لا نؤثِّمَنّ “حماس” على فعلها التحرّري

جورج كعدي

كلّا، ليس مغامرةً ما أقدمت عليه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في 7 أكتوبر (2023)، بعد طول إعداد وتخطيط، وليس نزوةً أو نزقاً أو رعونةً، بل هو فعل تحرّري بكامل المواصفات والتعريفات والشروط، غير متأتٍّ من عدم، وإنّما وليد تاريخ مديد من القهر والقتل والحصار والتجويع والإذلال والمجازر المتتالية، وإنْ أصغر من الإبادة الراهنة. لا يُلام شعبٌ يائسٌ معذّب ومقهور إذا انتفض يوماً على قاتله ومُجوِّعيه ومُحاصِريه (وهل يُلام؟!)، ولا يُخَطَّأ إن هو انقضّ على جلّاده وخلع (فعلاً لا مجازاً) أبواب سجنه الكبير، الذي وصفه الأكاديمي اليهودي الشريف نورمان فنكلستين، بالسجن الأكبر في العالم، في الهواء الطلق، الذي يضمّ أكثر من مليوني إنسان ثلثُهم من الأطفال والعجّز والنساء. أمّا منطق “الحسابات”، الذي يُشهره بعضهم في وجه “حماس” لاتهامها بأنّها أقدمت على “الطوفان”، من غير أن تحسب جيّداً ردّة فعل العدوّ المجرم، فهو منطق متهافت أصلاً، لأنّ الشعوب كلّها، التي نالت حرّيتها في التاريخ، وهزمت المُستعمِر أو المُحتلّ بذلت في سبيل هذه الحرّية دماءً كثيرةً، وأعداداً كبيرةً من الضحايا والشهداء، قد بلغت أحياناً مئات الآلاف، أو الملايين، لتعتق نفسها في النهاية من نير الاستعمار والاحتلال. لا حسابات في انتفاضات التحرّر، بل اندفاع في اللحظة الممكنة، المتاحة، وليكن بعدها ما يكون، فالتوق إلى الحرّية لا يلجمه تحسّبٌ أو تردّدٌ أو تجابنٌ وإحجام، بل إقدامٌ مملوء شوقاً إلى الانعتاق، ونشداناً له بعد دهر من القهر.

لا يجوز، في أيّ حال، النصح في وقائع مماثلة، لا يُدرك كنهها وحقيقتها إلّا المكتوي بجمراتها وبنار الحصار والاحتلال، والمُكتوون هم أهل غزّة أنفسهم، فلا يُزايدَنَّ عليهم أحد منّا في هذا الاتجاه أو ذاك، رفضاً أو تأييداً، مدحاً أو هجاءً. لا يحقّ لنا جميعاً التنظير في مسألة غزّة، لأنّ أهلها هم الذين يموتون ويكابدون تاريخيّاً أقسى أشكال الألم والاستباحة. هم في “قلب الجحيم” (لو استعرنا عنوان جوزف كونراد معدّلاً) وهم “المعذّبون في الأرض”، بتعبير فرانز فانون. ينبغي ألّا يُخاطَبوا بـ”كيف؟” ولا “لماذا؟”، وإنّما بالخشوع وإحناء الرأس إجلالاً أمام تضحياتهم التي فاقت كلّ تصوّر وخيال. ليس الوقت للمحاسبة، ولا لإلقاء اللوم على هذه الجهة أو تلك، ولا للتفاصح بأنّه لو حصل هذا أو ذاك لما حدث ما حدث… إلى آخر الاجتهادات والمزايدات على أصحاب القضية وأهل المأساة.

لا يُلام شعبٌ يائس معذّب ومقهور إذا انتفض يوماً على قاتله ومُجوِّعيه ومُحاصِريه

بالعودة إلى التقويم الموضوعي، الجدلي العميق، الذي قدّمه المفكّر عزمي بشارة في قراءته المكثّفة لحدث “7 أكتوبر” التاريخي، تحت عنوان “الطوفان… الحرب على فلسطين في غزّة” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2024)، ناظراً إلى ما جرى من مختلف الزوايا والاعتبارات، بجدليّة شافية ووافية، تقدّم الإجابات عن كلّ سؤال أو مأخذ أو ملاحظة، بلوغاً إلى حيث يمكن تحميل “حماس” بعض المسؤولية، بعد تحميل كيان الاحتلال كامل المسؤولية، وعلى نحو مطلق. يشير بشارة إلى “أن انسحاب إسرائيل من داخل غزّة عام 2005 لا يعني نهاية الاحتلال”، وفي هذه الإشارة ردّ على بعض الذين كانوا قد صدّقوا أن غزّة تحرّرت من الاحتلال ومفاعيله، فيما ظلّت إسرائيل، بحسب تعبيره، “قوّة احتلال في غزّة من خلال تحكّمها في حركة سكّانها، وفي كلّ ما يدخل إليها ويخرج منها، وفي بحرها وأجوائها، وحوّلتها إلى معسكر اعتقال كبير هو الأكبر في العالم، حيث يُسجن فيه أكثر من مليوني فلسطيني”.

واقع غزّة هذا يفضي بالباحث إلى القول جازماً بتعبير بليغ: “لم يغمر الطوفان الأرض من العدم”، مدعّماً نظرته الصائبة بكلام الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، القائل بموضوعية لا لبس فيها أو شكّ: “من المهمّ أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدث من فراغ، وأنّ هذه الهجمات لا تبرّر القتل الجماعي الذي تشهده غزّة”. إذ يؤكّد بشارة أن “الطوفان” لم ينشأ من عدم، بل من تراكم ما سماه “شقاء غزّة ومحنتها”، يغلّب في المقابل موضوعيته بالقول “إن في عملية الطوفان تجاوزاً للمنطق الدفاعي الردعي بوصفه الوحيد الممكن كما تبيّن من تاريخ الكفاح المسلّح الفلسطيني”، عادّاً أن “حسابات هذه الحرب خاطئة، فاستراتيجية الكفاح المسلّح الممكنة في الظروف الراهنة هي الردع والدفاع مع هامش واسع لعمليات استنزاف تمنع تطبيع حالة الاحتلال، وتعوق تحوّله إلى وضع عادي لا تزعج روتينه أيّ مقاومة”. ويؤكّد مع ذلك أنّ عملية طوفان الأقصى حقّقت هدف “التصدّي لتهميش القضية الفلسطينية، من خلال التطبيع بين دول عربية وإسرائيل، من دون حلّها حلّاً عادلاً”، وقد أفشلت العملية في رأيه هذا التهميش، وإن لم تقل قيادة “حماس” أنه من أهدافها. فضلاً عن تحقّق أمر آخر هو “اتساع التضامن العالمي مع فلسطين نتيجةً للجرائم الإسرائيلية، التي لم تخطّط لها حماس بالطبع”، لافتاً إلى أن “السلوك الإسرائيليّ شديد الهمجية”، ليس سببه “طوفان الأقصى”، بل “يرجع إلى النزعة الثأريّة وسياسات العقوبات الجماعية”، مشيراً إلى أن الحرب الإسرائيلية “تجاوزت هدف القضاء على حماس إلى شنّ حرب إبادة”، وجازماً بأنّه “لا يمكن تفسير السياسات الإسرائيلية من دون دوافع الانتقام”، فضلاً عن سعي نتنياهو إلى “انتصار مطلق” عبر اجتياح غزّة كلّها، أي احتلال القطاع بأكمله، وجعله تحت السلطة الإسرائيلية، متحدّياً الضغوط الدولية، بما في ذلك الأميركية. وفي النتائج الإيجابية التي أتى بها “الطوفان”، يُعدّد عزمي بشارة بعضها: “تولّد خلال الحرب على غزّة تضامن شعبي عربي وعالمي غير مسبوق مع الفلسطينيين، ونفور من الهمجية الإسرائيلية. كما أنّ الحرب أفشلت عملية تهميش القضية الفلسطينية. وبدأ هذا التحوّل في الموقف تجاه ضرورة حلّ القضية يتّخذ صيغاً بنّاءةً، مثل اعتراف دول غربية بدولة فلسطين، ضمن مبادرة تقودها إسبانيا”.

لا حسابات في انتفاضات التحرّر، بل اندفاع في اللحظة الممكنة المتاحة، وليكن بعدها ما يكون

جوانب إضافيّة في مسألة تأثيم “حماس” ولومها وجَلدها، تحسن الإعلامية لميس أندوني، ومن منبر “العربي الجديد” (30/3/2025)، تفنيدها وعرضها، إذ تكتب في مقالها “”بدنا نعيش”… صرخة غزّة”، “من المخجل أن نرى أصواتاً، وبخاصّة من خارج فلسطين، تغتنم الفرصة لتبثّ سمومها ضدّ المقاومة الفلسطينية، فهذه الأصوات تنبذ المقاومة، أيّاً كانت هُويَّتها الفصائلية، فنحن في زمان الهوان والتطبيع مع القاتل الصهيوني”، لتضيف: “اتخذت حماس قرار القيام بعمل مقاوم ضدّ إسرائيل غير مسبوق في 7 أكتوبر، تبعه انتقام وحشيّ غير مسبوق من العدو الصهيوني، لكنّ حماس لا تتحمّل وزر توحّش الجيش الإسرائيلي ومشاركة أميركا ودول غربية في حرب استُعملت فيها آلاف الأطنان من القنابل”، وإذ تدعو أندوني “حماس” إلى مراجعة نقدية قاسية لنفسها، إلا أنّ حركة المقاومة هذه برأيها “سبّبت صدمةً لإسرائيل وحلفائها، وأربكت حسابات أميركا”، مؤكّدة “أن حماس ليست المستهدفة في حرب الإبادة، بل الشعب الفلسطيني ككلّ… ووضع حماس صعب، ليس لأنها لا تريد إيقاف الحرب، بل لأن إسرائيل لا تريد ذلك”.

الحقيقة الواقعية، أن الردّ على أيّ فعل يكون ردّاً تناسبياً، أو ينبغي أن يكون كذلك. فما السبب الذي جعل الردّ على فعل “7 أكتوبر” التحرّري، البطولي، والمتقن إعداداً وتنفيذاً، ردّاً غير متناسب في المعايير المعتمدة تاريخياً كلّها، حتى في أشدّ الحروب الوحشية التي عرفتها البشرية؟… السبب في تقدير كاتب هذه السطور هو الشخصية الصهيونية المريضة، المذعورة والموتورة منذ نشأتها، التي لا تقف في نزوعها الإجرامي والانتقامي الحاقد عند حدّ، منذ النكبة عام 1948، وما سبقها وما تلاها، من مجازر وترحيل واعتداءات مستمرّة على الفلسطينيين والدول المجاورة. إنه ردّ غير متناسب نابع من خوف وجودي ثابت لدى مجموعة من “شذاذ الآفاق”، تعلم أنها استولت على أرضٍ ليست أرضها (إلا بالزعم التوراتي الخرافي، الذي لم يصدّقه ولم يؤمن به، حتى روّاد الصهيونية الملحدون غير المؤمنين باعترافهم هم)، وأنها لا تملك جذوراً في هذه الأرض، وأنها تحيا دوماً حالةً من الاضطراب الوجودي المُهدِّد، لذا تُبالغ في ردّات الفعل من خوف وجُبن وقلق على المصير في محيط معادٍ نابذٍ لوجودها الشاذ. وثمّة سبب شخصي خاص بنتنياهو، الذي تستبدّ به عقدة “ملك إسرائيل”، في منزلة بين منزلتَي الملك سليمان والسفّاح التوراتي يشوع بن نون، المثال الأعلى والقدوة لنتنياهو في حربه الإباديّة أخيراً، والمستمرّة. ولدينا عامل الذريعة، فقد حلم أربابُ الصهاينة تاريخياً، من بن غوريون إلى نتنياهو، مروراً بغولدا مائير وإسحق رابين، بالاستيقاظ من كابوس غزّة، ورؤية القطاع وقد ابتلعه البحر، أو دُمِّر عن بكرة أبيه، مثلما هي حاله اليوم. هذه هي الحقيقة الثابتة، وليس عمل “حماس” التحرّري، الذي توسّله عتاة المجرمين الصهاينة مجرّد ذريعة لتدمير الحجر وقتل البشر، بوحشية ثأريّة حاقدة لا ترتوي دماً ولا تشبع قتلاً وتنكيلاً. فلنبحث عن الحقيقة في الشخصية الصهيونية المريضة، لا في شخصية المقاومة القويمة، التي لم تُخطئ بقيادتها مشروعاً تحرّرياً لأبناء شعبها، وهذا حقٌّ لا ينكره عدلٌ، إنْ وجد في هذا العالم العبثي المنحرف والظالم.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى