حرب الدم الفلسطينى

عبدالحليم قنديل

   دخلت فلسطين العام الجديد بدماء الشهداء المائتين والخمسين فى العام المنقضى وحده، وبجراح مصابين يناهزون العشرة آلاف، وبقوافل من الأسرى، أضيف إليهم 6500 من الشباب والشيوخ والنساء والأطفال ، وبهدم قوات الاحتلال لقرابة الثمانمائة والخمسين منزلا فلسطينيا ، وبرصيد هائل من عمليات المقاومة من شتى الصور والدرجات ، بلغ عددها فى العام الماضى وحده 7200 عملية ، أسقطت 31 قتيلا إسرائيليا و500 مصابا ، ولم تستثن منطقة واحدة فى فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر ، وبجيل جديد مذهل من الفدائيين الفلسطينيين ، حولوا القدس ومدن ومخيمات الضفة الغربية إلى “عرين أسود” ، يفزع كيان الاحتلال الإسرائيلى .

  وقد لا تكون من قيمة كبيرة لأى شئ آخر ، ولا حتى لقرارات الأمم المتحدة عن الحق الفلسطينى ، وقد تراكمت منها مئات ،  لا تنطوى على ما هو أكثر من معانى رمزية مفيدة فى كسب رأى عام دولى ، ويكاد يطمس جديدها قديمها ، بعد أن تحولت تباعا إلى حبر يجف فوق الورق ، وتدهسها جميعا حكومات الاحتلال المتعاقبة ، وإلى حد وصف رئيس وزراء العدو الحالى “بنيامين نتنياهو”’ لها بأنها “حقيرة” ، فهى لا تنهى احتلالا ، ولا تهدده ، ولا تفتح طريقا لاسترداد حقوق ، لن تعود إلا بالقوة والمقاومة ، وبنداء الدم الذى يهزم السيف ، وبانتفاضات شعبية ومسلحة ، عاد إليها الشعب الفلسطينى بقوة وإصرار غير مسبوق منذ توقف انتفاضته الثانية الكبرى ، وبثقة كاملة فى نصر الله لعباده المقاومين ، الذين لا يخيفهم احتلال باطش ، ينتفخ غرورا بما لديه من ترسانات سلاح متطور ، وبإسناد  رعاته الأمريكيين وحلفائه العرب “الصهاينة” القدامى والجدد ، بينما الشعب الفلسطينى وحيدا فريدا عاريا من كل سند ، يواصل ملاحمه البطولية ، التى أرغمت “شارون” مقتحم “الأقصى” فى أوائل القرن الجارى ، أن يحمل عصاه وقواته ومستوطناته ، ويرحل من طرف واحد عن قطاع غزة ، ولن يكون الصبيان “ايتمار بن غفير” ولا “بتسلئيل سموتريتش” وغيرهم  أعتى من “شارون” ، الذى كانوا ينعتونه بلقب “ملك إسرائيل” ، وقد كان محاربا شرسا ، لا تقاس إليه لزوجة و”ثعبانية” نتنياهو ، الذى لم يحمل سلاحا فى حياته ، ويقود هذه المرة حكومة من المجرمين والبلطجية وأرباب السوابق الجنائية والإرهابية .

  وقد يقال ، أن حكومة “نتنياهو” الجديدة هى الأشد يمينية وتطرفا وعدوانية ، لكنها لا تفترق بالخلقة ولا فى الممارسة عن حكومات سبقت ، شكلها “نتنياهو” ومنافسوه ، فلا فرق محسوسا بين “يائير لابيد” و”بن غفير” ، ولا بين “نفتالى بينيت” و”سموتيريتش” ، بل كلها صور تتناسل فى مجرى الهمجية بلا حدود ، وفى تأكيد معنى متصل على مدى العقود الأخيرة  ، زاد فيه ميل جمهور الكيان إلى النزعات اليمينية المتطرفة ، وتآكلت مظاهر الإدعاء اليسارى والديمقراطى ، وتضاعفت هيمنة ما يسمى “الصهيونية الدينية” ، التى ترفع شعار “إسرائيل الكبرى” ، وتريد إعادة احتلال قطاع غزة ، وضم الضفة الغربية كلها ، بعد التهويد الكامل للقدس ، جريا وراء أوهام وأساطير توراتية ، عارضوا على أساسها ترك سيناء والجلاء عن “غزة” ، ويرفضون ما يسمى “الوضع القائم” فى المسجد الأقصى ، ولا يكتفون بالتقسيم الزمانى والمكانى ، ويطمحون لإعادة بناء ما يسمى “هيكل سليمان” على أنقاض الأقصى ، ومضاعفة عدد المستوطنين فيما يسمى “يهودا والسامرة” ، التى هى الضفة الغربية ، وجلب ملايين اليهود لاستيطانها ، والاعتراف الحكومى الإسرائيلى بالمستوطنات العشوائية ، وإضافتها لمستوطنات رسمية ، يقال أن عدد شاغليها اليوم يزيد على 500 ألفا ، ودفع العرب الفلسطينيين إلى هجرة و”ترانسفير جماعى” إلى خارج فلسطين ، وبديهى أن ذلك كله لا يمكن له أن يتم بغير حرب إفناء شاملة ، واستخدام الحد الأقصى من القوة المسلحة ، وهو ما جربه الكيان الإسرائيلى مرات فى العقود الأخيرة ، وعجز فى كل حروبه عن هزيمة مقاومة غزة منفردة ، فما بالك بهدف سحق الفلسطينيين جميعا ، ومن دون وعى للحقائق الصلبة على الأرض اليوم ، أولها أن الشعب الفلسطينى الذى ينكرونه ويتعامون عن وجوده ، صار شعبا مختلفا عن الذى صادفوه وصادفهم فى نكبة 1948 ، ونفذوا فيه مجازر الطرد والتهجير وقتها ، وقذفوا إلى الصحراء بنحو 800 ألف فلسطينى ، تزايد نسلهم فى الشتات إلى نحو سبعة ملايين اليوم ، وظل مثلهم يواصل وجوده الراسخ فى الأراضى المحتلة بعدوان 1967 ، وفى الداخل الفلسطينى المحتل منذ عام 1948 ، أى أن الغلبة السكانية صارت للفلسطينيين من جديد فى فلسطين التاريخية كلها ، وهو ما تخوف منه “شارون” فى حملته العسكرية الدموية على الضفة قبل عشرين سنة ، وقال وقتها ، أن الإسرائيليين يعودون إلى حرب 1948 مع الفلسطينيين ، أى أن القصة تعاد كتابتها من أول سطر ، فقد كان الفلسطينيون المسلمون والمسيحيون هم أغلبية السكان عشية النكبة ، وهو ما يعود اليوم بإطراد ، بعد سبعة عقود ونصف العقد ، وكأن الفلسطينيون يعودون من منافى التاريخ ، ولكن ليس كحملان تفر من الذئاب هذه المرة ، بل كأسود فى عرينهم ووطنهم التاريخى المقدس ، وكشعب عفى يستعصى على الذوبان أو الاستئصال ، خبروا عدوهم فى المحنة التاريخية الطويلة ، وعرفوا نقاط الضعف فيه ، كما عناصر قوته وشراسته ، فإسرائيل اليوم ، تحمل على كاهلها كل أسلحة الدنيا وأعقد تكنولوجياتها وقنابلها النووية ، لكن الجسد الاستيطانى ، تستوطنه أمراض وعوارض التآكل ، ولم يعد بوسعه مد أقدامه وحضوره على كامل الأراضى المقدسة ، فقد تضاءلت الهجرات “اليهودية” إلى الكيان ، وكانت هجرة ما يسمى “اليهود السوفييت” ، هى آخر مدد مؤثر فى تدفقات