يأتي مسار العدالة السورية الذي انطلق من أوروبا في لحظة فارقة تتسم بتراجع المسارات الثلاثة الأخرى: السياسي والعسكري والدولي. فالمعارضة ممثلة بالائتلاف الوطني وهيئة المفاوضات والحكومة المؤقتة تلاشى دورها وفقدت قوتها التمثيلية على الساحتين الدولية والوطنية. وأما الفصائل العسكرية فتقلصت فعاليتها على الأرض، نتيجة انحسار الرقعة الجغرافية التي كانت تسيطر عليها، وانضوائها تحت وصاية الدول الممولة. وحتى الدول الراعية للعملية والساعية لصياغة وتطبيق الحل السياسي وصلت طريقا مسدودا، ولم يعد بمقدور احداها اجتراح معجزة.
في هذا الفراغ ظهر المسار القضائي أو مسار العدالة الجديد بقوة لم يحسب أحد حسابها سابقا. وإذا كان المسار السياسي قد شارك فيه عشرات الأحزاب والتجمعات والهيئات، وشارك في المسار العسكري عشرات آلاف المقاتلين أو أكثر، وعملت في المسار الدولي قوى دولية كثيرة تبدأ بروسيا والولايات المتحدة وبينهما إيران وتركيا واسرائيل والسعودية وغيرها، فإن (المسار القضائي) اعتمد على جهود عدد محدود من الحقوقيين الرواد ليس وراءهم سند ولا مدد. ومع ذلك يبدو واعدا بتحقيق ما عجزت عنها المسارات السابقة.
فما سر هذا المسار؟ وما سبب قوته …؟ ومن هم فرسان السبق فيه؟
أنور البني يعرض تجربته:
الظروف المأساوية التي دفعت ملايين السوريين للهرب من بلادهم، أكرهت عددا من الناشطين الحقوقيين المدافعين عن حقوق الانسان لمغادرة بلادهم أيضا، كالمحامي البارز أنور البني الذي كان قبل الثورة يدافع عن حقوق المعتقلين ويطالب بالديمقراطية لشعبه والعدالة وحكم القانون، واعتقل عام 2005 وبقي خمس سنوات في السجن. ومن الصدف العجيبة أن العقيد أنور رسلان هو الذي اعتقله، واستجوبه. وتكررت الصدفة أن القدر جمع الأنورين في مركز استقبال واحد في المانيا، عندما وصلاها في وقت متقارب عام 2014.
يقول المحامي البني وقعت عيناي على رسلان، ولم أتذكره للوهلة الأولى، ولكني شعرت أني التقيته سابقا. وصادفته ثانية في أحد الأسواق فتذكرت أنه الضابط الذي اعتقلني، ولم أفعل شيئا حياله، لأنني كنت حينها مشغولا بملاحقة مسؤولي النظام والاستخبارات داخل سورية، لإيقاف الجرائم الوحشية التي يرتكبونها ضد شعبنا.
ويضيف: استطعنا في تلك الفترة إعداد ملفات اتهام ضد عدد غير قليل من كبار مسؤولي الاستخبارات والنظام، بمن فيهم بشار الأسد، لأننا حصلنا على وثائق تصادق على قرارات بإعدام آلاف المعتقلين في سجن صيدنايا ومعتقلات أخرى، عليها تواقيع الاسد وضباط آخرين كجميل حسن وعلي مملوك، وعبد السلام محمود وخالد الحلبي، وآخرين، وأثمرت جهودنا إصدار مذكرات توقيف من فرنسا والمانيا بحق المذكورين، وآخرين ما زالوا محاطين بالسرية.
وقال لي أيضا: في تلك الفترة بين 2015 – 2019 استطعنا إعداد ملفات دعاوي ضد رفعت الأسد بعد 30 سنة من إقامته في اوروبا، شاركنا بها في دعاوي مدنية حركتها ادارات الضرائب في فرنسا وأثبتنا أن أمواله منهوبة، وكذلك أقمنا عليه دعاوي جنائية في اسبانيا، ثم في سويسرا، وتعد هذه الدعاوي انجازا غير مسبوق لأن المعارضة لم تفعل شيئا لهذا المجرم اللص طوال ثلاثة عقود، مع أن الأمر كان متاحا للمعارضين المقيمين في اوروبا كالإخوان المسلمين لو كانوا جادين!
في هذه الفترة أسس البني (المركز السوري للدراسات والابحاث القانونية) بالتعاون مع محامين سوريين، ومحامين أوروبيين يشتغلون في هذا المجال، وعلى رأسهم المركز الأوروبي لحقوق الانسان برئاسة باتريك كروكر. وبدأ يتحرك ويعمل لتحريك ملف حقوق الانسان المنتهكة وحقوق المعتقلين والمخطوفين والمعذبين في سورية. ذهب الى جنيف ثم نيويورك ليذكر العالم بما تشهده سورية من انتهاكات.
قال لي إنه في نيويورك التقى ببعض أعضاء مجلس الامن الدولي الدائمين وشرح لهم ما يقترفه النظام من جرائم، وطالبهم بمحاسبته، فلم يتجاوبوا. فقال لهم: أنتم بسياستكم هذه لا تساهمون في اطفاء نيران الصراع، بل تسعرونها وتدعمون القاتل!
وقال إنه توصل الى أن البحث عن حلول عبر السياسة عقيم، فتحول تفكيره لتحريك المسار القانوني الحقوقي. وبدأ العمل اعتبارا من 2016 على حث الدول الاوروبية على تبني مفهوم الولاية القضائية العالمي الذي سبق أن تبنته بلجيكا واسبانيا ثم تخلتا عنه في مطلع القرن.
ومازن درويش يعرض تجربته:
في هذه الفترة وصل المانيا الناشط الحقوقي البارز مازن درويش بعد الافراج عنه فواصل عمله الذي بدأه في دمشق منذ 2004 لذات المهمة والغاية التي تفرغ لها زميله البني واعتقل بسببها غير مرة.
مازن درويش محام آخر نشأ في أسرة معارضة، وكان أبوه معتقلا لسنوات في عهد حافظ الأسد. فكرس حياته للنضال والدفاع عن حقوق الانسان وشارك منذ 2004 في نشاطات تكسر المحظورات والمحرمات في سورية، وحاول إنشاء فرع لمنظمة مراسلون بلا حدود والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير، واعتقل عام 2008 .
في بداية الثورة 2011 شارك في تأسيس لجان التنسيق المحلية، كإحدى الهيئات المحلية المنظمة للحراك الشعبي المدني. كما أسس (مركز توثيق الانتهاكات). فداهمت السلطة المركز في فبراير 2012 واعتقلت جميع العاملين فيه، وعلى رأسهم مديره مازن درويش وزوجته المناضلة يارا بدر، ولم يفرج عنه إلا في اغسطس عام 2015، فغادر الى المانيا، وأعاد إطلاق (المركز السوري للإعلام وحرية التعبير) بالتعاون مع محامين وناشطين سوريين لاجئين. وأنشأ شبكة علاقات مع منظمات حقوقية أوروبية، وعمل لملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الانسانية في سورية أمام القضاء الاوروبي. وهكذا التقى بزميله ومواطنه أنور البني.
روى المحامي مازن لنا تجربته، قال إن النظام اتهمه نشاطه دائما بأنه بنشاطه الحقوقي السلمي يخدم الصهيونية والامبريالية ويضر بصمود بلاده، وهي تهمة جاهزة لتخويف كل المعارضين والناشطين المدافعين عن حقوق الانسان وحرية التعبير في سورية. ولكنهم لم يستسلموا ووصلوا رسالتهم حتى بدأت حاليا تثمر. والمحاكمة في المانيا ستتكرر في السويد والنمسا والنرويج والمانيا قريبا، وستكون لها نتائج دولية واسعة. وأكد أنه ستكون لها آثار سياسية على علاقات النظام والزمرة الحاكمة مع العالم الخارجي وستمنع أي حكومة ديمقراطية من التعامل معه على أي صعيد.
وسألته عن المحاكمة في كولينز الالمانية: الم تكن مدعومة سياسيا من الحكومات؟ ألا يرتبط توقيتها مع صدور قانون سيزر في أمريكا والحملات الاعلامية الاخيرة في روسيا على الاسد وزمرته؟!
أجاب: لا لا قطعا، لأنها عمل قضائي مستقل تماما عن السياسة والحكومات. ولكن ذلك لا يعني أنها لا تتسق مع تحول سياسي عالمي متعاطف مع الشعب السوري، ومعارض بقوة لنظام الأسد وجرائمه الهمجية بعدما فضحت الصور التي هربها القيصر والجهود التي بذلها الحقوقيون، والضحايا أنفسهم بعد أن وصلوا الى أوروبا.
وأضاف: المحاكمة في المانيا عمل قضائي مستقل وعلى أعلى درجة من الجدية والمهنية والنزاهة، ولا هدف لها سوى تحقيق العدالة، واتخذت كل ما يتطلبه ضمان العدالة، لكل الاطراف، الضحايا والمتهمين. وهي فرصة لنا كسوريين لنتعلم منها كي لا تختلط العدالة في بلادنا بالانتقام وتصفية الحساب والثأر بعد أن نصل الى مرحلة القصاص.
وسألت المحامي أنور البني عن سبب الانتقادات التي وجهها بعض المعارضين للمحاكمة بحجة أنها تعاقب المنشقين بدل الاشادة بخطوتهم تحفيزا لانشقاق آخرين؟
فقال إن هذه المواقف التي صدرت قليلة وتعكس بؤس المعارضة السياسية، وهزال أدائها، ومدفوعة برغبة في تغطية سقطتها الفادحة حين استقبلت في اسطنبول انور رسلان وضمته لوفدها المفاوض في مؤتمر جنيف عام 2014 مستشارا أمنيا، لأن هذه الخطوة فضيحة حقيقية لها. فهو لم يعلن أصلا انشقاقه عن النظام، بل قال مؤخرا للمحققين الالمان أنه هرب الى تركيا لأن أسرته تلقت تهديدات من الثوار في ذلك الوقت فترك الخدمة وفر خوفا على اسرته وحسب. ودافع امام المحققين عن سلوك ضباط الاستخبارات كلهم، ولم يتأسف ولم يعتذر عما اقترفه هو، ولم يوجه إدانة واحدة للنظام!
وقال البني إن العدالة يجب ألا تتأثر بالسياسة حتى إذا انشق الضابط عن النظام، فجرائمه التي ارتكبها قبل ذلك لا تسقط، ولا بد من محاسبته عليها. وهذا ينطبق على انور رسلان. ولا يجب استبعاد إمكانية أن يكون النظام قد (نظم) انشقاق بعض ضباطه وارسالهم للمعارضة لاختراقها لأغراض تجسسية، وهناك مؤشرات كثيرة على ذلك.
ورأى البني أن موقف بعض المعارضة يعكس مواقف دول وانظمة اقليمية بما فيها تركيا، ونحن لاحظنا أن غالبية هذه الانظمة غير مرتاحة ولا سعيدة بمحاكمة مجرمي النظام في أوروبا، لأنهم يخشون تكريس هذه السابقة لكي لا تصبح قاعدة قابلة للتطبيق على حالات مشابهة في دول أخرى عربية وغير عربية!!
وأكد البني بثقة أن الادانات التي ستصدر عن المحاكم الاوروبية تثير الذعر حاليا في نفوس مسؤولي النظام في سورية، لأنها قبرت أحلامهم بإعادة تطبيع علاقات النظام مع العالم.. والى الأبد. ولن تجرؤ دولة ديمقراطية على اعادة العلاقات معه.
وقال: لقد حققنا انجازا عجزت عن تحقيقه دول كثيرة، فضلا عن المعارضة السياسية السورية. وما سيحدث في المستقبل القريب من محاكمات لمجرمي النظام السوري سيحقق (ثورة عدالة على مستوى العالم كله)، لأنه سيشكل عامل ردع لكل طاغية أو ضابط أو مسؤول في أي بلد في العالم ويجعله يتردد في ارتكاب جريمة ضد الانسانية في أي بلد.
المصدر: مجلة الشراع اللبنانية