عشق العروبة والإحباط الإيراني في العراق

مثنى عبد الله

منذ ما قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة وحتى اليوم، بقيت العروبة هي النسغ النازل والصاعد في عروق عرب العراق، فكانوا لا يتركون قضية عربية مشرقية أو مغربية إلا وكانوا هم السباقين للمشاركة فيها، حتى لو كان الثمن دما يسفحونه على أديم الأرض. كانت أولى محطات العشق العراقي للعروبة، أن ثاروا على الانتداب البريطاني مطالبين بحاكم عربي، فاختاروا فيصل الأول ابن شريف مكة الحسين بن علي الهاشمي ملكا عليهم. وقد بقي هذا السياق قائما في الدولة العراقية حتى عام 2003، حيث كانت السفارات العراقية في الخارج فيها سفراء وقناصل عرب وليسوا عراقيين، يمثلونه لدى الدول الأخرى، وكذلك في المنظمات الإقليمية والدولية، في حين تحرص جميع الدول على أن يكون أعضاء بعثاتها الدبلوماسية من أبناء البلد الأصليين لتمثيلها في الخارج. كما كان في مراكز القرار للوزارات ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وكلاء وزراء ومديرون عامون وكوادر عليا من العرب، وهذه كلها تعكس مزاجا شعبيا متلازما مع مفهوم العروبة.

أما في الموقف الشعبي العراقي من قضايا الأمة العربية، فإن التاريخ الحديث سجل صفحات ناصعة لجود أهل العراق بكل ما يملكونه من أجل نصرة القضايا العربية، فلم يتوانوا عن نصرة أشقائهم في المغرب العربي، إبان الاحتلال الفرنسي، والمشاركة الفاعلة في عملية التعريب التي قامت بها الجزائر خصوصا، وكذلك الوقوف مع أهلهم في مصر العربية أثناء العدوان الثلاثي في عام 1956. أما موقفهم من القضية الفلسطينية فقد ارتقى إلى أقصى غاية الجود وهو التضحية بالنفس من أجل فلسطين. فقد انخرط الكثير من الشباب العراقي في الكفاح المسلح الفلسطيني، في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم. وكانوا أعضاء بارزين في العمل الفدائي الفلسطيني، وقد استشهد الكثير منهم على أرض فلسطين في العمليات الفدائية. كما ساوت القوانين العراقية بين العراقي والفلسطيني في الحقوق. وعاش الكثير من أشقائنا الفلسطينيين عيشة كريمة في العراق، أسوة بغيرهم من العرب الذين قدموا للعراق للعمل، إبان فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. أما جيش العراق فقد كان دوما كتف إلى كتف إلى جانب أشقائه في الجيوش العربية في كل الحروب مع الصهاينة.

وقد بقيت شعلة العروبة متقدة في نفوس العراقيين، على الرغم من التحولات السياسية التي شهدها هذا البلد في أنظمة الحكم، من الملكي إلى الجمهوري الطائفي مرورا بالجمهوري اليساري والقومي، ما يؤكد أن الارتباط بين عرب العراق والعروبة ليست حالة ظرفية، وليست نتيجة هوى سياسي تفرضه أيديولوجية النظام الحاكم، فيتقد حين يكون النظام قوميا، ويخبو حين يكون النظام يساريا، أو طائفيا، بل حتى عندما ارتكب النظام الرسمي العربي الكثير من الأخطاء والخطايا بحق العراق، لم يجنح العراقيون إلى الضفة الأخرى ويناصبوا الأمة العداء، لأن مراهنتهم كانت على الدم وحقائق التاريخ والجغرافيا والدين والمصير المشترك. وكل هذه جعلتهم في رباط وثيق مع أهلهم في مشرق الوطن العربي ومغربه، لذلك لا غرابة في أن يبث العراقيون من محافظة البصرة العراقية، كل هذه الصور الفائقة الرومانسية، والمحملة بزخم عاطفي جارف، وحنان وشوق لا ينضبان، وهم يحتضنون أهلهم وأشقاءهم وأحباءهم العرب في بطولة الخليج العربي الخامسة والعشرين. وإذا كان البعض قد أدهشته الصورة المقبلة من جنوب العراق، ورأى من الصعوبة بمكان تصديق صورة شباب يقفون أمام فنادق البصرة، وهم يتوسلون بأشقائهم العرب أن لا يسكنوا في الفنادق، كي يكونوا ضيوفا عليهم في بيوتهم، أو أن يرفض أصحاب المطاعم والمقاهي والمحلات وسائقي سيارات التاكسي، أخذ المال مقابل الخدمات التي يقدمونها لأشقائهم العرب، فإن الصورة التي تعجز كل الكلمات عن التعبير عنها، كانت لامرأة أعدت الطعام في بيتها ثم نادت على أبنائها قائلة، اخرجوا إلى شوارع البصرة ولا تعودوا إلا ومعكم ضيوف من أشقائكم العرب كي يتناولوا معنا الطعام. ولا غرابة في كل ذلك، فالعراق قدم دماء في سبيل أشقائه، من دون منة ولا دين. وكانت محافظة البصرة هي الأكثر نزيفا في الحرب العراقية الإيرانية، كي لا تنكسر سواترها وينداح الإيرانيون إلى ديار أشقائهم وأهلهم.

مقابل كل هذه العواطف الجارفة كان على الطرف الآخر، إحباط كبير يسري في عروق كل الزعامات الإيرانية، فقد كانوا يتوقعون أن الهيمنة السياسية على العراق لمدة عشرين عاما، وتصدير الميليشيات منه إلى سوريا واليمن، وإطلاق الصواريخ من أرضه في اتجاه الأراضي العربية، كلها قد حسمت مصير العراق مع إيران ونزعت عروبته إلى الأبد، وكانوا يظنون أن عزل العراق إنسانيا وثقافيا عن الأمة العربية، وإجباره على العيش في أسوأ منخفض فكري طائفي، سيجعل الأبجدية العربية في العراق في غياهب الجهل، لا يتحدث بها سوى واحد من كل مليون عراقي، وتصبح العروبة سُبّة ولعنة على كل من يؤمن بها ويدعو إليها. لكنهم نسوا أن مهمة عرب العراق منذ قرون بعيدة، هي تأسيس مصدات للريح المقبلة من بلاد فارس، كي تتحصّن الخيام العربية في الخليج وما بعد الخليج. كذلك لم يفقهوا العقل العراقي الممتلئ بالتحدي والإصرار، على وضع مصيره مع مصير أهله في كل زوايا الخريطة العربية، وضرب أوتاد الخيمة العربية لتمتد على طول وعرض الوطن الكبير، وتحمي الألباب والقلوب من الأفكار الطائفية المقبلة من الشرق. وفي غمرة هذا الإحباط الذي وضعهم فيه أهل العراق، لم يجدوا سوى الاعتراض على اقتران اسم البطولة الرياضية باسم الخليج العربي. فطلبوا من أعوانهم في السلطة العراقية بالتراجع عن هذه التسمية، كما عقدوا العزم على تقديم شكوى ضد الاتحاد الدولي لكرة القدم بسبب استخدام تسمية الخليج العربي. نعم لقد اشتاق العراقيون إلى أهلهم زمنا طويلا، وكان حلمهم أن يروا أشقاءهم العرب ضيوفا في بيوتهم وشوارعهم وأزقتهم ومدنهم، بعد أن كانوا يرونهم في كل مكان من العراق في سنين ماضية، كان أشقاؤهم من مصر والسودان واليمن في كل زاوية من خريطة العراق، يعملون ويمارسون حياتهم الطبيعية. وكان المغاربة يزرعون أراضي مشروع الوحدة كي ينتجوا الطعام. وكان عرب الخليج يدرسون في الجامعات العراقية، وغيرهم من العرب الكثير، فعروبة عرب العراق لن تشيخ بالزمن، بل تبقى خالدة في كل وقت وتلد نفسها مع كل مولود يولد في هذا البلد.

*كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى