شعراء سورية وبيع الهواء.. من “مونادا دمشق” إلى “شحاحيط” محمد عُضيمة (1)

إبراهيم الجبين

كان عليّ أن أعبر قوساً من الزمن تمتد لأكثر من ثلاثين عاماً مضت، حين كتبت عن الشعراء السوريين لأول مرة، وعندها كنّا رهطاً من الشباب يكتبون الشعر في تحدٍّ كبير لكل شيء تقريباً، اللغة والخيال والنمط والأفكار، الديني والسلطوي والتقليدي، لا نجدُ في ما ننظر إليه من حولنا في سوريا (الداخل) تجارب تستحق الكثير من التقدير باعتبارها ارتبطت بدوافع غير شعرية كل مرة.

كآبة نزيه أبو عفش كانت تقف حائلاً دون التفكير بحرية في شعر جديد، على الرغم مما كان يأتينا حينها من خارج الحدود، كدواوين نوري الجراح وسليم بركات التي كانت تُشعرنا ببعض الغبطة بأن هناك سوريين يحاولون المضي بالقصيدة نحو أفق آخر. ولأننا سوريون، ولا نؤمن بالحدود القطرية المصطنعة، كما كانت تسمى، فلم يكن ثمة فرق بين قصيدة سركون بولص وقصيدة محمود درويش أو قصيدة أي شاعر سوري في احتساب المكاسب والخسارات على مستوى الفتوح الأدبية، الصياغات والصور وتقدّم اللغة، وكل ذلك كان يسهم في تحديث أو تدهور الشعر السوري.

ذريعة قصيدة النثر

وكان في المشهد عشرات الشعراء والشاعرات ممن كانوا جادين بالفعل في اتخاذ هوية الشاعر هوية لهم، كان ذلك برّاقاً ومقبولاً ولذيذاً لكثيرين، لكنه أيضاً كان سهلاً على كثيرين، فلا فارق كبير بين أن تكتب خاطرة أو تسميها قصيدة نثر، في ذروة صراع قصيدة النثر لكسب شرعيتها. وإن انقض عليك النقاد سوف تعتبر ذلك بسرعة جزءاً من هجومهم على قصيدة النثر ”المناضلة“، بمواجهة قصيدة التفعلية والعمود الخليلي.

في هذه اللحظة، انقلبت العدسة، وبات من يكتبون في ”الخارج“ أكثر من أولئك الذين بقوا في“حظيرة الأسد“، فما عسانا نجد إن أمعنا النظر وإذا ما استعملنا المنطق ذاته من جديد؟

كان الكل يبحث في الواقع عن فسحة حرية، سواء كتب قصيدة أو رواية، أو رسم لوحة أو قدّم مسرحية، ومع انهيار آمالنا بحدوث تغيير بعد قدوم بشار الأسد وريثاً لأبيه، بدا لي المشهد منذ تلك اللحظة مختبراً حقيقياً، آثرتُ أن أقيم مسافة مع مناخاته، لائذاً بالرواية، كي أرى بصورة أدق ما الذي يمكنه أن يقدّمه الشعراء السوريون من جديد.

الجمال لم يكن كافياً، واللغة استهلكت كل أدوات مناطحتها، حتى ابتذلها البعض في قصائد كاريكاتيرية كتلك التي كتبها محمد عُضيمة في دواوينه ومن بينها:

”شحاحيط وطناجر

على شرفة الحبيب“.

أو:

”نتفتُ شعر حواجبي

كي أذهب إلى عند الطبيب وأبدو

ضليعاً في اللغة،

وأستخدم في عيادته أدوات

الجزم،

وأسماء النصب فقط“.

ومثل تلك المقاطع والمزيد منها ورد في كتب عضيمة ”لا لا لن أعود إلى البيت“، وكذلك ”يوميات طالب متقاعد“ و“ما حدث في السينما“، وهو يقول بنفسه في نهاية كتابه ”أشد بياضاً من البياض.. كراكي طوكيو البيضاء“ الصادر عن دار التكوين: ”إياكم والشعر، لأنه وبكلمة واحدة، كلمة ع الطاير: مضيعة للوقت، ومزبلة العواطف“!

هذا المستوى من الكتابة، لم يكن يعكس ثقافة وسعّة اطلاع عضيمة، الذي كان باحثاً في التراث العربي وشعر التصوف، ويقضي حياته في اليابان من زمن طويل ممثلاً للثقافة العربية في العالم الأكاديمي لتلك البلاد، إنما كان انحطاطاً شعرياً مقصوداً الغرض منه السخرية من الشعر ذاته. لكن ما الذي أحدثه مثل هذا الفعل في الشعر السوري؟ هنا يجب التوقف.

اليومي المبتذل

أضف إلى ذلك ما سعى إليه منظرون معروفون لتقديم قصيدة اليومي والمعاش البسيط معتمدين على تألق اسم محمد الماغوط، باعتبار هذا النمط من الكتابة هو الرد على القصيدة المحافظة أو تلك المحمّلة بالأيديولوجيا والأفكار النضالية التي صدرتها لنا الحركية اليسارية العالمية.

شرعن ذلك ظهور طبقة من الشعراء ترمي للقراء بقصاصاتها، كما لو كانت ذات قيمة، دون أي تردّد أو برهة تفكير ومراجعة، كلام مثل الكلام، وصور يمكن أن تقرأها وتسمعها مرات عديدة لأكثر من شاعر وشاعرة. أما الوجدان فكان يعبّر عنه بالحب والالتياع والتبسيط حدّ الابتذال، ولكن مع تسامح غير عادي مع بعض الشعراء الذين يكتبون عن تطلعاتهم القومية، فقد تم اعتبارها من مفردات القصيدة المحافظة ”اللعينة“، على حدّ وصف أصحاب الفتاوى الأدبية في تلك الفترة.

وحده الشاعر السوري الكبير الراحل محمود السيد الذي كان يعيش في قبوه الدمشقي، واصل مشروع قصيدة الرؤية التي انطلقت مع ”مونادا دمشق“، وتألقت مع ”سهر الورد“، لكن السيد كان قد قاطع المشهد، كما قاطع النهار، ومع انطلاق الشعر اليومي المريب والشعر الكاريكاتيري المهلهل، ابتعدت قصيدة الرؤية التي كنا نكتبها عن الساحة، ترفّعت عن الخوض في ما بات يشبه المستنقع البعيد ليس فقط عن جمهور القراء بل أيضاً عن الشعراء أنفسهم والنقاد والمتابعين وصار الشعر السوري حديث سهرات للتسلية لا أكثر، ووسيلة لصنع ”برستيج“  يغطي خلفه نشاط كل شاعرة وشاعر، وفي بعض الأحيان وسيلة كسب مادي ومشاركات في مهرجانات محلية وعربية ودولية، بل حتى إقامتها في سوريا ذاتها على يد بعض الشعراء الذين كانت تقوم شركة ”سيرتيل“ المملوكة لـ (رجل الأعمال) رامي مخلوف ابن خال دكتاتور سوريا، برعايتها ودعمها مادياً، أما المحتوى المكتوب فلم يكن يعلم به إلا الله، وبتناول تأثير نزار قباني وأدونيس والماغوط على مسار تخلّق الشعر السوري وما وصل إليه بدءاً من الثمانينيات، سيكون للحديث بقية

المصدر: موقع  تلفزيون سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى