
من المعروف أن مواقف المثقفين السوريين من الثورة توزّعت على ثلاثة؛ فمنهم من أيدها وانخرط في مؤسساتها الثقافية، وربما السياسية والمدنية، ومنهم من اتخذ منها موقفاً رمادياً لأسباب طائفية أو نخبوية، مع بقائه في الفضاء الرمزي والمؤسساتي والجغرافي للنظام على الأرجح، ومنهم مثقفون وظيفيون أو موظفون، ينتمون إلى حزب البعث غالباً، أصبحوا ماكينة النظام الخطابية، فاحتلوا البرامج التلفزيونية السياسية على قنواته الإعلامية ومثّلوه على الفضائيات الخارجية.
وبالطبع، لم يكن في وسع الثورة أن تعوّل إلا على النوع الأول، لكن توالي السنوات، وما حملته من وقائع العسكرة والحرب الوحشية على المناطق المحررة، دفعت بهؤلاء، قبل غيرهم، إلى خارج البلاد وأبعدتهم عن “الأرض”، التي كانت تسير بخطى ثابتة نحو أن تصبح نابذة لهم، فتوزّعوا على المنافي وشغلوا صفحات الرأي في الصحف المهاجرة والعربية، في ما صار يُعدّ تنظيراً منفصلاً عن الواقع لدى كثيرين.
ومن جهتها أفرزت المناطق التي كانت خارج سيطرة النظام “مثقفيها”، ففي درجة أولى ترى نظرةٌ، ليست قليلة الانتشار، في كل جامعيّ مثقفاً، مما أدخل المهندسين والمحامين والأطباء وسواهم، ممن كانت تحتاج إليهم المجالس المحلية والخدمات حينئذ.
بالسير أكثر في طريق المعنى الاصطلاحي لكلمة مثقف، أي منتِج المعرفة العامة، جرى ترفيع بعض الشرائح ليسدوا ثغرة، لم تكن أساسية على كل حال، كمدرّسي اللغة العربية والتاريخ وغيرهم، وشعراء القصيدة العمودية، وكتّاب الخواطر الحرة، والأكاديميين..
وفي درجة ثانية، وبالسير أكثر في طريق المعنى الاصطلاحي لكلمة مثقف، أي منتِج المعرفة العامة، جرى ترفيع بعض الشرائح ليسدوا ثغرة، لم تكن أساسية على كل حال، كمدرّسي اللغة العربية والتاريخ وغيرهم، وشعراء القصيدة العمودية، وكتّاب الخواطر الحرة، والأكاديميين الذين ظلوا في مناطقهم وأنشأوا جامعات كانت تتلمس طريقها، وطلابهم الذين وصلوا إلى مرحلة الدراسات العليا في العلوم الإنسانية، وبقايا الموثّقين المحليين والمتحدثين في المجالس من موقع وجهاء… إلخ.
على هذه الخارطة، التقريبية بالتأكيد، طلعت شمس الثامن من كانون الأول 2024 لتفتح باب عهد جديد راحت معالمه تستبين بالتدريج، وكان بديهياً أن لا تكون الثقافة على رأس سلم أولوياته التي شغلها الأمن وترميم الإدارات سعياً وراء استحقاقات أهم في إعادة الإعمار، فضلاً عن نزوع أصلي لدى الحكم الجديد إلى احترام القوة، العسكرية أو المالية، لتحقيق أهدافه الأثيرة في التمكين والتنمية، مما يترك للثقافة وأهلها موقعاً هامشياً لم يكن ليؤبَه له لولا عاملَين: أولهما ملء الشواغر الحكومية والنقابية، كوزارة الثقافة نفسها واتحاد الكتاب العرب، وثانيهما وهو الأهم، حاجة السلطة الجديدة إلى مثقفين يسوّقون خطابها في القنوات المحلية المتجددة، ويمثلونها على الفضائيات الخارجية.
وفي السياق الأوّل، الحكومي وشبه الحكومي، تم اختيار الشعراء بدلاً عن الخبراء، القليلين بطبيعة الحال، في إدارة المؤسسات الثقافية، ضمن نظرة ترى في الثقافة سهماً في كنانة “الدولة”، الناشئة بين المخاطر، ولذلك ما عليها إلا العمل على رص صفوف الجماهير وإثارة حماسها وإلهاب أكفها بالتصفيق، والتغني بالأمجاد والتذكير بجرائم النظام البائد، وهذه خصائص الشعر العمودي وبعض أبرز سماته عند العرب.
أما في السياق الثاني فقد تطوع عدد لافت من الباحثين في المراكز، والإعلاميين المتحولين إلى محللين بحكم الأقدمية، وحمَلة السيَر الأكاديمية المضطربة؛ لأداء أدوار الدفاع عن السياسات الحالية، وهم يجدون في كل خطبة رسمية إبداعاً وفي كل قرار حكمة وفي كل صِدام حزماً وفي كل تراخ صبراً! وتراوحت دوافعهم بين الحماس الصادق لدعم المسيرة الجديدة، وبين التأثر بخلفياتهم الطائفية، وبين الرغبة في التقرب من السلطة طمعاً في الحصول على مناصب.
فالمديح والفخر من وظائف شاعر القبيلة، وهو مثقف أزمنة غابرة، أما المثقف المعاصر في الدولة الحديثة فمهمته الأولى هي النقد، ويعود ذلك إلى تحوّل في وظيفة المثقف من كونه ضميراً خارجياً للجماعة في وجه أعدائها إلى الدور الذي استقر عليه..
والحق أن هذا لم يكن المنتظَر ممن كان أكثرهم ثواراً عنيدين، قاوموا السجون وتخطوا المصاعب بأنواعها، وخبروا أساليب الإعلام الأسدي إلى درجة كان من المفترض أن تمنعهم من تكرارها ولو نسبياً.
وناهيك عن أن هذا النمط من الخطاب لم يكن المأمول في مرحلة بعد الثورة التي كانت الحرية من أول شعاراتها؛ فإن فائدته تقارب الصفر في الإشارة إلى الأخطاء وطلب تصحيحها، وهو ما يحتاج إليه نظام وليد لديه كثير من التحديات، فالمديح والفخر من وظائف شاعر القبيلة، وهو مثقف أزمنة غابرة، أما المثقف المعاصر في الدولة الحديثة فمهمته الأولى هي النقد، ويعود ذلك إلى تحوّل في وظيفة المثقف من كونه ضميراً خارجياً للجماعة في وجه أعدائها إلى الدور الذي استقر عليه، منذ أوائل القرن العشرين وبشكل مطرد، بوصفه ضميراً داخلياً في المجتمع.
يتعلّق الأمر بالنزاهة لكنه لا يقتصر عليها، فقد علمتنا التجربة الأسدية القريبة أن حبل المحاباة قصير، وأن الناس التي تطرب لمن يسايرها ستبادر إلى الانقلاب عليه بشكل جذري في لحظة صحو مفاجئة، ملقية به إلى الإهمال الذي يعني، في هذه الحالة، نهاية المسيرة المهنية التي بدا أنها متألقة في ذات يوم بعيد.
وسواء أطلق بعضهم على الدور المطلوب للمثقف وصف “النقد البنّاء” أو اكتفى آخرون بأنه النقد من دون قيود؛ فالتسمية مسألة ليست مفصلية إن رجع مثقفون ومحللون وإعلاميون إلى مهمتهم الأساسية التي أنتجت وصف الصحافة بأنها “سلطة رابعة” تختزن، في جوهرها، نواة قوية من القيم التي يجب أن يحملها ويعبّر عنها مجموعة من شهود الله في أرضه، ينافحون عن حقوق عباده.
المصدر: تلفزيون سوريا