسع قاعدة شعبية . ثم بعد ذلك بفعل عوامل وقوى داخلية وخارجية تحركت قوى الردة وداعميها لضرب الحركة القومية ، فكانت جريمة الانفصال ثم هزيمة حزيران ١٩٦٧ . لتتصاعد الهجمة الشرسة ضد القومية العربية منذ وفاة عبد الناصر وحتى اليوم …
منذ ذلك التاريخ ولا زالت الأبواق تثير الشكوك والتشكيك بحقيقة القومية العربية والعروبة، وبأن وجودها وحضورها مستجد لا يستند إلى عمق تاريخي ، وبأن الفكرة القومية تم التحضير والتصنيع لها في دوائر المخابرات الغربية من أجل المساهمة والتعجيل بانفصال البلاد العربية عن الخلافة العثمانية تمهيدا لوضع الغرب يده على مقدرات منطقتنا .. أو أنها جاءت ودعمت من الغرب لاستثمارها في مواجهة الاممية الماركسية أثناء الحرب الباردة ، أو أن القومية لم تكن إلا اداة من أدوات الغرب من أجل توليد الدكتاتوريات التي حكمت واطبقت الخناق على أي مسعى لتأسيس الدولة او الدول الديمقراطية في وطننا العربي … وعلى هذه المرتكزات تصاعدت الأصوات والأبواق الإعلامية ، والصحف الصفراء في مهاجمة القومية العربية ، والتشكيك بالعروبة وحقيقة وجودها ، وعلى أنها شوفينية و تمييزية ، وترتبط بروابط تفوق العرق والدم ، وانها نافية لأي اندماج وطني جمعي ، ومضادة ومتضادة مع أي مرتكز من مرتكزات الدولة الديمقراطية …..
وهنا ليس من المفيد تكرار ما كتبه الكثيرون او ما تتبعه المؤرخون عن العروبة والامة العربية ، فقد تناول العديد من المؤرخين و المفكرين وعلى رأسهم ساطع الحصري بأحاديثه المطولة وكتاباته عن عوامل تكوين الأمة العربية من لغة وتاريخ وجغرافيا ومصالح مشتركة … ورد على المشككين بعوامل ارتباط الأمة وكينونة وجودها … ولكنني سأتناول الموضوع في بعده السياسي ، منطلقا بداية من ان القومية بالأساس حركة سياسية فكرية مرتبطة بزمن ، وجاءت تلبية لاحتياجات هذا الزمن ومتطلباته ..
ولا شك بأنه كثيرا ما يتم الخلط بين مفهوم العروبة ومفهوم القومية العربية ، وكثيرا أيضا ما اعتبر أن العروبة تتطابق مع القومية ، أو أن القول بالقومية يعني تماما القول بالعروبة ..
العروبة انتماء وهوية أمة وتاريخها وثقافتها ، وهي قديمة قدم قيام المجموعات البشرية بالتجمع عبر لغة يتفاهمون من خلالها ، وقد مر مفهوم العروبة بمراحل تاريخية إلى أن وصل إلى صيغته اليوم .
فالعروبة موجودة قبل الإسلام بقرون عديدة ومستمرة الى الوقت الحاضر وبعده ، ووجودها ثابت في الوعي أو اللاوعي ، وراسخة في الوجدان العربي سواء أدركناها أم لم ندركها .. وبالتالي فالعروبة معطى تاريخي وليس ظرفي ، بدأ منذ بداية وجود العرب وأخذ يتطور بتطورهم الثقافي والمعرفي والحضاري والإنساني وشكل لهم ثقافة خاصة وانتماء وهوية راسخة غير قابلة للإفناء أو التبديل .
في حين ان القومية – أية قومية – مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني ، وهي جزء من التاريخ ومرحلة من مراحله ، قد تستمر وقد تتوقف أوتنتهي عند الوصول إلى وحدة الأمة واكتمال دولتها ..
فالقومية حالة وقتية تفرضها ظروف متعددة كالتجزئة السياسية والجغرافية ، أو قد تكشف عنها بقوة مرحلة التحرر الوطني ، او مرحلة النضال السياسي لتجاوز التخلف والانقسام ، كما تبرز جليا عندما تفرضها ضرورات النهضة القومية وتجديد الامة وكفاءتها بما يجاري حركة التطور الإنساني ..
والقومية تتبناها أحزاب وقوى سياسية أو تتبناها دول ، تسعى لتحقيق أهداف محددة ، قد تتغير من زمن لٱخر ، وهي وعي سياسي يسعى لتجاوز التمزق السياسي والاجتماعي والجغرافي ، وتجاوز التخلف الحضاري وردم الفجوات التي تقف عثرة أمام التطور والتقدم .
وعلى الرغم من التفاوت والاختلاف بين مفهومي العروبة والقومية ، فإن هناك دول خارجية وقوى داخلية تدفع وتعمل على تطابق المفهومين في مفهوم واحد ، مستغلة التباين بين الحركات السياسية واختلافها في تناولها للمشروع القومي ، أو استغلال تحويل بعض الأحزاب الفكر القومي الى أيديولوجية حزبية أو اعتباره حتمية تاريخية .. وبالتالي ارتكاز القوى الانفصالية والقوى الداعمة لها على هذا الخلط بين المفهومين واعتبار العروبة أداة للتمايز والتمييز بين الشعوب وتعبئة ضد الاقليات وتثبيتا للطابع الشوفيني المنغلق والمتعصب ، ومحركا للصراعات الداخلية بين القوميات المتعددة . في حين أن القومية المرتكزة الى العروبة ليست عصبية قبلية او جهوية .. وانما نمطا حديثا لتنظيم المجتمع البشري ، وهي ثقافة جامعة وعابرة للحدود الاهلية والقبلية والطائفية الضيقة .. وضد التقسيم والتجزئة وضد تسييس العشيرة والطائفة ، وهي فوق ذلك إطارا حداثيا لتطوير وتنظيم المجتمعات العربية تنظيما ديمقراطيا تعدديا بما يتجاوز تفتيت المجتمع العربي إلى طوائف وعشائر وبما يحفظ للإنسان حقوقه كمواطن في وطنه دون أي تعدي او تمييز ، منعا لتفسيخ وتقسيم المجتمع والدولة ، وتجاوزا للتخلف والتبعية ..
ورغم كل ذلك ، وعلى الرغم من المضمون الحداثي الذي يتجاوز عقلية التعصب والصراع ، ويتجاوز المجتمعات ما قبل وطنية من قبلية وعشائرية ، فإن الهجوم على العروبة والفكر القومي لازال متواصلا ، ولا زال هناك من يحمل الفكر القومي مسؤولية ما وصلنا إليه من عجز وانحطاط ، ويعتبره المسؤول عن توليد الأنظمة الديكتاتورية في بلداننا !! بل هناك من يحمل انتمائه القومي مالا يحتمل ، ويتأسف على ماحمله واقتنع به واعتقده من فكر قومي ، ليكتشف اليوم بسذاجة التقييم أو نتيجة اختلاط المفاهيم وتداخلها ، أن تحقيق الوحدة القومية وهما وسرابا ، وان الفكر القومي يشد الى الوراء لا إلى التغيير والتقدم والدخول إلى بوابات العصر !!
وإذا كانت هناك أخطاء أو حتى جرائم ارتكبها حاملي الهدف القومي زيفا أو مباهاة أو تخفيا وراء أهداف ومطامع سواء كانوا أفرادا أم رموزا سياسية لأحزاب او قادة دول ، فإن اعتبار أخطائهم الاعتباطية أو المقصودة مرتكزا لنسف حقيقة وجود أمتنا فيه تجني صارخ على العروبة وعلى الفكر القومي لأمتنا ..
المشكلة اليوم إذن ليست في الفكر القومي الذي يجري العمل المتواصل لتشويهه ، وإنما في فقدان المشروع القومي الذي يؤسس لوحدة الامة ، وفقدان الاداة القومية القادرة على حمل مثل هذا المشروع . وما يزيد الامر سوءا ان القوى القومية – من تيارات واحزاب – الموجودة في ساحاتها تقفز دائما إلى الأمام بدون أن تتجذر في مجتمعاتها الوطنية ، وبدون ان تبني فعلا مؤسساتيا قادرا على التحشيد والتغيير ، لإنجاز وحدة القوى القومية القادرة عبر أشكال ومراحل متعددة أن تحيط بالواقع وتتجاوزه وصولا الى ابتداع ٱليات عمل وخطوات تراكمية تمهيدا لتحقيق الوحدة الشاملة .
ولقد أثبتت التجربة ” أن طريق الوحدة هو طريق المواجهة مع أعداء الأمة والطامعين في أرضها ونفطها ومياهها ومواقعها الاستراتيجية وكل مشاريع الهيمنة الاجنبية وضد كل الذين يعملون على طريق تجزئتها وسد الطريق أمام تقدمها ونهوضها كأمة ، وهو اليوم طريق الاستقلال الوطني وتحرير الإرادة الوطنية ، لتكون الوحدة تعبيراً عن إرادة الامة الجماعية الحرة ” .
إن العمل على طريق وحدة القوى الوحدوية خطوة لا بد منها لمواجهة نظم الاستبداد ، ومواجهة الاخطار التي تتربص بدولنا ، وخطوة مفتاحية لحوار شامل بين كافة القوى والمكونات للتوافق على برامج للتغيير الديمقراطي ، وبرامج واستراتيجيات على صعيد العمل القومي . ولا بد من تصعيد المواجهة مع أعداء الامة وأعداء وحدتها ، وتصعيد المواجهة الثقافية والفكرية والاعلامية مع قوى التجزئة والانفصال . ذلك لأن هذا الضجيج الإعلامي المركز في مواجهة العروبة ليس ناجما عن العجز في الفكر القومي ، وإنما في عجزنا وانفراط عقدنا ، وفشلنا في إنجاز مشروعنا القومي وأداته القومية الحاملة له . ولأننا فشلنا حتى الآن في إنجاز تغييرا ديمقراطيا ونهضة في بلداننا. ولاننا سابقا حملنا الامبريالية وايضا الصهيونية كل اسباب عجزنا ، ولم نعمل تقييما موضوعيا او نمارس نقدا جدليا للاسباب الذاتية فينا . قعدنا مرتاحين ومقتنعين بأن ما يجري أكبر منا ومن طاقاتنا .
واليوم في ظل الهجمة الطائفية والإقوامية ، والحروب والتدخلات الخارجية التي تمهد الطريق للتقسيم لوضع أوطاننا في مزيد من الإحباط والعجز وما قد يفرزه التقسيم من حروب بينية داخل الدولة أو في نسيج المجتمعات العربية ، وبين دولها ، قد تمتد نتائجها وٱثارها لقرون ، تتفتق موهبة البعض في مداراة عجزنا لتقول ان الفكر القومي وحامليه في المحيط القومي هو الذي ساند الطغاة ودعم وجودهم ، وهو من سلطهم على رقاب الناس . وكأن الطغاة اذا نزعنا عنهم الفكر القومي سوف يتحولون الى أنظمة ديمقراطية . وكأن هؤلاء الطغاة كانوا متمسكين أو ممسكين بالفكر القومي في ممارسة طغيانهم .
هؤلاء الطغاة ومن لف لفهم عندما حاربوا الفكر القومي ، وساندوا الفكر الديني المتخلف ، وارتبطوا بأجندات القوى الخارجية ، هم انفسهم لم يستطيعوا أن يحافظوا حتى على كياناتهم القطرية وفقدوا سيادتهم الوطنية ، ووضعوها في مزاد علني لمن يحافظ على استمرارهم في الحكم .
الهروب للأمام ، من أجل اراحة عقولنا ليس حلا وعلينا البحث في جذر المشكلة الإقوامية والطائفية في داخلنا ، وأن نبتكر الحلول لمشكلات أمتنا دون القفز إلى الأمام ، أو أن نذهب لمحارب طواحين الهواء . هذا إذا كانت تلك الطواحين موجودة أصلا ، إلا في مخيلة البعض الذين يجلدون ذاتهم قبل جلدهم للعروبة وخيارات الأمة في الوحدة .