- علينا رفع القداسة الأيديولوجية والسلطوية عن الفكر
- الدولة تستمد صفتها القومية من كيانها الحقوقي وعقدها الاجتماعي
هذه المادة هي في الأصل مجموعة أسئلة وجهت للأستاذ علي محمود العمر حول قضايا الفكر القومي بمناسبة الذكرى 70 لثورة 23 يوليو المجيدة مساهمة من موقع (ملتقى العروبيين) في الإجابة على بعض أسئلة الحاضر والمستقبل، هل من أزمة بنيوية في الفكر القومي، وهل من علاقة بين الفكر القومي والاستبداد، وعن ضرورات مراجعة الفكر القومي ونقده، وفي أي سياق تاريخي نضع ثورة 23 يوليو.
علي محمود العمر كاتب سوري له العديد من الدراسات والأبحاث والمساهمات في قضايا الفكر القومي، إضافة لتجربة سياسية نضالية طويلة في إحدى تجارب العمل القومي، وقد اختار لمقاله العنوان التالي:
نظرة في واقع الفكر القومي وكيفية تطويره.؟
أتشرف بعرض خلاصة نظرتي لمحاور البحث المهمّة جدًّا التي عرضها موقعكم حول واقع الفكر القومي وكيفية تطويره، معتذرًا عن إحاطتي لهذ المحاور مجتمعة:
أولًا ـ أعتقد أنّ أي فكر هو أولًا وأخيرًا فِكْرٌ بشريّ. أي أنّه نتاج يستمدّه أصحابه من واقع تجربتهم وتطلعاتهم لتحقيق أهداف وتطلعاتٍ يعتقدون أنّها تُلبي متطلبات الواقع التاريخيّ وحاجة شعبهم!
لأجل هذا فإنّ منظومات الفِكْر على اختلافها لا تحمل أيَّة عناصر أو مقومات تعلو على أصلها البشريّ، أو تحمل القداسة والحقيقة المطلقة النهائية التي تتعدى حاجتها وأسباب ظهورها الحقيقية. بالتالي فهي لا تشكّل علّةٌ بذاتها أو معيارًا لتقرير صحة المواقف وصلاحيتها لكل زمان ومكان. انطلاقًا من مسلماتها ونصوصها الحرفية!
خلاف هذا فهي تتصف بكل مواصفات النسبيّة والظرفيّة التي تستمد ّصحتها من معيار خارجي يمثل احتياجات الواقع البشري واستحقاقاته وشروطه التاريخية.. وليس العكس. وخلاف هذا سيعني وضع الفكر في سياق خاطئ ومدمّر جراء رفعه إلى تجريد أيديولوجي فوق بشري يتعدى وظيفته وأهدافه وأصله البشري. كما يجعله وسيلة لإرضاء الكسالى وتضليل المقهورين. بالتالي قِناعًا يبتزه الطغاة (وربّما لصوص الثورة والمجتمعات أيضًا) لقهر شعوبهم وسوقها للخراب؟!
عليه فإنّ رفع القداسة الأيديولوجية والسلطوية عن الفكر عمومًا، غايته الأولى والأخيرة وضع الفكر في مجرى التطور والعمل التاريخي واستحقاقاته الحقيقية التي تكسر حلقة الجهل والعبودية. وبتعبير آخر إعادته لأصله وموطنه الأصلي بوصفه نتاج لأرفع ملكة تملكها البشرية هي ملكة التفكير. وهذا لا يعني إطلاقا التخلي أو التنصل من مسؤولية الحقوق المهضومة التي ظهر الفكر لأجلها أو تحت عبائتها. ولا يعني الترخيص من قيمة المآثر الجليلة وقيمة أصحابها المناضلين التي تحققت في شروط ومرحلة تاريخية معينة. بل هو يعني حفظ قيمة هذه المآثر في سياقها التاريخي الذي يجنبها وزر الآثام والموبقات التي اقترفها الطغاة في مراحل لا حقة جراء السطو على الشعارات وجعلها قناعاً لدوس الحقوق الأصلية التي ظهرت لأجلها، إضافة للحقوق والاستحقاقات التي استجدت بعدها أيضاً؟!
ثانياً ـ لقد اضطررت لهذه المقدّمة لتأكيد أهمّية إحداث تطوير عميق وحقيقي لمنظومات الفكر عموماً، بما فيها الفكر الدّيني.. والفكر الاشتراكيّ.. والفكر القوميّ على اختلاف اثنيّاته العربية وغير العربية. وغاية هذا التطور وضع الحقوق المهضومة والمشكلات التي لم تجد حلًّا لها في سياق فكري وسياسي وثقافي وقيمي جديد يتسق مع متطلبات الحياة ويكسب التفاف الشعوب واحترام البشرية لأنّه يقدم الأوفر والأعول والأفضل لصالح الشعوب.. وليس العكس.
وأجزم أن هذا التطوير لا مناص عنه لوضع الفكر القومي في خدمة شعوبنا وليس عبأً عليها. وهو فرصة العروبيين الأحرار والشرفاء لاستئناف ما بدأوه منذ عقود لخدمة شعوبهم. وهو سبيل التواصل والتفاعل مع أجيال واستحقاقات ومشكلات جديدة توقف العبث بشعاراتهم السامية وتظهر أفضل ما تحمله من الحقوق في مستوى جديد من الاستحقاقات التي تنفع الحياة وتمنع انكفاء التاريخ للوراء؟!
ولا شكّ أن هذا يتطلب من العروبيين الشرفاء (وإخوانهم الآخرين جميعاً) عقد العزم لوضع هذه المبادئ قيد التطبيق العملي. بدءً من الإعلان دون مواربة عن استبدال حلم الاستئثار بدولة خالصة القومية تخصّ هذه الملّة أو الجنس والعرق وسواه، باستحقاق جديد يمثل الدّولة القوميّة أو الدولة ـ الأمّة. أي الدولة ـ بأل التعريف ـ التي تستمدّ صفتها القوميّة من كيانها الحقوقي الدستوري وعِقْدِها الاجتماعي المدنيّ ومشروعيتها الفلسفية والسياسية والأخلاقية التي تنطلق أولاً وأخيراً من حقوق الإنسان والمواطنة على اختلاف فروقها القوميّة واللّغوية وغيرها. ولنفس السبب يمكن تسميتها الدولة فوق القوميّة أو عابرة القومية، لأنها تتخطّى المواصفات المذلة التي تقوم على أساس عرقي وعنصري، ناهيك عن طائفي ومذهبي وسواه.؟!
ويجب حزم الأمر لأن تحقيق هذا التطور لا يتمّ إلّا في سياق الدولة المدنيّة الديمقراطيّة والاتحاد الديمقراطي الذي يشكّل قاعدة التفاهمات الحقيقية وقاعدة تشكيل النُخَب التي تلتف حولها شعوبنا. وإن البطولة الحقيقية أيها الأصدقاء لم تعد، بل لن تكون يوماً، بطولة الانتصارات الحربية أو المخططات والمناورات السياسية، عدا عن الفهلويات والصفات الشخصية الفئوية. بل كانت ولم تزل بطولة التفاهمات العميقة والحقيقية التي توحّد المقهورين وتقدم شيئًا أفضل لصالح الحياة. وهذا شرحه ريجيس دوبريّة في كتابه المعبّر (ثورة في الثورة) بقوله: إنّ البطولة الحقيقيّة ليس لها اسم أو لقب للتعرف عليها، وهي ليست من بين المدعوين للاحتفالات الفخمة، بل غالباً ما تدخل البهو على رؤوس الأصابع حاملة الشيء الجديد في التاريخ، وهي لا تحمل أي هدف لإحداث انشقاق جديد في صفوف اليسار بل جلّ همّها تحقيق التفاهمات العميقة والحقيقية التي توحّد المقهورين، وفضح التوافقات الكاذبة التي توحّد الطغاة!