هرَميّة القبَليات

جوناثان كوك*    ترجمة: علاء الدين أبو زينة

الصهيونية شكل من أشكال القبَلية الأيديولوجية التي تعطي الأولوية للامتياز اليهودي في المجالات القانونية والعسكرية والسياسية. وبغض النظر عن مدى اعتبارك نفسك يساريًا، إذا كنت تؤيد الصهيونية، فأنت تعتبر قبليتك العرقية مهمة للغاية -ولهذا السبب وحده، أنت عنصري.

وقد لا تكون مدركًا لعنصريتك، وربما لا ترغب في أن تكون عنصريًا، لكنك تكون كذلك افتراضياً.

في النهاية، عندما يحين وقت الحسم، عندما تدرك أن عشيرتك اليهودية تحت تهديد قبَلي آخر، سوف تعود إلى النمط. سوف تأتي عنصريتك إلى المقدمة.

* *

لا شيء يمكن أن يؤهلني بشكل أفضل للكتابة عن الشؤون العالمية في الوقت الحالي -وعن التدخل الغربي في أوكرانيا- أكثر من حقيقة أنني تابعت عن كثب تقلبات وانعطافات السياسة الإسرائيلية على مدى عقدين من الزمن.

سوف ننتقل إلى الصورة الأوسع بعد قليل. ولكن، دعونا قبل ذلك ننظر إلى التطورات في إسرائيل، حيث تتأرجح حكومتها “التاريخية” التي مضى على تشكيلها عام واحد -والتي ضمت لأول مرة حزبًا يمثل قسمًا من أقلية المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل- على شفا الانهيار.

لقد ضربت الأزمة، كما كان الجميع يعلمون أنها ستفعل عاجلاً أم آجلاً، لأنه كان على البرلمان الإسرائيلي التصويت على قضية رئيسية تتعلق بالاحتلال: تجديد قانون مؤقت قام على مدى عقود بتوسيع النظام القانوني لإسرائيل ليمتد إلى خارج أراضي إسرائيل، وتطبيقه على المستوطنين اليهود الذين يعيشون على أرض فلسطينية مسروقة في الضفة الغربية.

يقع هذا القانون في قلب النظام السياسي الإسرائيلي الذي تعترف مجموعات حقوق الإنسان الرائدة في العالم، سواء في إسرائيل أو في الخارج، الآن، ولو متأخرة، أنه كان دائماً نظام فصل عنصري.

ويضمن القانون حصول المستوطنين اليهود الذين يعيشون في الضفة الغربية بشكل ينتهك القانون الدولي على حقوق تختلف عن حقوق الفلسطينيين الذين تحكمهم سلطات الاحتلال العسكرية الإسرائيلية، وتتفوق عليها بما لا يُقاس.

ويكرس هذا القانون مبدأ عدم المساواة على غرار “جيم كرو” (1)، ويخلق نظامين قانونيين في الضفة الغربية: أحدهما للمستوطنين اليهود، والآخر للفلسطينيين. لكنه يفعل أكثر من ذلك في الحقيقة.

على مدى قرون، سمحت هذه الحقوق المتفوقة، وقيام الجيش الإسرائيلي بفرضها وإنفاذها، للمستوطنين اليهود بالهجوم على المجتمعات الريفية الفلسطينية وسرقة أراضيها مع إفلات مطلق من العقاب -لدرجة أن الفلسطينيين أصبحوا محصورين الآن في قطع صغيرة متفرقة مختنقة من وطنهم.

في القانون الدولي، تسمى هذه العملية “الترحيل القسري”، أو ما يمكن أن نفكر فيه على أنه تطهير عرقي.

وهو سبب رئيسي في أن المستوطنات تشكل جريمة حرب -وهي حقيقة تجد المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي صعوبة بالغة في تجاهلها. وكان كبار السياسيين والجنرالات الإسرائيليين سيحاكمون جميعًا بتهمة ارتكاب جرائم حرب لو أننا نعيش في عالم عادل وعاقل.

وإذن، ما الذي حصل عندما عُرض هذا القانون المذكور على مجلس النواب الإسرائيلي للتصويت على تجديده؟ الحكومة “التاريخية”، التي يُفترض أنها تحالُف قوس قزح من أحزاب يهودية يسارية ويمينية انضم إليها حزب فلسطيني محافظ دينياً، انقسمت على أسس عرقية بطريقة قابلة للتنبؤ بها بالكامل.

أعضاء الحزب الفلسطيني إما صوتوا ضد القانون أو تغيبوا عن التصويت. وصوتت كل الأحزاب اليهودية في الحكومة لصالحه.

وقد فشل القانون في نهاية المطاف -وأصبحت الحكومة الآن في مأزق- لأن حزب الليكود اليميني بزعامة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو انضم إلى الأحزاب الفلسطينية في التصويت ضد القانون، على أمل إسقاط الحكومة، حتى على الرغم من أن كل نوابه ملتزمون التزاماً كاملاً بنظام الفصل العنصري الذي يدعمه هذا القانون نفسُه.

اعتناق الفصل العنصري

لعل الأمر الأكثر أهمية في هذا التصويت هو أنه كشف عن شيء بشأن القبَلية اليهودية في إسرائيل أكثر بشاعة بكثير مما يقدِّر معظم الغربيين.

إنه يُظهر أن كل الأحزاب اليهودية في إسرائيل -حتى “الطيبة” منها التي يُطلق عليها وصف اليسار أو الليبرالية- هي في جوهرها عنصرية.

بشكل عام، يفهم معظم الغربيين أن الصهيونية تنقسم إلى معسكرين عريضين: معسكر اليمين، بما في ذلك اليمين المتطرف؛ ومعسكر اليسار الليبرالي.

اليوم، أصبح ما يسمى بالمعسكر اليساري الليبرالي هذا ضئيل الحجم ويمثله حزبا “العمل” و”ميرتس” الإسرائيليان. ويعد حزب العمل الإسرائيلي محترمًا جدًا لدرجة أن زعيم حزب العمل البريطاني، السير كير ستارمر، احتفل علنًا بعودة العلاقات معه مؤخرًا بعد أن كان الحزب الإسرائيلي قد قطع العلاقات خلال فترة قيادة سلَف ستارمر، جيريمي كوربين.

ولكن لاحظوا ما يلي: لم يقتصر الأمر على أن حزبي “العمل” و”ميرتس” كانا جالسَين على مدى عام كامل في حكومة بقيادة نفتالي بينيت، الذي يمثل حزبه المستوطنات غير القانونية، بل إنهما صوتا للتو لصالح قانون الفصل العنصري الذي يضمن للمستوطنين الحصول على حقوق أعلى من الفلسطينيين، بما في ذلك الحق في تطهير الفلسطينيين عرقيًا من أرضهم.

في حالة حزب العمل الإسرائيلي، سيكون هذا بالكاد مفاجئًا. كان حزب العمل هو الذي أسس المستوطنات الأولى، وباستثناء فترة وجيزة في أواخر التسعينيات عندما قدم خدمة شفهية بشأن عملية السلام، فإنه دعم دائمًا وإلى أقصى حد نظام الفصل العنصري الذي مكّن المستوطنات من التوسع.

ولم يزعج أي من هذا أبداً حزب العمال البريطاني، باستثناء الفترة التي قاده فيها كوربين، الرجل المكرس حقاً لمناهضة العنصرية.

ولكن، على النقيض من حزب العمل، فإن “ميرتس” هو حزب مناهض للاحتلال علناً.

كان هذا هو السبب في تأسيسه في أوائل التسعينيات. ومن المفترض أن تكون معارضة الاحتلال والمستوطنات متأصلة في حمضه النووي. وإذن، كيف صوت الحزب لصالح قانون الفصل العنصري ذاته الذي تقوم عليه المستوطنات؟

نفاق مُطلق

سوف يقول لك ساذج، أو لئيم، إن “ميرتس” لم يكن لديه خيار لأن البديل كان خسارة حكومة بينيت للتصويت -وهو ما حدث بالفعل على أي حال- وإحياء فرص نتنياهو في العودة إلى السلطة.

وهكذا، من المفترض أن يدي ميرتس كانتا مقيدتين.

إن هذه الحجة -عن الضرورة البراغماتية- هي واحدة نسمعها غالبًا عندما تتصرف المجموعات التي تدّعي أنها تؤمن بشيء معين بطرق تلحق الضرر بالشيء نفسه الذي تقول إنها تجله وتعتبره عزيزاً.

لكن المعلق الإسرائيلي جدعون ليفي يشير إلى نقطة كاشفة جداً وشديدة الأهمية تنطبق على ما هو أبعد بكثير من هذه الحالة الإسرائيلية بالذات.

ويشير إلى أن “ميرتس” ما كان ليُشاهَد أبداً وهو يصوت لصالح قانون تمييز عنصري -مهما كانت العواقب- لو أن القضية كانت تتعلق بانتهاك حقوق مجتمع المثليين في إسرائيل بدلاً من انتهاك الحقوق الفلسطينية.

إن “ميرتس”، الذي زعيمه نفسه مثلي جنسياً، يضع حقوق مجتمع المثليين على رأس جدول أعمال.

يكتب ليفي:

 “ثمة نظامان قضائيان في المنطقة نفسها، أحدهما للأشخاص المستقيمين والآخر للمثليين؟ هل هناك أي ظروف على الإطلاق يمكن أن يحدث فيها مثل هذا؟ أو كوكبة سياسية واحدة يمكن أن تفعله؟”.

ويمكن قول الشيء نفسه عن حزب العمل، حتى لو كنا نعتقد، كما يعتقد ستارمر على ما يبدو، أنه حزب يساري. إن زعيمته، ميراف ميخائيلي، هي ناشطة نسوية متحمسة.

يكتب ليفي: “هل كان حزب العمل ليرفع يده أبداً للمصادقة على قوانين لتكريس التمييز العنصري ضد النساء (الإسرائيليات) في الضفة الغربية؟ على نظامين قضائيين منفصلين، أحدهما للرجال والآخر للنساء؟ أبداً. بالتأكيد لا”.

الفكرة التي يثيرها ليفي هي أنه حتى بالنسبة لما يسمى باليسار الصهيوني، فإن الفلسطينيين بطبيعتهم أقل شأناً بحكم أنهم فلسطينيون.

ويتأثر مجتمع المثليين الفلسطيني والنساء الفلسطينيات تمامًا بقانون التمييز العنصري الإسرائيلي الذي يحابي المستوطنين اليهود كما يتأثر الرجال الفلسطينيون.

وهكذا، بالتصويت لصالح هذا القانون، أظهر حزبا “ميرتس” و”العمل” أنهما لا يهتمان بحقوق النساء الفلسطينيات أو بأعضاء مجتمع المثليين الفلسطينيين، وإنما يعتمد دعمهم للنساء ومجتمع المثليين على عرق أولئك الذين ينتمون إلى هذه المجموعات.

لا ينبغي أن تكون ثمة حاجة إلى تسليط الضوء على مدى قرب هذا التمييز على أسس عرقية من الآراء التي يتبناها المؤيدون التقليديون لـ”قوانين جيم كرو” في الولايات المتحدة، أو أنصار نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

وإذن، ما الذي يجعل نواب حزبي “ميرتس” و”العمل” قادرين -ليس فقط على إظهار النفاق المطلق، وإنما الموافقة على مثل هذه العنصرية الصارخة؟ الجواب هو، الصهيونية.

إن الصهيونية هي شكل من أشكال القبَلية الأيديولوجية التي تعطي الأولوية للامتياز اليهودي في المجالات القانونية والعسكرية والسياسية.

وبغض النظر عن مدى اعتبارك نفسك يساريًا، إذا كنت تؤيد الصهيونية، فأنت تعتبر أن قبليتك العرقية مهمة للغاية -ولهذا السبب وحده، أنت عنصري.

قد لا تكون مدركًا لعنصريتك، وربما لا ترغب في أن تكون عنصريًا، لكنك تكون كذلك افتراضياً. في النهاية، عندما يحين وقت الحسم، عندما تدرك أن عشيرتك اليهودية تحت تهديد قبَلي آخر، سوف تعود إلى النمط. سوف تأتي عنصريتك إلى المقدمة، تمامًا كما فعل جماعة “ميرتس” للتو.

تضامن خادع

ولكن، بالطبع، لا يوجد شيء استثنائي بالنسبة لمعظم اليهود الإسرائيليين أو أنصار إسرائيل الصهاينة في الخارج، سواء كانوا يهودًا أم لا.

إن القبَلية متوطنة في الطريقة التي ينظر بها معظمنا إلى العالم، وتطفو بسرعة على السطح كلما تصورنا أن قبيلتنا في خطر.

يمكن لمعظمنا أن يتحول بسرعة إلى قبائِلي متطرف. عندما تتعلق القبلية بمسائل أكثر تفاهة، مثل دعم فريق رياضي، فإنها تظهر في الغالب في أشكال أقل خطورة، مثل السلوك الفظ أو العدواني.

لكنها إذا كانت تتعلق بمجموعة عرقية أو قومية، فإنها تشجع مجموعة من السلوكيات الأكثر خطورة: الشوفينية، والعنصرية، والتمييز، والفصل، وإثارة الحروب.

بقدر حساسية “ميرتس” تجاه هوياته القبَلية الخاصة، سواء كانت اليهودية أو التضامن مع مجتمع المثليين، فإن حساسيته تجاه المشاغل القبَلية للآخرين يمكن أن تتلاشى بسرعة عندما يتم تقديم تلك الهوية الأخرى على أنها تهديد.

وهذا هو السبب في أن “ميرتس” يفتقر، بإعطاء الأولوية لهويته اليهودية، إلى أي تضامن حقيقي مع الفلسطينيين -أو حتى مع مجتمع المثليين الفلسطينيين.

بدلاً من ذلك، تبدو معارضة “ميرتس” للاحتلال والمستوطنات غالباً متجذرة في الشعور بأنها أشياء مضرّة لإسرائيل وعلاقاتها مع الغرب أكثر مما هي جريمة ضد الفلسطينيين.

هذا التناقض واللا-تساوُق يعني أننا يمكن أن ننخدع بسهولة بشأن من هم حلفاؤنا الحقيقيون. إن مجرد تشاركنا في الالتزام بشيء، مثل إنهاء الاحتلال، لا يعني بالضرورة أننا نفعل ذلك للأسباب نفسها -أو أننا نُسنِد الأهمية نفسها لالتزامنا.

على سبيل المثال، من السهل أن يفترض نشطاء التضامن مع الفلسطينيين الأقل خبرة، عندما يستمعون إلى سياسيي “ميرتس”، أن الحزب سيساعد على تقدم القضية الفلسطينية.

لكن الفشل في فهم أولويات “ميرتس” القبَلية هو وصفة لخيبة الأمل المستمرة -والنشاط غير المجدي بالنسبة للفلسطينيين.

ظلت عملية “سلام” أوسلو ذات مصداقية في الغرب لفترة طويلة فقط لأن الغربيين أساؤوا فهم كيفية توافقها مع الأولويات القبَلية للإسرائيليين.

كان المعظم على استعداد لدعم السلام بمعناه المجرد طالما أنها لا تترتب عليه أي خسارة عملية لامتيازاتهم القبَلية.

وقد أظهر إسحاق رابين، الشريك الإسرائيلي للغرب في عملية “أوسلو”، ما تنطوي عليه هذه القبَلية في أعقاب الهجوم المسلح الذي نفذه المستوطن باروخ غولدشتاين في العام 1994، وقتل وجرح فيه أكثر من 100 فلسطيني أثناء أداء الصلاة في مدينة الخليل الفلسطينية.

بدلاً من استخدام حادث القتل الوحشي كمبرر لتنفيذ التزامه بإزالة المستعمرات الصغيرة للمستوطنين المتطرفين من الخليل، وضع رابين الفلسطينيين في الخليل تحت حظر التجول لأشهر عدة.

ولم يتم رفع هذه القيود بشكل كامل عن العديد من الفلسطينيين في الخليل، وسمحت للمستوطنين اليهود بتوسيع مستعمراتهم منذ ذلك الحين.

النظام الهرمي للقبَلية

هناك نقطة أخرى تحتاج إلى التأكيد والتي توضحها الحالة الإسرائيلية الفلسطينية جيدًا. ليست كل القبَليات متساوية، أو خطرة بالقدر نفسه.

الفلسطينيون قادرون تمامًا على أن يكونوا قبَليين أيضًا. انظروا فقط إلى المواقف المعتقدة بالصلاح الذاتي لبعض قادة حماس، على سبيل المثال.

ولكن مهما كانت الأوهام التي يؤويها الصهاينة، فمن الواضح أن القبَلية الفلسطينية تظل أقل خطورة بكثير على إسرائيل من خطورة القبَلية اليهودية على الفلسطينيين.

تحظى إسرائيل، الدولة التي تمثل العشائر اليهودية، بدعم جميع الحكومات الغربية ووسائل الإعلام الرئيسية، وكذلك معظم الحكومات العربية، وتواطؤ المؤسسات العالمية على الأقل.

وتمتلك إسرائيل جيشًا وقوات بحرية وجوية، وكلها تستطيع الاعتماد على أحدث وأقوى الأسلحة، المدعومة هي نفسها بشكل كبير من الولايات المتحدة، كما تتمتع إسرائيل أيضًا بوضع تجاري خاص مع الغرب، مما جعل اقتصادها واحدًا من بين الأقوى على سطح الكوكب.

يمكن بسهولة دحض الفكرة القائلة إن لدى اليهود الإسرائيليين سببا أكبر للخوف من الفلسطينيين (أو في وهم آخر، العالم العربي) أكثر مما لدى الفلسطينيين ليخشوه من إسرائيل.

فكروا ببساطة في عدد اليهود الإسرائيليين الذين يرغبون في تبادل الأماكن مع فلسطيني -سواء كان ذلك في غزة، أو الضفة الغربية، أو القدس الشرقية، أو من الأقلية التي تعيش داخل إسرائيل.

والدرس هو أن هناك تسلسلاً هرمياً للقبائل، وأن قبلية ما تكون أكثر خطورة إذا كانت تتمتع بسلطة أكبر.

أن القبلية الممكَّنة تمتلك القدرة على إحداث ضرر أكبر بكثير من القبَلية المستضعفة. ليست كل القبلية مدمرة بالقدر نفسه.

لكن هناك نقطة أكثر أهمية. إن القبلية القوية تستفز بالضرورة وتكثِّف وتعمق القبَلية المستضعفة. غالبًا ما يزعم الصهاينة أن الفلسطينيين هم شعب مختلَق أو وهمي لأنهم لم يُعرفوا كفلسطينيين إلا بعد قيام دولة إسرائيل.

وقد اشتهرت رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة، غولدا مائير، باقتراحها أن الفلسطينيين شعب مخترَع.

كان هذا، بطبيعة الحال، هراء خادماً للذات.

لكن له نواة من الحقيقة تجعله يبدو معقولاً. لقد تجلت الهوية الفلسطينية وتكثفت نتيجة التهديد الذي يشكله المهاجرون اليهود القادمون من أوروبا، بدعوى أن الوطن الفلسطيني هو وطنهم.

كما يقول المثل، أنت لا تقدِّر دائمًا ما لديك تمامًا حتى تواجه فقدانه.

كان على الفلسطينيين أن يشحذوا هويتهم الوطنية، وطموحاتهم الوطنية، في مواجهة التهديد المتمثل في ادعاء شخص آخر يعتقد بأن ما لديهم كان دائماً مُلكَه ويعود إليه.

يقول المثل، أنت لا تقدِّر دائمًا ما لديك تمامًا حتى تواجه فقدانه. كان على الفلسطينيين أن يشحذوا هويتهم الوطنية، وطموحاتهم الوطنية، في مواجهة التهديد المتمثل في ادعاء شخص آخر يعتقد بأن ما لديهم كان دائماً مُلكَه ويعود إليه.

* *

قيم متفوقة

وإذن، كيف يساعدنا كل هذا على فهم القبَلية في الغرب؟

على الأقل، مهما تكن المخاوف التي يتم تشجيعها في الغرب بشأن التهديد المفترض الذي تشكله روسيا والصين، فإن الحقيقة هي أن القبَلية الغربية -التي يُطلق عليها أحيانًا اسم “الحضارة الغربية” أو “النظام القائم على القواعد” أو “العالم الديمقراطي”، أو حتى بشكل أكثر سخافة، “المجتمع الدولي”- هي الأقوى إلى حد بعيد بين جميع القبَليات على هذا الكوكب. وبذلك الأكثر خطورة أيضاً.

على سبيل المثال، تنبع قوة إسرائيل القبَلية بشكل حصري تقريبًا من القوة القبَلية للغرب. إنها مُلحق؛ امتداد للقوة القبَلية الغربية.

لكننا نحتاج إلى أن نكون أكثر تحديدًا بعض الشيء في تفكيرنا. إننا نشترك، أنا وأنت، في الانتماء إلى القبَلية الغربية -إما بوعي أو بوعي أقل، اعتمادًا على ما إذا كنا نرى أنفسنا على يمين أو يسار الطيف السياسي- لأنها غُرست ونشأت فينا طوال العمر من خلال الآباء والأمهات والمدارس ووسائل الإعلام المؤسسية.

إننا نعتقد أن الغرب هو الأفضل. لا أحد منا يريد أن يكون روسياً أو صينياً بأكثر مما يمكن أن يختار اليهود الإسرائيليون أن يكونوا فلسطينيين. نحن نفهم ضمنيًا أن لدينا امتيازات على القبائل الأخرى. ولأننا قبَليون، فإننا نفترض أن هذه الامتيازات مبررة بطريقة ما. إما أنها تنبع من تفوقنا المتأصل (وهي وجهة نظر غالبًا ما ترتبط باليمين المتطرف) أو من ثقافة أو تقاليد متفوقة (وجهة نظر عادة ما يتبناها اليمين المعتدل، والليبراليون وأجزاء من اليسار).

مرة أخرى، يردد هذا أصداء النظرة الصهيونية. يميل اليهود الإسرائيليون على اليمين إلى الاعتقاد بأن لديهم صفات أعلى بطبيعتها من الفلسطينيين والعرب، الذين يُنظر إليهم على أنهم إرهابيون، بدائيون أو متخلفون أو بربريون. وبالتداخل مع هذه الافتراضات، يميل اليهود الصهاينة المتدينون إلى تخيل أنهم متفوقون لأن لديهم الإله الواحد الحقيقي يقف إلى جانبهم.

على النقيض من ذلك، يعتقد معظم اليهود العلمانيين في اليسار، مثل ليبراليي “ميرتس”، أن تفوقهم ينبع من مفهوم غامض عن “الثقافة” أو الحضارة الغربية التي عززت فيهم قدرة أكبر على إظهار التسامح والرحمة، والتصرف بعقلانية، مما يفعله معظم الفلسطينيين.

وسوف يرغب “ميرتس” في توسيع هذه الثقافة لتشمل الفلسطينيين لمساعدتهم على الاستفادة من التأثيرات نفسها التي تجعل المرء متحضراً. ولكن، حتى يحدث ذلك، فإنهم، مثل اليمين الصهيوني، ينظرون إلى الفلسطينيين في المقام الأول على أنهم تهديد.

إذا نظرنا إلى الأمر بالمعاني البسيطة، فإن جماعة “ميرتس” يعتقدون أنه لا يمكنهم بسهولة تمكين مجتمع المثليين الفلسطينيين، كما يودون، من دون تمكين حماس أيضًا. وهم لا يرغبون في القيام بذلك لأن قوة حماس، كما يخشون، لن تهدد مجتمع المثليين الفلسطينيين فحسب، بل المجتمع الإسرائيلي أيضًا.

ولذلك، سوف يتعين على تحرير الفلسطينيين من عقود من الاحتلال العسكري الإسرائيلي والتطهير العرقي انتظار لحظة أكثر ملاءمة -مهما طال الوقت الذي قد يستغرقه ذلك، وبغض النظر عن المعاناة التي سيكابدها العديد من الفلسطينيين في هذه الأثناء.

هتلرات جدد

لا ينبغي أن يكون من الصعب إدراك أوجه الشبه بين هذا الواقع ونظرتنا الغربية الخاصة للعالم.

إننا نفهم أن عشائريتنا، وإعطاءنا الأولوية لامتيازاتنا الخاصة في الغرب، تنطوي على معاناة للآخرين. ولكن إما أننا نفترض كوننا أكثر استحقاقًا من القبائل الأخرى، أو نفترض أن الآخرين -حتى يصبحوا مستحقين- يجب أن يُجلَبوا أولاً إلى مستوانا من خلال التعليم والتأثيرات الأخرى للتمدين. وسوف يترتب عليهم أن يعانوا فقط في هذه الأثناء.

عندما نقرأ عن النظرة العالمية القائمة على فكرة “عبء الرجل الأبيض” في كتب التاريخ، فإننا نفهم -بالاستفادة من المسافة التي تفصلنا الآن عن تلك الأوقات- مدى قبح الاستعمار الغربي. وعندما يقترح أحد أننا ربما ما نزال نؤوي هذا النوع من القبَلية، فإننا نشعر بالضيق أو، والأكثر احتمالاً، السخط. “عنصري؟ – أنا؟ هذا سخيف!”.

وعلاوة على ذلك، يجعلنا عمانا عن رؤية قبَليتنا الغربية فائقة القوة غافلين أيضًا عن تأثير قبَليتنا على القبَلية الأقل قوة. إننا نتخيل أنفسنا تحت التهديد المستمر من أي مجموعة أخرى تؤكد قبَليتها الخاصة في مواجهة قبَليتنا الأكثر قوة.

قد تكون بعض هذه التهديدات أكثر أيديولوجية وعديمة الشكل، لا سيما في السنوات الأخيرة: مثل “صراع الحضارات” المفترض ضد التطرف الإسلامي لتنظيمي القاعدة و”داعش”.

لكن أعداءنا المفضلين لهم وجه، ويمكن تقديمهم بسهولة على أنهم بديل غير محتمل لتصورنا النمطي عن البُعبع: أدولف هتلر.

يظهر هؤلاء الهتلرات الجدد واحدًا تلو الآخر، مثل لعبة “اضرب الخُلد” (1) التي لا يمكننا الفوز بها بشكل نهائي أبدًا.

الرئيس العراقي صدام حسين -من المفترض أنه مستعد لإطلاق أسلحة الدمار الشامل التي لم تكن بحوزته في الواقع في اتجاهنا في أقل من 45 دقيقة.

آيات الله المجانين في إيران وعملاؤهم السياسيون -يسعون إلى بناء قنبلة نووية لتدمير بؤرتنا الأمامية، إسرائيل، قبل أن يوجهوا رؤوسهم الحربية إلى أوروبا والولايات المتحدة.

ثم هناك الوحش الأكبر والأسوأ على الإطلاق: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. العقل المدبر الذي يهدد أسلوب حياتنا أو قيمنا أو حضارتنا بألعابه الذهنية، والمعلومات المضللة، والسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي بواسطة جيش من الروبوتات.

تهديدات وجودية

لأننا عميان عن قبَليتنا الخاصة مثل عمى “ميرتس” عن رؤية عنصريته تجاه الفلسطينيين، لا يمكننا أن نفهم لماذا قد يخافنا أي شخص آخر أكثر مما نخافه نحن. لقد زرعت حضارتنا “المتفوقة” فينا انغماساً في الذات، نرجسية ترفض الاعتراف بوجودنا المهدِّد في العالم.

لا يمكن للروس أبدًا بصدد الرد على تهديد -حقيقي أو متخيل- ربما نشكله من خلال توسيع وجودنا العسكري حتى حدود روسيا.

لا يستطيع الروس أبدًا أن يروا تحالفنا العسكري، الناتو، على أنه عدواني في المقام الأول وليس دفاعيًا، كما ندعي، على الرغم من أنه في مكان ما في فترة راحة ذهنية صغيرة معتمة، حيث يتم دفع الأشياء التي تجعلنا غير مرتاحين، نعلم أن الجيوش الغربية شنت سلسلة من الحروب العدوانية المباشرة على دول مثل العراق وأفغانستان، ومن خلال وكلاء في سورية واليمن وإيران وفنزويلا.

لا يستطيع الروس أبدًا أن يخافوا بصدق مجموعات النازيين الجدد في أوكرانيا -الجماعات التي كانت وسائل الإعلام الغربية تشعر بالقلق حتى وقت قريب من تزايد قوتها- حتى بعد أن تم دمج هؤلاء النازيين الجدد في الجيش الأوكراني وقادوا ما يرقى إلى حرب أهلية ضد المجتمعات العرقية الروسية في شرق البلاد.

من وجهة نظرنا، عندما تحدث بوتين عن الحاجة إلى نزع النازية من أوكرانيا، فإنه لم يكن يضخِّم مخاوف الروس المبررة من وجود النازية على أعتاب منازلهم، نظرًا لتاريخهم، أو التهديد الذي تشكله هذه الجماعات حقًا على المجتمعات العرقية الروسية القريبة. لا، لقد كان يثبت ببساطة أنه هو والأغلبية المحتملة من الروس الذين يفكرون كما يفعل، مجانين.

وأكثر من ذلك، منحتنا مبالغته الإذن بإخراج تسليحنا السري لجماعات النازيين الجدد هذه إلى النور. الآن نحن نحتضن هؤلاء النازيين الجدد، كما نفعل مع بقية أوكرانيا، ونرسل إليهم الأسلحة المتطورة -الأسلحة المتطورة التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات.

وأثناء قيامنا بذلك، فإننا نوبخ بوتين، مؤمنين بصلاحنا الذاتي، على جنونه وتضليله. إنه مجنون أو كاذب لأنه ينظر إلينا على أننا تهديد وجودي لروسيا، بينما نحن مبررون تمامًا في اعتباره تهديدًا وجوديًا للحضارة الغربية.

وهكذا، نستمر في إطعام الشيطان الوهمي الذي نخافه. ومهما تكرر فضح طبيعة مخاوفنا باعتبارها مبررة ذاتياً، فإننا لا نتعلم أبدًا.

كان صدام حسين قد شكل تهديدًا وجوديًا سابقًا. كانت أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها -غير الموجودة في الحقيقة- ستوضع في صواريخه بعيدة المدى -غير الموجودة أيضاً- لتدميرنا. ولذلك كان لدينا كل الحق في أن نيقوم بتدمير العراق أولاً، بشكل استباقي. ولكن، عندما تبين أن أسلحة الدمار الشامل هذه لم تكن موجودة، خطأ مَن كان هذا؟ ليس خطأنا نحن، بالطبع. كان خطأ صدام حسين. إنه لم يخبرنا بأنه ليس بحوزته أسلحة دمار شامل. كيف كان لنا أن نعرف؟ في رأينا، انتهى الأمر بالعراق إلى الدمار لأن صدام كان رجلاً قوياً صدّق دعايته الخاصة؛ كان عربياً بدائياً فجرته القنبلة التي صنعها هو.

إننا إذا توقفنا للحظة ووقفنا خارج قبَليتنا الخاصة، فإننا قد ندرك حجم الخطر -حجم الجنون- الذي تنطوي عليه نرجسيتنا. لم يخبرنا صدام حسين بأنها لم تكون بحوزته أسلحة دمار شامل، بأنه دمرها سراً قبل سنوات عديدة، لأنه كان يخشى منا ومن دافعنا الذي لا يمكن السيطرة عليه للسيطرة على الكرة الأرضية. كان يخشى أننا -إذا علمنا أنه لا يمتلك تلك الأسلحة، ربما يكون لدينا حافز أكبر لمهاجمته هو والعراق، إما بشكل مباشر أو من خلال وكلاء. كنا نحن الذين أوقعناه في فخ كذبته.

ثم هناك إيران. إن غضبنا الذي لا نهاية له من آيات الله المجانين -عقوباتنا الاقتصادية، وإعدامنا نحن وإسرائيل لعلماء إيران، وأحاديثنا المستمرة عن الغزو- تهدف كلها إلى منع طهران من الحصول على سلاح نووي قد يؤدي في النهاية إلى تسوية ساحة اللعب في الشرق الأوسط مع إسرائيل، التي كنا قد ساعدناها على تطوير ترسانة نووية كبيرة منذ عقود.

يجب إيقاف إيران حتى لا تتمكن من تدمير إسرائيل ومن ثم تدميرنا. إن مخاوفنا من التهديد النووي الإيراني لها أهمية قصوى. يجب علينا أن نضرب، مباشرة أو من خلال وكلاء، ضد حلفائها في لبنان، واليمن، وسورية وغزة. يجب صياغة سياستنا تجاه الشرق الأوسط بأكملها حول الجهود المبذولة لمنع إيران من الحصول على القنبلة في أي وقت وإلى الأبد.

وفي غمرة جنوننا وغضبنا، لا يمكننا أن تخيل مخاوف الإيرانيين، وإحساسهم الواقعي بأننا نشكل تهديدًا أخطر عليهم مما قد يشكلونه علينا. في ظل هذه الظروف، بالنسبة للإيرانيين، قد يبدو السلاح النووي بالتأكيد وكأنه بوليصة تأمين حكيمة للغاية -رادع- ضد إحساسنا الذاتي اللامحدود بالصلاح والأحقية.

حلقة مفرغة

لأننا أقوى قبيلة على سطح هذا الكوكب، فإننا أيضًا الأكثر خداعًا، والأكثر ترويجاً ودعاية، وكذلك الأكثر خطورة. إننا نخلق الواقع الذي نظن أننا نعارضه. نحن نفرخ الشياطين التي نخافها. نحن نجبر منافسينا على القيام بدور البعبع الذي يجعلنا نشعر بالرضا عن أنفسنا.

في إسرائيل يتخيل “ميرتس” أنه يعارض الاحتلال. ومع ذلك يستمر في التواطؤ والتآمر في أفعال -يفترض أنها تساعد على حفظ أمن إسرائيل، مثل قانون الفصل العنصري- تجعل الفلسطينيين يخشون على وجودهم ويعتقدون أنه ليس لديهم حلفاء يهود في إسرائيل. وبينما يجدون أنفسهم محشورين في الزاوية، يقاوم الفلسطينيون، إما بطريقة منظمة، كما حدث أثناء انتفاضاتهم، أو من خلال هجمات “الذئاب المنفردة” غير الفعالة التي ينفذها أفراد.

لكن جماعة قبَلية “ميرتس” الصهيونية -باعتبارها ليبرالية، وإنسانية وعطوفة كما هي- تعني أنهم لا يستطيعون إدراك أي شيء سوى مخاوفهم الوجودية الخاصة. لا يمكنهم أن يروا أنفسهم كتهديد للآخرين أو استيعاب المخاوف التي يثيرونها هم والصهاينة الآخرون لدى الفلسطينيين. ولذلك، يجب نبذ الفلسطينيين باعتبارهم مهووسين دينيين، أو بدائيين، أو إرهابيين-برابرة.

ويُنتج هذا النوع من القبلية حلقة مفرغة -بالنسبة لنا كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل. وتعني سلوكياتنا القائمة على افتراض التفوق -جشعنا وعدوانيتنا- أننا نُعمِّق، بشكل حتمي، قبَلية الآخرين ونستفز مقاومتهم. وهذا بدوره يبرّر افتراضنا بأنه يجب علينا أن نتصرف بشكل أكثر قبَلية، وأكثر جشعًا، بل وأكثر عدوانية.

حرب التشجيع

لكل منا -بطبيعة الحال- أكثر من هوية قبَلية. إننا لسنا بريطانيين، وفرنسيين، وأميركيين وبرازيليين فقط. نحن أسود، وآسيوي، وإسباني، وأبيض. نحن مستقيمون، مثليون، متحولون، أو شيء أكثر تعقيدًا. نحن محافظون، ليبراليون، ويساريون. نحن يمكن أن ندعم فريقًا، أو يكون لنا إيمان.

ويمكن أن تتعارض هذه الهويات القبَلية وتتفاعل بطرق معقدة. وكما يظهر “ميرتس”، يمكن أن تأتي إحدى الهويات إلى المقدمة، أو أن تتراجع إلى الخلفية، حسب الظروف وتصور التهديد.

ولكن ربما الأهم من ذلك كله، أن بعض القبلية يمكن تسخيرها والتلاعب بها من قبل هويات قبلية أخرى أضيق وأكثر سرية. تذكروا، ليست كل القبَليات متساوية.

لدى النخب الغربية -سياسيينا، وقادة الشركات والمليارديرات- عشائرهم الضيقة. وهم يعطون الأولوية لقبيلتهم الخاصة ومصالحها: جني المال والاحتفاظ بالسلطة على المسرح العالمي. ولكن، بالنظر إلى مدى القبح والأنانية والتدمير التي ستبدو عليها هذه القبيلة إذا وقفت أمامنا عارية في سعيها وراء السلطة لمصلحتها الخاصة، فإنها تروج لمصالحها القبلية باسم القبيلة الأوسع وقيمها “الثقافية”.

هذه القبيلة النخبوية تشن حروبها التي لا نهاية لها من أجل السيطرة على الموارد، وتضطهد الآخرين، وتفرض التقشف، وتدمر الكوكب، كل ذلك باسم الحضارة الغربية.

عندما نشجع حروب الغرب؛ عندما نعترف على مضض بضرورة تحطيم المجتمعات الأخرى؛ عندما نقبل أن الفقر وبنوك الطعام هي نتيجة ثانوية مؤسفة للحقائق الاقتصادية المفترضة، كما هو الحال بالنسبة لتسميم الكوكب، فإننا نتآمر في تعزيز -ليس مصالحنا القبلية بل مصالح أحد آخر.

عندما نرسل عشرات المليارات من الدولارات من الأسلحة إلى أوكرانيا، فإننا نتخيل أننا مؤثِرون منكرون للذات، ونساعد أولئك الذين يعانون من المتاعب، ونوقف رجلاً مجنوناً شريراً، ونلتزم بالقانون الدولي، ونستمع إلى الأوكرانيين. لكن فهمنا لـ”سبب” تطور الأحداث كما هي في أوكرانيا، أكثر من “كيفية” تطورها، فُرِض علينا، تمامًا كما حدث مع الأوكرانيين العاديين والروس العاديين.

إننا نعتقد أنه يمكننا إنهاء الحرب من خلال المزيد من القوة. نفترض أنه يمكننا إرهاب روسيا ودفعها إلى الانسحاب. أو حتى بشكل أكثر خطورة، نتخيل أننا قادرون على هزيمة روسيا المسلحة نوويًا وإسقاط رئيسها “المجنون”. ولا يمكننا أن نتخيل أننا نؤجج فقط تلك المخاوف ذاتها التي دفعت روسيا إلى غزو أوكرانيا في المقام الأول؛ تلك المخاوف ذاتها التي جلبت رجلاً قوياً مثل بوتين إلى السلطة والتي تبقيه هناك. إننا نجعل الموقف أسوأ بافتراض أننا نجعله أفضل.

وإذن، لماذا نفعل ذلك؟

لأن أفكارنا ليست لنا نحن. إننا نرقص على لحن من تأليف آخرين بالكاد نفهم دوافعهم واهتماماتهم.

إن حرباً لا نهاية لها ليست في مصلحتنا، ولا في مصلحة الأوكرانيين أو الروس. لكنها قد يكون في مصلحة النخب الغربية التي تحتاج إلى “إضعاف العدو” لتوسيع هيمنتها؛ التي تحتاج إلى ذرائع لنهب أموالنا من أجل تسعير الحروب التي تعود بالربح عليها وحدها؛ التي تحتاج إلى خلق أعداء لتأمين قبَلية الجماهير الغربية بحيث لا نبدأ في رؤية الأشياء من وجهة نظر الآخرين أو التساؤل عما إذا كانت قبليتنا تخدم حقًا مصالحنا أم مصالح نخبة مخصوصة.

الحقيقة هي أننا نتعرض باستمرار للتلاعب والخداع والدعاية لتعزيز “القيم” التي ليست متأصلة في ثقافتنا “المتفوقة”، وإنما التي تقوم بتصنيعها لنا ذراع العلاقات العامة للنخب، وسائل الإعلام الرئيسية. وقد تم تحويلنا إلى متآمرين راغبين في سلوك يضر بنا نحن والآخرين ويضر بالكوكب في الحقيقة.

في أوكرانيا، يتم تسليح نفس تعاطفنا ورغبتنا في المساعدة بطرق تقتل الأوكرانيين وتدمر مجتمعاتهم، تمامًا كما أمضت ليبرالية “ميرتس” المتعاطفة عقودًا في تبرير اضطهاد الفلسطينيين باسم إنهائه.

إننا لا نستطيع تحرير أوكرانيا أو روسيا. لكن ما يمكننا القيام به، على المدى الطويل، يثبت كونه أكثر أهمية بكثير: يمكننا البدء في تحرير عقولنا.

*جوناثان كوك Jonathan Cook: صحفي بريطاني حائز على جوائز. أقام في مدينة الناصرة لمدة 20 عامًا. عاد إلى المملكة المتحدة في العام 2021. وهو مؤلف لثلاثة كتب عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني: “الدم والدين: كشف قناع الدولة اليهودية” (2006)، و”إسرائيل وصدام الحضارات: العراق وإيران وخطة إعادة تشكيل الشرق الأوسط” (2008)؛ و”فلسطين المتلاشية: تجارب إسرائيل في البؤس البشري” (2008).

*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Hierarchy of Tribalisms

هامش:

 (1) قوانين جيم كرو (Jim Crow Laws)‏ مصطلح أصبح شائع الاستخدام في الغرب في ثمانينيات القرن التاسع عشر الميلادي، عندما صار الفصل الاجتماعي مشروعًا في كثير من الأجزاء الجنوبية للولايات المتحدة.

يُشير المصطلح، أصلاً، إلى شخصية سوداء البشرة في أغنية شعبية تم تأليفها في العام 1830م. وطالبت القوانين بفصل الأعراق في كثير من الأماكن العامة.

ولكن أُعلن عن عدم شرعية أغلب هذه القوانين في الولايات المتحدة، بموجب قرارات أصدرتها محاكم عليا متعددة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين الميلادي، وقوانين الحقوق المدنية للعام 1964م و1968م.

ظهر مصطلح “قوانين جيم كرو” لأول مرة في العام 1904 وفقًا لقاموس اللغة الإنجليزية الخاصة بالولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من أن هناك بعض الأدلة على استخدام المصطلح قبل ذلك الحين.

وغالبًا ما تنسب عبارة “جيم كرو” إلى أغنية “اقفز يا جيم كرو”، وهي أغنية ورقصة كاريكاتيرية تسخر من السود الأميركيين، من أداء الممثل الأبيض رايس توماس. وظهرت الأغنية للمرة الأولى في العام 1832 وكانت تستخدم للسخرية من سياسات أندرو جاكسون الشعبوية.

ونتيجة لشهرة رايس، أصبح تعبير “جيم كرو” هو الوصف التحقيري لزنوج أميركا خلال العام 1838، ومن هنا عرفت قوانين الفصل العنصري باسم “قوانين جيم كرو”.

*اضرب خُلداً hac-A-Mole، لعبة إلكترونية تُلعب على الشاشة، وتتكون من مطرقة سوداء كبية، وخمسة ثقوب في الجزء العلوي من منطقة اللعب تظهر منها حيوانات خُلد بلاستيكية صغيرة وكرتونية عشوائياً. يتم تسجيل النقاط عن طريق ضرب كل خُلد بالمطرقة عندما يظهر وقبل أن يعود إلى الاختفاء في الجُحر. وكلما كان رد الفعل أسرع، زادت النقاط.

المصدر: الغد الأردنية/(كونسورتيوم نيوز)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى