قراءة في رواية: لقيط وأمّه ومئة امرأة

أحمد العربي

بلال البرغوث روائي سوري شاب مجدٌّ، قرأت له رواية ممالك البحر الاحمر ورواية ثلاث لاجئين ونصف وهذه روايته الثالثة الصادرة عام ٢٠٢١م.

لقيط وأمّه ومئة امرأة، رواية صادرة عن دار موزاييك، تعتمد السرد على لسان الراوي، زمانها معاصر جدا ، في سنوات ما بعد الربيع العربي. ومكانها ألمانيا البلد الأوروبي. شخصياتها المحورية كثيرة، لكن الأكثر حضورا ومحورية في الرواية، هم نيار الشاب المصري الذي يعمل في قسم الآثار في برلين مع فريق الماني. وكذلك ايلا الفتاة اليهودية ذات الأصول الألمانية والتي استقرت مع عائلتها في الكيان الصهيوني وعادت الى المانيا لأنها لم تحتمل التمييز العنصري الذي وجدته من الصهاينة تجاه الفلسطينيين. وهناك شخصيات كثيرة أخرى.

تبدأ الرواية من نيار الشاب المصري الاسمر المميز بحضوره القوي واندفاعه الشبقي اتجاه الجنس الاخر. يعمل في قسم الكشف الفني على الآثار بصفته خبيرا معتمدا عندهم. علاقته مع رئيسته ملتبسة، حافظ على مسافة بينهما رغم كونه عاجلها بعلاقة جنسية مفاجئة في ظروف العمل، بقيت غريبة على مديرته، كان أقرب إلى المهووس جنسيا، له الكثير من العلاقات الجنسية مع كثير من النساء في برلين، علاقات عابرة، وقد تتكرر، لكنها لم تدخل الى صلب ذاته ومكنونات نفسه، حيث كان له قصته المؤلمة التي جعلته يهرب منها وبسببها إلى ألمانيا.

نيار ابن امرأة تونسية الأصل جاءت إلى مصر هاربة من أهلها باحثة عن فرصة عمل فني، لكنها وجدت نفسها فريسة للرجال الذين تلقفوها كجسد مباح، وسرعان ما أصبحت عاهرة تعيش بجسدها، حملت طفلها نيار من علاقة حرام، وانجبته. كبر وعاش وأدرك واقع أمه وما هي عليه. عاش ضحية شعور بالعار وكان يلقب بين الاطفال ومن حوله ابن الحرام، مع ذلك، قدمت له أمه كل سبل العيش، وتابع دراسته بالآثار. هرب من مصر في أول فرصة سنحت له إلى ألمانيا محاولا نسيان أصله وعاره، وعاش علاقات جنسية كثيرة عابرة لا تترك في ذاته اي بعد عاطفي او نفسي، وكأنه ينتقم لمشاعر العار التي تلازمه كونه ابن حرام.

في ألمانيا عمل في قسم الكشف الفني على الآثار، وكان على علاقة ملتبسة مع مديرته، مارس الجنس معها أكثر من مرة، لكنه لم يجعل العلاقة معها حميمية وتدخل إلى أعماقه وما يجول في نفسه وما يعاني.

في ألمانيا كانت موجة اللجوء الكبيرة من بلدان الربيع العربي وخاصة سوريا حوالي عام ٢٠١٥م ما قبل وما بعد قد زادت وانقسم المجتمع الألماني بين مرحب بهؤلاء اللاجئين بدوافع إنسانية، وحتى مصلحية لألمانيا، وبين محارب لهؤلاء بمنطق عنصري نازي يتزعمه كثيرين من اليمين المتطرف.

كان بعض زعماء اليمين المتطرف يسوّقون للانظمة الاستبدادية التي تقتل وتشرد شعبها، بعضهم ذهب الى لقاء رأس النظام السوري واثنى على افعاله الاجرامية. لم يكونوا هؤلاء النازيين مجرد دعوة عنصرية فقط بل هم شبكة علاقات ومصالح مع المستبدين خاصة قياداتهم، أما انصارهم فقد كانوا يلقنون مواقفهم العنصرية بشكل قطيعي والأهداف عنصرية تخريبية داخل ألمانيا.

ارتبط قادة النازيون هؤلاء مع الأنظمة المستبدة بروابط المصالح، فها هم يسرقون الآثار المصرية من متاحف مصر بعد الانقلاب على ثورتها، و هربوها إلى ألمانيا حتى يبيعوها هناك مستهترين بقيمتها الوطنية والتاريخية بالنسبة للمصريين.

وصل خبر الآثار المهربة إلى قسم خبراء الآثار الذي يعمل به نيار وبدؤوا البحث ووصلوا إلى أحد هذه التماثيل ليكتشف انه مسروق من المتحف المصري وأن غيره سرق ايضا وانهم وصلوا إلى المانيا ضمن تواطؤ من مسؤولين ألمان وآخرين مصريين، وبعد تحقيق من نيار مع المهربين بمساعدة شرطية في السجن، قُتل المهربين والشرطية التي ساعدت نيار بالتحقيق معهم. وهنا بدأ نيار ومعه مديرته وشبكة من الخبراء بملاحقة هذه العصابة التي تحوي بعض ضباط الشرطة الألمان وكذلك قادة نازيون.

 لم يستسلم النازيون فقد قتلوا واحد من فريق نيار للتحقيق. استسلم نيار لليأس، لكنه عاد الى العمل مجددا على متابعة قضية الكشف عن الشبكة الدولية لتهريب الآثار التي يتزعمها النازيين الجدد و يرتبطون مع الأنظمة المستبدة، ويعملون ضد اللاجئين القادمين هربا إلى ألمانيا للحفاظ على حياتهم التي كانت مهددة كل الوقت في بلادهم.

هنا لا بد أن نتحدث عن ايلا الفتاة اليهودية التي كان قد هاجر أهلها من ألمانيا إلى الكيان الصهيوني في فلسطين وهي طفلة، وهناك كبرت وعاشت وتأثرت بما رأته من عنصرية الصهاينة تجاه الفلسطينيين، رفضت ان يعيش الفلسطينيين ما عاشه اليهود من ظلم  ايام ألمانيا النازية، لذلك قررت ترك أهلها وعائلتها والعودة إلى ألمانيا. هناك التقى بها نيار صدفة، حاول ان يمارس معها الجنس العابر، لكنها رفضته بشدة، استوقفه ذلك، تركها ولم يهتم لذلك فهناك العشرات من النساء اللواتي يمارس معهن الجنس، لكنه التقى بها مجددا، سمع منها لماذا رفضت ممارسة الجنس معه، وأنها معقدة من الجنس، والسبب ان احد الشبان اليهود المتشددين في فلسطين المحتلة قد اغتصبها وهي قاصر. استوعب ذلك نيار وتعاطف معها، بدأت بينهما علاقة ودية، تحدث لها عن ماضيه وامه ونشأته. بدأت تظهر بينهما عواطف، لكنها لم تكتمل لتصنع حبا معترفا به من الطرفين.

 عملت ايلا في رعاية رجل ثري يملك حصة في مصرف، كان قد حصل له حادث مروري وأصيب بشلل نصفي، تعاطفت معه واحبها، وتوجت علاقتهما بزواج، غير قادر على اشباعها جنسيا، في ذات الوقت كانت ايلا توطد علاقتها مع نيار حيث استطاع ان يمارس معها الجنس وجعلها تتجاوز عقدة اغتصابها، حصل هذا قبل زواجها من الشاب الثري المقعد،. اخبر نيار ايلا بعضا من موضوع شبكة تهريب الآثار والنازيين وخططهم ضد اللاجئين والتخريب في ألمانيا. تفاعلت معه وأكدت له أنها مع ما يفعله. لكن مقتل أحد فريق التقصي الذي يعمل معه نيار وكذلك قطع ايلا علاقتها مع نيار وزواجها من ذلك الثري المقعد جعله ييأس وقرر التخلي عن متابعة قضية كشف شبكة مهربي الآثار، وغادر الى تونس وعاش هناك على صيد السمك ناسيا ماضيه بالكامل.

لم تقبل شبكة المحققين من اصدقاء نيار بهذه النهاية له. توجهوا الى ايلا ووضعوها في صورة ما حدث، فقررت ان تتطلق من زوجها، بالاتفاق معه، وان تذهب الى تونس لتعلن حبها لنيار و تقنعه بالعودة لمتابعة العمل بكشف شبكة التهريب وأدوارها الإجرامية، وأنها معه جزء من الفريق.

ذهبت له و أعادت إحياء حبها  له وعادا سوية إلى ألمانيا وكانوا جزء من فريق متابعة التحقيق. على أن يكون دور ايلا في التحقيق جانبي حفاظا عليها.

استمر العمل والتحقيق، وكشف عن كثير من الخفايا، ليس الأمر تهريب آثار فقط، بل أكثر من ذلك انهم شبكة نازية ممتدة في الدولة ، تصنع لها أنصار وتدربهم جسديا وعلى السلاح وتجهزهم لخوض معارك ضد الدولة وضد الآخرين المختلفين ومنهم اللاجئين بمنطق عنصري، يمتد عميقا بالتعبئة الفكرية ليصل الى الحملات الصليبية بصلة نسب فكرية ، كما تبين أن هناك امتداد عنصري عابر لأوروبا حيث ترابط موقف عنصرين فرنسيين مع النازيين الالمانيين الجدد.

لم يكن يتورع هؤلاء عن قتل من يكتشفهم أو يقف في طريقهم. قتلوا المهربين والشرطية وأحد أفراد شبكة التحقيق. وتوّجوا عملهم بقتل نيار الذي علموا أنه يتابعهم وكشف الكثير من أسرارهم. لكنه لم يُقتل كان يلبس سترة واقية ضد الرصاص، لكن أُعلن عن مقتله بشكل رسمي لأسباب تتعلق بفريق التحقيق ودوام دوره، وتم تهريبه إلى جزيرة جربة في تونس.

وصل الخبر الى إيلا التي لم تدري انها لعبة، حاولت الانتحار ورمت نفسها من نافذة بيت صديقتها وهي في حالة سكر، أُنقذت لكنها فقدت ذاكرتها، ومع الوقت عادت لها، وأُخبرت أن نيار لم يمت وانه هناك في جزيرة جربة في تونس، ذهبت إليه وعادت جذوة الحب بينهما مجددا وعاشا حياة ملؤها الحب والسعادة.

هنا تنتهي الرواية.

في التعقيب عليها اقول:

مرة أخرى يأخذنا بلال البرغوث الى عوالم جديدة مختلفة جدا، انه يتحدث عن المجتمع الألماني وكأنه يعيش فيه منذ ألف عام، يقترب من قضايا مهمة وحساسة واشكالية في ألمانيا وفي حياة الالمانيين. لم يغب عن بلال ابدا هذا الغوص عميقا في الحياة الفردية لكل شخصيات روايته، فالحياة في ألمانيا هي حياة كل فرد على هواه، الجنس المتاح والمباح، يمثل عصب الحياة، غريزة ومتعة وحب ولوعة واستثمار وغاية. لا حرام في العلاقات الجنسية في ألمانيا ، هناك اخلاص للذي تحبه، تبني العلاقة بسهولة، وتنهيها بسهولة، حتى الزواج هو مؤسسة اكثر منه خصوصية جنسية…

ألمانيا الدولة الكبيرة التي حضنت اللاجئين الهاربين من الموت في بلدانهم، لم يتم التحدث مفصلا عن أحزاب اليسار والخضر وغيرهم ممن حضنوا اللاجئين وقبلوا انغراسهم في ألمانيا. تحدث عن النازية الجديدة التي تحاول ربط جذورها مع نازية هتلر لتصل الى الحملات الصليبية واستباحتها عالمنا العربي الاسلامي لدعوى عنصرية واهمة…

تحدث عابرا عن الربيع العربي في مصر وأنه مغدور وعودة الاستبداد مجددا، مر على الربيع السوري وحصيلته من قتل وتشريد للسوريين، استقر ابطاله في تونس التي استمرت وفية لثورتها، زمن كتابة الرواية، لكن الردة في تونس تعيدها الى اسوأ من ايام الاستبداد السابق.

في الرواية حميمية نحتاجها، تدفق عاطفي مؤثر ورائع، حب ولوعة. تداخل الأحداث وتطورها، يجعل القارئ شغوف بأن يلتقط خيوط الحدث في كل أبعاده. ثم يعود بعد انتهاء الرواية إلى التقاط ما وراء سطورها ليلتقط رسالتها…

انتصار لانسانية الانسان في اي زمان واي مكان.

صحيح أن ألمانيا نموذج إنساني ديمقراطي حر وعادل، لكنه ككل دول العالم له عيوبه ايضا، والظالمين الفاسدين والمستغلين العنصريين موجودين ولهم دورهم. وان السجال بين الحق الانساني بالحرية والعدالة والديمقراطية وبين أعداء هذه القيم والذين يستبيحون كل شيء مستمر إلى قيام الساعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى