
عن أية شاكلة نتحدث في حالة لا شبيه لها ولا تصلح لاستحضار نماذج أخرى والمقارنة معها، فالفندق السوري مرصع بنجوم الظهر بدل الخمس نجوم ومشتقاتها المعهودة، وأول سمات نزلائه أنهم درجات فنجوم هذا الفندق متعددة لا تصنيفاً موحداً لها لأن الوطن فرضية تلوكها ألسنة المشاريع وأذرع الأجندات بدءاً بمؤتمر النصر الذي نصب سلطة ترتعد شفتاها من ذكر الديمقراطية انتهاءً بمؤتمر الحسكة الذي يسبح بحمد ديمقراطية لو كانت رجلاً لقتلت المتاجرين باسمها فيه. وهكذا بقيت المواطنة مبتدأ خبره محذوف وممنوع من الصرف السياسي حتى يهبط وحي ما على أنبياء المشروعين الأكثري والأقلوي اللذين يغني كل منهما على ليلاه دون أن يتمخضا عن ليلى سورية لا يختلف عليها سوريان.
لنبدأ بليلى الأكثرية التي عقد المنتصر قرانه عليها مكتفياً “يالرؤية الشرعية” فيما عاجلتها كوكبةٌ من فئة “لا في العير ولا في النفير” بيمين الطلاق خوفاً على ليلاها أن تتحول إلى جارية بعد أن كانت محظية سيد القصر الهارب، فكان لزاماً أن ينتهي المشهد الذي بدأ ببيعة الأكثرية في دمشق بردة الأقليات في الحسكة.
ما تقدم لا يبنى عليه حكم متسرع بتساوي الطرفين سواءً من جهة مستوى الشرعية أو من جهة الولاء الوطني غير أنه فرض عين لوقف حالة التكاذب المتجلية في تستر كل فريق على عيوب وارتكابات أنبيائه السياسيين المزدانين بصفات العصمة والقداسة، تاركين للباحثين عن طريق ثالث شرف جمع ما يكفي من النجوم لمحض هذا الفندق تصنيفاً ثابتاً لوطن إذا اختلف فيه مواطنان لا تكون رِدة أحدهما رداً على بيعة الأخر، بل فرصةً للاتفاق على اختلاف منضبط لا يفتح الحدود لعدو ولا يتلاعب بها ويساوم عليها الصديق. كما لا يعتبرها الأقوى قضباناً يصفد خلفها من لم يساهم في النصر محكوماً عليه بالعار المؤبد.
من هذا المنطلق يستقيم القول إن طرف الإدارة الجديدة كان رغم كل الملاحظات عليه الأحرص على التقارب وتخفيض مخاطر الصدام العسكري إذ قدم المبادرة تلو الأخرى كما تقبل الوساطات والمبادرات الأجنبية تجاه أطراف غلب عليها التقلب والتلاعب والحنث بالوعود والاتكاء على قوى خارجية لا تعباً بغير مصلحتها ولا تقبل بغير التبعية لها، ما جرها إلى خانة الارتهان وأبعد رهانها السياسي عن الشرط الوطني حتى كاد أن يبلغ مستوى القطيعة النهائية عن العودة إلى مسار العمل الوطني الخالص ويعتنق الردة – الممارسة عملياً والمكتومة نظرياً فقط – خياراً لا رجعة عنه.
هذا حال السلطة ومن يؤلب عليها ليحل محلها لا ليحل عقدها ومشاكلها، ذلك أن مسرحية الحسكة أتت في سياق ادعاء تقديم مشروعها الهزلي، مشروع الردة، بديلاً عن مشروع البيعة وهذا بالقطع ليس خياراً فلم تكن الخيانة يوماً خياراً تحت أي شعار وأي غطاء لعورته البادية.
مشروع المواطنة والدمقرطة وإن كان في موقع الخبر المحذوف الآن غير أنه في مسار يتقاطع مع مشروع السلطة القائمة في نقاط التقاء يمكن البناء عليها فيما طاش حجر المرتدين وطاش صوابهم فذهبوا بمشروعهم في الاتجاه المعاكس حيث لا يمكن لمن ينشد المواطنة أن يجد نقطة التقاء واحدة لا تتقاطع مع الخيانة والتقسيم والتبعية التامة لعدو يعلن أن استمرار بقائه رهن بتركيعنا واستمرار هزيمتنا بل يستبيحنا ويريد التطبيع مع مخططه الذي لا يعني سوى تقطيع أوصالنا أشلاءً يمنح فريق الردة بعضها فأي مخرجٍ هذا الذي يخرجنا من الجغرافيا والتاريخ لكي نتشابه جميعاً أقليات صاغرة مستباحة في سوريا والمشرق العربي لأقلية فاجرة مستبيجة في تل أبيب..! هكذا ارتضى الذين يتذرعون بتطرف السلطة جرنا إلى خيار يجعل السلطة المؤقتة التي يجسب لها أنها تغيرت وبدأت مساراً متدرحاً نحو الاعتدال والتأقلم مع مقتضيات بناء الدولة، يجعل هذه السلطة رهاناً مقبولاً بالمقارنة مع قدر لا وصف له من السفاهة والغلو وتجميل الخيانة في سبيل إرضاء نزعة أقلوية مريضة تنجرنا وتنتحر بتطرفٍ لا يترك لعاقلٍ غير الكفر بهذا الطيش والجنون ورفض التذرع بحق يراد به محض باطل ومحض خيانة، ولتكون الصورة تامة الوضوح لا بد من ذكر النشاط المحموم للوبيات تأسست في الولايات المتحدة لتمثل الكتل الأقلية السورية المناهضة لمشروع وطني مستقل كامل السيادة مركزه دمشق، وهي بالطبع تفرض وصايتها على قرار تلك الأوساط الاجتماعية التي لا يعرف بالضبط حجم المؤيدين والمعارضين داخلها لمشروع الدولة المركزية غير أنهم ليسوا قلة بالتأكيد ولن تتكشف طبيعة اصطفافهم حتى عودة الحياة السياسية وإجراء انتحابات نزيهة تسمح بالتصويت وقياس النسب وتحديد الأحجام وتوجهات شرائح الناخبين.
في خضم هذا الواقع الذي يتسم بالتضاد التام والمحسوم – حتى الأن – بين مؤتمر النصر وجمهوره ومؤتمر الردة وجمهوره وانعدام الفاعلية السياسية للنخب والأحزاب يبدو مشهد حلم الوطن الافتراضي أقرب إلى فندق يتكاذب نزلاؤه ويتكالب عليهم أعداؤه، وفيما يدعو أنصار الإدارة الجديدة إلى مواطنة تجعل النزلاء سواسية في تصنيف نجوم الحقوق والواجبات يجترح المصرون على التقوقع في خانة الأقليات أعجوبة المطالبة بامتيازات فوق المواطنة وإضافة نجوم الخصوصية والضمانات والحماية كنزلاء مدللين وضحايا دائمين رغم أن الحالة السورية مقلوبة بالقياس إلى الحالات التي تتعرض فيها الأقليات لأشكال الاضطهاد من طرف الأكثريات فالعكس هو الصحيح في المشهد السوري، عير أن الأكثرية بدورها انجرت من حيث لا تدري بحكم مضمرات العقل الباطن والتباسات الوعي المأزوم، علاوةً على استفزازات الأقلويين وتحركاتهم الخطيرة إلى تناقض صارخ مع “مسودة خطابها الوطني” ومزاعم فندق النجوم المتساوية حين تبنى قادة الرأي وبعض النخب في أوساطها مقولة “عودة الحكم للأكثرية السنية” واستحضار رمزية الحقبة الأموية كردة فعل بدائية على خطاب التجزئة والتقسيم الأقلياتي، وهذا لا يعني سوى تطابق في النتيجة والمآل نحو تطييف النظام السياسي وتأسيسه على منح امتياز إما أكثري أو أقلوي للفئة التي سيتاح لها حسب موازين القوى ومجريات الأحداث فرض رؤيتها ومشروعها الذي لا يصلح في الحالتين لبناء دولة مواطنة متساوية قطعاً.
هكذا انساق الجميع بعضهم بوعي وبعضهم بغير وعي إلى ذات الحفرة وكل منهما يدعو على الطرف الأخر بلغة العامة ” الله يغمقلو” بينما كلاهما في غيابة الجب وكلاهما يحفر حفرة يقع ويوقع الأخرين فيها، فهل من العدل ترجمة النصر وتضحياته من مواطنة على شاكلة الأسد إلى مواطنة على شاكلة قسد أو شاكلة مخيال المظلومية الأكثرية ..!
هذا فندق خالٍ من النجوم بلا تصنيف حتى إشعار أخر؛ حتى مشروع وطني ناضج خالٍ تماماً من سم الطائفية ومنتجاتها وسُعارها الذي ظننا أننا أهلنا عليه التراب حين غادرنا خنادق الاقتتال فتبين أن بعضنا وهم كثر قد حزموا القتال وماضيه في حقائبهم واصطحبوا ثاراتهم وولاءاتهم الغريزية إلى غرف هذا الفندق المؤثثة بالفخاخ.
ما كل هذا العجز والتخبط وغيبوبة الأحزاب والنخب عن إعداد إجابةٍ شافية لسؤال يطرحه جسدنا السياسي المريض على أعضائه المحمومة المتكاذبة:
بعد أن خرجنا من الخندق كيف نخرج من الفندق…؟
بين مؤتمر النصر وجمهوره ومؤتمر الردة بـ “غويران” وجمهوره وانعدام الفاعلية السياسية للنخب والأحزاب يبدو مشهد حلم الوطن الافتراضي أقرب إلى فندق يتكاذب نزلاؤه ويتكالب عليهم أعداؤه، إن العجز والتخبط وغياب الأحزاب والمجتمع المدني والنخب عن إجابةٍ شافية لسؤال يطرحه الواقع السياسي السوري: بعد أن خرجنا من الخندق كيف نخرج من الفندق…؟