
حين نتحدث عن فلول النظام فنحن لا نتحدث عن بقايا جيش مهزوم من قادة عسكريين يعدون بالعشرات، كلا، هذا تبسيط ساذج وبعيد عن الواقع، نحن نتحدث عن بنية عسكرية – مافيوية متشعبة تتمفصل مع عصبية طائفية.
قبل أن ينهار النظام بفترة طويلة كان كثيرون من القيادات العسكرية المافيوية للنظام البائد بمن فيهم بشار الأسد وأركانه المقربون يضعون أمام أعينهم الخيار الثاني في حال قيام ثورة سورية شاملة واقترابها من النصر وهو الخيار الذي تم التعبير عنه مرارا لكن بشيء كثير من الحذر والتعمية أي الانسحاب من دمشق إلى الساحل وبناء تحصينات هناك وتزويدها بكل الأسلحة الكفيلة بالدفاع عن الساحل بوجه تقدم محتمل للثوار .
أول من تحدث عن ذلك كان رفعت الأسد في الثمانينات كما تسرب حديثا من كلامه أثناء جلسة خاصة في معرض نقده لتمسك أخيه بالسلطة على كل سورية باعتبار أن ذلك غير ممكن على المدى الطويل .
ولايمكن أن ننسى أن شعار النظام الفعلي في الميدان عشية ثورة 2011 كان ” الأسد أو نحرق البلد ” وإحراق البلد كان يعني الانسحاب نحو الساحل وترك البلاد مدمرة محترقة .
وبلاشك فبشار الأسد نفسه ربما كان يخطط للانسحاب نحو الساحل حين بدأ تقدم هيئة تحرير الشام يتخذ طابعا خطيرا بسقوط حلب ثم حماة , لكن التقدم السريع لهيئة تحرير الشام وحلفائها وانهيار جيش النظام أدى لحالة من فقدان السيطرة لم تسمح بانسحاب منظم نحو الساحل وهكذا لم يعد أمام بشار سوى مغادرة سورية .
لماذا هذه المقدمة ؟
فقط للقول إن فكرة الانفصال عن سورية وبناء كيان في الساحل ليست جديدة وليست طارئة , لقد كانت دوما الخيار ب للنظام بعد إمعانه في المجازر والفظائع التي ارتكبها على نحو غير مسبوق في تاريخ سورية الحديث كله منذ مجزرة حماة الكبرى عام 1982 .
لنترك ماقبل انهيار النظام , ولنحاول التركيز حول مابعد انتصار هيئة تحرير الشام وحلفائها وسقوط دمشق
بعد استعادة أركان النظام البائد شيئا من الهدوء والتفكير بدأ التخطيط لهدف استعادة السلطة على دمشق , لكن ذلك الهدف ظهر باعتباره مشكوكا بإمكانيته لذا وضعت أركان النظام ” قيادات الفلول ” هدفين لاستراتيجيتهم في محاولة الانقلاب الفاشلة في الساحل : الهدف أ السيطرة أولا على الساحل ثم طلب المساعدة من قسد ومن ميليشيات الجنوب والميليشيات العراقية المدعومة من ايران لاستكمال السيطرة على سورية . والهدف الثاني ب هو فصل الساحل وطلب الحماية الدولية بمساعدة روسيا وايران .
بعد الفشل الذريع الذي منيت به محاولة الانقلاب في الساحل , بسبب سرعة رد فعل القيادة في دمشق وهبة الشعب السوري كله للدفاع عن العهد الجديد أدرك أركان النظام المخلوع أن خيار استعادة السيطرة على دمشق شبه مستحيل وبالتالي أصبح كل الجهد منصبا على الخيار ب أي فصل اقليم الساحل عن سورية واستعادة دويلة لأركان النظام السابق تعيد بناء شبكاته التي تمزقت في المهاجر أو بقيت متخفية هنا وهناك في الجبال .
هنا بدأ العمل يتكثف على جبهتين , جبهة سياسية إعلامية تقوم بتضخيم أعداد ضحايا التجاوزات التي حصلت مع إخماد محاولة الانقلاب الدموية في الساحل والنفخ فيها إلى حد تصويرها كحرب إبادة منظمة ضد الطائفة واستنفار كل القوى العالمية التي تحارب ” الارهاب ” باعتبار العهد الجديد في سورية جزءا من الارهاب وإثارة قضية الساحل كقضية اضطهاد للاقليات من قبل حكم ارهابي – هكذا – وهنا انضم للفلول فئة ليست قليلة من المثقفين من أصول يسارية ( بعضهم كان معارضا للنظام ) وأصبح الجميع يعزفون على طلب الحماية الدولية والهدف الحقيقي ليس سوى التمهيد للانفصال .
أما الجبهة الأخرى العسكرية فتم نقل معظم قياداتها لمناطق قسد برعاية روسيا وكذلك أعداد كبيرة من الفرق العسكرية الموالية للنظام البائد في انتظار ساعة الصفر مع تهدئة الأمور لاتاحة الفرصة لاستعادة شبكات الاتصال والربط مع خلايا الداخل .
استندت الاستراتيجية الجديدة للفلول على استراتيجية نتنياهو وحكومته في تقسيم سورية , لكن تلك الاستراتيجية الاسرائيلية منيت بضربة قوية حين استطاع الشرع التقرب من الولايات المتحدة بدعم عربي وتركي وبالتالي قامت الادارة الأمريكية بمراجعة شاملة للسياسة تجاه سورية في ضوء تصورها للمنطقة برمتها والتخطيط لتأمين استقرارها عن طريق نوع من الشراكة مع تركيا والسعودية كضامنين للعهد السوري الجديد .
هذا التغير في السياسة الأمريكية أجبر اسرائيل على مراجعة استراتيجيتها تجاه سورية , وضمن تلك المراجعة بدأ يظهر الخيار الآخر لاسرائيل وهو بناء سلام شامل مع دولة سورية مركزية بدلا عن التقسيم .
حتى الآن لم تقتنع الأوساط المتطرفة في اسرائيل تماما بالخيار الثاني , لكنها مضطرة لترك فرصة أمامه تحت الضغط الأمريكي .
هكذا فقدت استراتيجية الفلول سندها الرئيسي , ومع محاصرة قسد , وعزلها عن الدعم الأمريكي ودعم التحالف الدولي , بدأ يظهر أن الأمل في تحرك انفصالي مواكب لقسد يكاد يتلاشى .
لكن كل ذلك لايعني أن الأمر قد حسم , وأن الفلول قد استسلمت , طالما أن قسد مازالت تقاوم مطالب حلها لنفسها واندماجها مع الجيش السوري , وطالما أن اسرائيل مازالت متشككة في إمكانية عقد سلام وتطبيع مع سورية وربما تخاف من أن سياق التوجه نحو السلام سوف يعني التنازل عن الجولان أو جزء منها في حين أن الجولان أصبح مهما جدا لاسرائيل ليس كمجرد أرض إضافية ولكن كمصدر للمياه والزراعة وتربية الماشية وتأمين المواد الزراعية لبعض الصناعات وكمنطقة استراتيجية على غاية من الأهمية .
وفي ظل وضع كهذا ربما تخلص قيادات الفلول إلى المبادرة لتحرك واسع في الساحل يستثمر في الجرائم التي ترتكبها جهات متطرفة مشبوهة من قتل أو خطف لاثارة حالة من الفوضى والعصيان العام قبل الانتقال لتفجير الوضع عسكريا , باعتبار أن هذه هي الفرصة الوحيدة المتبقية قبل أن تترسخ الاستراتيجية الأمريكية التي أصبحت واضحة اليوم في السعي لتكون سورية دولة واحدة مركزية بقيادة يمكن التفاهم معها ضمن هندسة شاملة للمنطقة .
لذا لست أستبعد أن يرمي الفلول بثقلهم السياسي أولا ثم العسكري وراء مايمكن أن يقال عنه الفرصة الأخيرة ليس لاسقاط النظام من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان وحرية الأقليات كما يمكن أن يوضع كشعار للتغطية على الهدف النهائي والذي لايمكن أن يكون سوى استعادة مافيات النظام البائد السيطرة على الساحل وإنشاء دويلة فيه بزعامة ماهر الأسد وعصابته وليس شيئا آخر .
ليس لدي أدنى شك أن مثل تلك المحاولة ستفشل كما محاولتهم الأولى , لكن ما يستحق التفكير هو أنهم هذه المرة قد يكونون أكثر تخطيطا من السابق في السعي للفوضى والقيام بأعمال دموية طائفية تستدعي أعمالا مماثلة كرد فعل يمكن في النهاية استثمارها سياسيا . فهي فرصتهم الأخيرة , وهم يدركون جيدا أن فشلهم هذه المرة يعني اندثارا تاما لأي أمل في انفصال الساحل وفي عودتهم كأمراء حرب ومافيات وتحقيق حلمهم المستحيل .