عن دار موزاييك للدراسات والنشر صدرت رواية للكاتب عيسى الشيخ حسن، وهي أول عمل قرأته له. خربة الشيخ أحمد رواية أقرب للسيرة الذاتية لمنطقة الجزيرة السورية، في فترة زمنية تمتد لعقود منذ بداية القرن العشرين حتى الثمانينات منه. حيث يعتمد الكاتب لغة السرد على لسان الراوي، متتبعا حياة مجموعة بشرية واسعة، لنقل مجتمعات صغيرة تتشكل عبر الزمن و تكبر وتتمدد في المكان وتصنع حياة وحكايا، حب وصراع وامتداد في المكان والزمان .
مسرح الرواية عالم يمتد حول الفرات والشمال الشرقي السوري، حيث وصلت عائلتين صغيرتين من أصول عربية احدها يمتد جذورها في العراق والأخرى تمتد الى الجزيرة العربية. متنقلين مع مواشيهم وخيامهم. حيث يستقرون متجاورين في منطقة الصفرة وخربة الشيخ احمد، المسماة على اسم كبير عائلتها، على مسافة فاصلة بينهما حوالي ساعة من المشي تقريبا.
كان ذلك في بداية القرن العشرين، استقرت العائلتان وبدءا رحلة المنافسة، بين كبيريّهما الشيخ عبد اللطيف والشيخ احمد، بدء من خيولهم الاصيلة ومرورا بتطورات الحياة التي ستأتي لاحقا.
يتزوج الشيخان أكثر من مرة وينجبان الكثير من الأولاد، يكادوا لا يحسّون بما يحدث حولهم من انتهاء عصر العثمانيين ومجيء المستعمر الفرنسي، انهم على هامش الأحداث الكبيرة التي تحصل في البلاد سوريا او العراق المجاور.
لم يكن لدى العائلتين أي فرصة للتعليم إلا عن طريق بعض الشيوخ الذين يعلمون الأطفال مبادئ القراءة ليتمكنوا من قراءة القرآن وبعض الكتب الدينية. ومع مرور السنين سيبدأ إرسال الأطفال إلى المدارس التي بنتها الحكومة في بعض البلدات الكبرى المحيطة بهم. كان على الاطفال المسير لساعة من الوقت حتى يصلوا إلى مدارسهم. في ظروف قاسية في شتاء قد يكون ممطرا. لم يكن الأهل مهتمين كثيرا بتعليم اولادهم. لأنهم يدخلون أولادهم عند كبرهم في دورتهم الحياتية الأقرب إلى الرعي والتنقل في حيز محدد. لذلك لم يكن يتجاوز اغلب الاولاد المرحلة الابتدائية، والبعض القليل يصل المرحلة الاعدادية، والنادر من يتجاوزها إلى المرحلة الثانوية، ولا يدخل الجامعة إلا الموسرين والمتفوقين ونموذجهم ياسين بن الشيخ عبد اللطيف.
الحياة في الصفرة وخربة الشيخ احمد تعتمد على هيمنة وحضور الاب الاكبر المؤسس الشيخ عبد اللطيف والشيخ احمد في اسرة ممتدة وواسعة. هناك حضور طاغي للنساء لكنه مستتر خلف قرارات الرجال العلنية. العلاقات بين الناس قائمة على إدراك كل طرف قيمة الآخرين وقيمة ذاته. تعظيم الكبير والغني وابن العائلة العريق. الكرم الذي يصل الى حد التبذير سمة عامة، حيث يعبر الكرم عن قيمة الطرفين المكرِم والمكرَم. وخاصة في المناسبات العائلية من زواج وعزاء وفض خصومة، وحتى زيارة الضيف التي تعتبر مهمة جدا في بلاد نائية لا يأتيها الناس إلا بأسباب وجيهة.
نادر ما يحضر غريبا ويستقر في القريتين تكاد تكتفي بأبنائها واولادهم وزوجات اولادهم اللواتي يكن من القرية او البلدات المجاورة.
حضر الى قرية الصفرة الأستاذ عبد العليم ياسين وزوجته، كان متعلما و اقرب لان يكون طبيبا. وكانت الصفرة بحاجة له ولمهنته، رحب به الشيخ عبد اللطيف كبير العائلة، واقتطع له أرضا وساعده في بناء بيت وجعله من اهل بلدته. لم يتكلم عبد العليم عن نفسه وأصله وفصله، ولم يطلب منه الشيخ عبد اللطيف تفاصيل ذلك، لإدراك عام بأن الناس اسرار وقد يكون لكل منهم حكايا مثل الثأر وغيره لا يودون البوح بها.
أنجبت عائلة الاستاذ عبد العليم طفل اسموه ياسين. لم تستمر حياة الاستاذ عبد العليم وزوجته طويلا، حيث ماتا في حادث سير عند انتقالهم من قرية لأخرى ولم ينجو إلا الرضيع الصغير ياسين. وبما انهم لم يكونوا يعلموا عن الاستاذ عبد العليم شيئا فلم يكن الا ان الحقوا ياسين بعائلة الشيخ عبد اللطيف وكأنه ابنا لهم. حيث تبته زوجة الشيخ الثالثة واعتبرته أخا لابنتيها من الشيخ، وهكذا دارت به على كل نساء القرية للرضاعة، حيث اصبح اغلب النساء امهات له واغلب البنات والاولاد إخوة له بالرضاعة.
جاء من طالب بياسين وتبين أنهم نصّابين جاؤوا يساومون على الطفل ليحصلوا على بعض المكتسبات من الشيخ عبد اللطيف، وهكذا ردهم خائبين، واهله الحقيقيين لم يكونوا يعلموا بولادته، وصلهم خبر موت والده ووالدته ولذلك لم يبحثوا عنه ابدا.
كبر ياسين في حضن الشيخ عبد اللطيف الذي أصبح معمرا، وكان فتى متميزا، ذكاء وجمال ورصانة، درس في القرية حيث كان قد طالب الشيخ عبد اللطيف بفتح مدرسة في القرية واستجابت الحكومة لطلبه. تابع ياسين دراسته الابتدائية بتفوق وكذلك الإعدادية والثانوية، رغم انتقاله الى بلدة مجاورة وتفوق ايضا، ومنها قرر ان يكمل دراسة الحقوق في الجامعة حيث كان يدرس عن بعد ويذهب اليها لتقديم امتحاناته فقط.
كان ياسين اول من غادر قرية الصفرة الى الجامعة، حيث اصلح ياسين وزميله ابن عائلة الشيخ احمد العلاقة المتنافسة بين شيخي القريتين، من خلال تواجدهم في المدرسة ومعاملتهما الجيدة مع بعضهما سببا في عودة الود بين العائلتين، ليصبح الشيخين من اقرب الناس الى بعضهم خاصة بعد أن امتد بهم العمر.
حصلت مستجدات على حياة الصفرة والخربة، سواء من متابعة الحرب العراقية الايرانية التي اندلعت بين الدولتين حديثا ولا حاجة للتأكيد على تأييد أهل القريتين للعراق حيث يعتبرون منطقتهم امتداد طبيعي له. كما اشار الكاتب عابرا عن مشكلة امنية في سوريا، مشيرا بشكل غير مباشر الى الصراع بين النظام والطليعة المقاتلة الاسلامية، رغم انه لم يظهر اي اثر لذلك في منطقتهم. سوى بعض الدوريات الامنية التي تعترض أهل القريتين في تنقلاتهم من مكان لآخر متابعين أعمالهم.
كما حدث متغير مهم في حياة الصفرة والخربة، الا وهو نزوح عائلة الفواز الكبيرة من بلدتها بعد أن قتل ابن لهم ابن عائلة ثانية في احد الاعراس حيث يُطلق النار دون دراية ومسؤولية، واعتبرت العائلة الأخرى ان هذا مقصود ردا ثأرا لمقتل احد ابناء هذه العائلة في وقت مضى، وافتى أهل الحل والعقد في البلدة بدفع الدية وتهجير العائلة خوفا من طلب الثأر.
أجار الشيخ عبد اللطيف العائلة ووضعها تحت حمايته، كانت العائلة ميسورة وتملك الأراضي وتعمل في الزراعة على ضفاف الفرات، وفي عشية وضحاها أصبحت منفية ومطلوبة للثأر وتحت حماية الشيخ عبد اللطيف. ساعدهم في استئجار أرض والعمل بالزراعة فيها. كان لدى العائلة ابنة جميلة متميزة تدعى حسنة تعتبر الأجمل من بنات جيلها. استرعى اهتمامها ياسين المتميز وهو الابن المدلل عند الشيخ عبد اللطيف وامه المتبنّية له. حصل بينهما مشاعر متبادلة دون تصريح. الشيخ عبد اللطيف قرر أن يرسل ابنه ياسين الذي يدرس المحاماة مع عائلة الفواز الى المحكمة ليتابعوا قضية ابنهم ويروه أيضا، وهذا سيعطي فرصة للتواصل بين حسنة وياسين، لكن تحت عين امها ومتابعتها. لم تكن أم حسنة مرتاحة الى ميل ابنتها إلى ياسين. لاعتقادها أن ياسين ولد غير معروف نسبه وعائلته. رغم أنه الأغلى والأعز عند الشيخ عبد اللطيف. وهذا ما واجهت به ابنتها وياسين نفسه، عندما تحدث أنه ينوي ان يطلبها للزواج. لقد اندفع ياسين في مساعدة عائلة حسنة، ذهب معهم الى المحكمة، وجاء اخ المقتول محاولا أن يقتل اخو حسنة عندما حضر للمحكمة، واجهه ياسين وأصيب بطلق ناري بكتفه وتم معالجته، زاد هذا من ارتباط ياسين وحسنة، وساعد في حل مشكلتهم مع اخصامهم الذين أحسوا أنفسهم خصما للشيخ عبد اللطيف القوي وتنازلوا عن ثأرهم و قبلوا بالصلح. ولكن طعنة والدتها في أصل ياسين المجهول جعلته يصر على البحث عن اهله من جهة والده.
عاد ياسين الى أوراق والده، وعرف انه من احدى قرى إدلب، ذهب الى هناك ومن خلال بحثه، تعرف على اخواله، الذين كانوا عائلة كبيرة ومهمة، استقبلوه بكل حب وترحيب، حدثوه عن عائلة أبيه وأين يتواجدون، وأنهم متورطون في ثأر ويجب ان لا يعرفون بوجوده حتى لا يقتلوه ردا للثأر. ذهب بصحبة اخواله والتقى باهل ابيه وعلم انهم من ذوي أصل عريق، وتعرف على سلسلة العائلة إلى الجد السابع. اخبرهم انه يحتاجهم وهم أهل أبيه وأمه حتى يخطبوا له الفتاة التي يحبها. رغم ان الشيخ عبد اللطيف يعامله على انه اغلى من ولده. وبالفعل اتفقوا على وقت يحضرون به الى الصفرة ويطلبون البنت حلالا له. حيث كانت الأم قد قبلت به بعدما عرفت أصله وفصله، وان ابنتها متعلقة به.
عاد ياسين محملا باخباره عن أهله وعن الموعد الذي حدده ليطلب حسنة زوجة له، اكد للشيخ عبد اللطيف أنه هو وأمه التي احتضنته اهله الحقيقيين لأنه ربوه ورعوه، وانه لن يتخلى عنهم ابدا، مما أثلج قلب الرجل التسعيني. واكد لحسنة انه التقى ببنات اعمامه واخواله وبقية اهله، لكن هي الأولى التي سكنت قلبه ولم يتزوج غيرها.
عند الوقت المعلوم جاءت جاهة كبيرة لطلب يد حسنة الى ياسين، كانت الأكبر في تاريخ الصفرة والخربة، واتفقوا على كل الشروط، وقبل العقد الرسمي عن طريق شيخ البلدة، حضر ابن عم لحسنه وحيّرها، يعني منع خطبتها وطلبها لنفسه، وقال انه اولى بالزواج منها من الغريب. وكادت تنتهي تلك الخطبة، لولا أن تدخلت أم حسنة، وحدثت الشاب واخبرته انه يعتبر أخا لحسنة بالرضاعة، وأثبتت له ذلك بالوقائع، وهكذا ابتعد عن طريق حسنة وتمت اجراءات الزواج.
هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها اقول:
اننا امام رواية متميزة جدا حيث تعيد إحياء تاريخ اجتماعي لأهل تلك البلاد في قرن من الزمان من أواخر حكم العثمانيين الى ثمانينات القرن العشرين. البنية العائلية الهرمية الممتدة، الزواجات المتعددة. الأولاد الكثر، العادات والتقاليد المهيمنة والحاكمة الممتدة لعشرات السنين، مثل الثأر والاولوية في الزواج لابن العم. الناس المنعزلين عن العالم تقريبا، المكتفين بما في ايديهم مع التبادل الاقتصادي التجاري مع المحيط. هيمنة العقلية الابوية والاحترام للكبير، الكرم الزائد الذي يصل الى التبذير، الوفاء والشرف، معايير مهمة في حياة الكل، الكل يعرف نسبه الى جدود بعيدة، يعرف ويفتخر وبنافس الاخرين في ذلك. الدولة حاضرة على هامش حياة هؤلاء الناس، عرفوها من خلال المخافر في بلداتهم والمحاكم في المدن والمدارس التي بدأت تغزو بلادهم بعد الاستقلال. لم يتحدثوا عن العثمانيين ولا الفرنسيين المحتلين ولا عن الدولة بعد الاستقلال ولا عن دولة البعث و هيمنتها المطلقة على حياة الناس، علموا بشكل هامشي واقع الصراع بين النظام والقوى الإسلامية المقاتلة في أوائل ثمانينات القرن الماضي، نعم علموا بالحرب العراقية الايرانية عبر التلفزيونات التي دخلت حياتهم حديثاً. وعبر متابعات إذاعة لندن التي يعرفون من خلالها اخبار الدنيا وبلادهم.
اعترف ان الرواية من خلال التأريخ والسيرة والمضمون وحتى الحب المعاش، سحرتني واسرتني، وجعلتني استعيد حياة جزء من مجتمعنا وبلادنا بكثير من التشويق والحميمية.