الاستيطان ، بينما الكتلة الأخرى الكبيرة المتبقية خارج الكيان هى اليهود الأمريكيين ، وهؤلاء على استعداد لدعم الكيان بالهبات والتبرعات وحملات الضغط ، لكنهم لا يقبلون غالبا على الذهاب إلى أرض النار ، مستعدون لدفع نفقة “المطلقة” كما كان يقول الراحل المفكر “عبد الوهاب المسيرى” ، لكنهم لا يبدون رغبة كافية للذهاب إليها ومعاشرتها مجددا ، وهنا جوهر المعضلة الوجودية التى يعانيها كيان الاحتلال ، فقد بدأت سيرته بدعوى إقامة وطن قومى نقى لليهود وحدهم فى “أرض الميعاد” ، ولم يغفلوا شيئا فى التخطيط والتدبير والاستعانة بأقوياء العالم ، وزرع الكيان الاستيطانى الاحلالى فى قلب فلسطين ، لكن أى كيان استيطانى لا ينتصر ويبقى إلى النهاية ، إلا فى حال استئصال الشعب الأصلى أو تهميش وجوده ، وهو ما حدث ويحدث عكسه فى الحالة الفلسطينية ، وقد حذرعلماء السكان اليهود الصهاينة مبكرا مما أسموه “حروب غرف النوم” ، والفجوة المتسعة لصالح الفلسطينيين فى معدلات الإنجاب ، ومن العلماء إلى الساسة والمهووسين ، زحف الخوف إلى حركة الحاخام “مئير كاهانا” ، الذى كانت تفزعه حالات اختلاط اليهود بالفلسطينيين ، وزواج الفتيات اليهوديات من شبان عرب ، وقد قتل “كاهانا” على يد شاب مصرى بنيويورك فيما بعد ، وزحف تلاميذ وأبناء “كاهانا” اليوم إلى سدة الحكومة الإسرائيلية الجديدة ، وصار “بن غفير” و”سموتيريتش” وغيرهم فى عداد الوزراء لا المطاردين بحكم القانون ، يحملون راية الإفناء والتهجير الكامل للفلسطينيين ، ومن دون إدراك للحقائق المستجدة الصادمة لأوهامهم ، وقد لا يكون من بأس فى أن يحاولوا وسيفعلون ، ولن تكون النتائج المباشرة فى النهاية سوى بث الخوف والرعب والفزع فى أوساط ونفوس الإسرائيليين ، ودفع المزيد منهم لمواصلة أشواط الهجرة العكسية إلى خارج فلسطين ، وجعل “التطرف اليهودى” نكبة على “إسرائيل ” ذاتها ، بينما الفلسطينيون صاروا فى مكان آخر ، لا ترعبهم وحشية جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين ، وقد خبروهم واعتادوا على مقاومتهم ، فالمزيد من التطرف الإسرائيلى يستجلب المزيد من البسالة الفلسطينية ، ويخرس أصوات الاستنامة والتنسيق الأمنى والتعايش والتفاوض ، ولا يبقى فى الميدان سوى قضية الوجود لا الحدود ، فلا مهرب للفلسطينيين اليوم سوى إلى فلسطين نفسها ، ولا بديل عن المقاومة وتلبية نداء الدم والمعركة المقدسة ، وجعل بقاء  الاحتلال نقمة على أصحابه ورعاته ، وليس بوسع كيان الاحتلال مهما قتل ، أن يبارى الفلسطينيين فى مواجهات بلا أسقف ، ينزف فيها الطرفان ، لكن مقدرة الفلسطينيين على الصبر واحتمال التضحيات بلا حدود ، والتصاقهم بأرضهم ومقدساتهم لا ينافس ، وشعبهم الراسخ المتكاثر المتعلم العفى المؤمن بقضية التحرير ، يوالى عاداته اليومية فى ولادة الجند والشهداء والأغانى ، ويثق فى نصر الله مهما استطال الزمن ، ومهما تزايدت العقبات والمكاره ، فقد سقطت اتفاقات “أوسلو” وقيودها فعليا ، وسقط عهد الاحتلال زهيد التكلفة ، ولم يعد عند جيش الاحتلال من اختيار ، سوى أن يدفع تكلفة الدم ونسف الهدوء المصطنع ، أو أن يقرر الرحيل من طرف واحد ، تماما كما فعل فى غزة قبل نحو عشرين سنة .

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى