ماذا تريد الصين من سورية؟

مهيب الرفاعي

يشكل الشرق الأوسط بالنسبة للصين الشعبية مساحة جيواستراتيجية كبيرة، كان لا بد أن تشارك في رسم سياساتها. ولذلك كانت تسعى دائمًا إلى وضع قدم في هذه الساحة وتمرير أجندة خاصة بها. وإن كانت المطامع الصينية بالموقع الاستراتيجي على البحر المتوسط بادية، إلا أن رحلة بكين سعيًا وراء مصادر طاقة بديلة جديدة، وغير التي تعمل عليها في آسيا الوسطى، لم تتوقف، وازدادت، منذ تسعينيات القرن، لتشكل السوق الصينية إحدى أهم أسواق نفط الخليج العربي بنسبة استيراد بلغت حوالي 70% في نهاية عام 2019.

الصين من أكبر المستثمرين في الشرق الأوسط، إلا أن قصتها لا تروي هذه البقعة على أنها مجرد استثمارات تدرّ أرباحًا لشركاتها، وتدعم الناتج الوطني المحلي. ترى بكين في الشرق الأوسط أماكن إثبات وجود كخط أمام المعسكر الأميركي، ما يضمن لها استقرارا على المستويين، السياسي والاقتصادي، ولذلك حاولت، بكل الأدوات، أن توجد لها منافذ في دول تحقق معها مكاسب أكبر، كما الحال في علاقاتها مع سورية، ما يحقق غايتها في النفاذ عبر البحر المتوسط إلى أوروبا.

قبل بدء الحرب في سورية، اعتمدت الصين القوة الناعمة والدبلوماسية العامة، من أجل التأثير في سورية من خلال البعثات الدبلوماسية والعلاقات التجارية والمنح الجامعية، ومنح التبادل الثقافي بين جامعات البلدين. وكان للأداة الثقافية الأثر الأكبر في بداية العلاقات الصينية السورية، لتأتي جملة العلاقات الاقتصادية والسياسية فتحل محل الأداة الثقافية في تركيبة الروابط الثنائية. فعليًا، كانت صفة العلاقات السورية الصينية أنها مبنية على الاحترام المتبادل وإنشاء خطط تعاون مشترك بين البلدين، بما يتفق مع إمكانية مساعدة سورية في النهوض الاقتصادي وإنشاء مؤسسات ذات سيادة اقتصادية.

قدمت الصين دعمًا كبيرًا للمشاريع الإنمائية في سورية، خصوصا في قطاعات الزراعة والصحة والخدمات والطاقة. وأدى هذا التقارب إلى جعل السوق السورية واحدة من الأسواق الممتلئة بالمنتج الصيني بكل ألوانه، وإلى دعم المشافي العسكرية التابعة لوزارة الدفاع السورية بلوجستيات ولوازم تقنية طبية حديثة. ومع اندلاع الحرب، بات دور بكين أكبر في ظل وجود لاعبين دبلوماسيين وعسكريين كثيرين على الأرض السورية.

على الرغم من أن الصين لم تتدخل عسكريًا في سورية، إلا أن دورها كان مؤثرًا من الناحية الدبلوماسية من خلال جهدها لاستخدام حق النقض (الفيتو) في وجه أي قرار أُممي في مجلس الأمن ضد دمشق. وإن كانت الصين واحدة من القوى الفاعلة على الأرض السورية إلى جانب تركيا وروسيا وإيران ودول الخليج العربي، إلا أنها لم تشارك بنفسها في الحرب والأعمال القتالية كما فعلت كل من تركيا وروسيا، وفضّلت سياسة اللعب على المدى الطويل لضمان دخول ثابت لها في عمليات إعادة الإعمار. وفي ظل العقوبات المفروضة عليها، وجدت دمشق في الصين شريكًا قويًا يخفف عنها الأزمة الاقتصادية، ويحدث نوعًا من الموازنة في القطيعة الدولية المطبقة على سورية. وقد شكل هذه الخط من العلاقات معالم السياسة الخارجية الصينية تجاه الحالة السورية، وهو ما ظهر في رغبة بكين الدائمة بإنهاء الصراع في سورية عبر تنفيذ حل سياسي، وليس عسكريا، لا تعرف مآلاته.

وفعليًا، لم تكن الصين راضيةً عن التدخل التركي في سورية في أثناء عملية درع الفرات في 2016 وفي أثناء عملية نبع السلام نهاية 2019، إلا أنها التزمت الحياد إلى حد بعيد من عمليات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وعمليات القوات الأميركية في شرق سورية. استفادت الصين من الحرب السورية من ناحية أنها وجدت مناخًا ملائمًا ليذهب مسلمون من الإيغور إلى سورية للقتال هناك، إذ لطالما اعتبرت بكين هؤلاء متطرفين وإرهابيين، ويحملون عقلية تنظيم “داعش”، ووجدت في سورية أرضّا لتفريغ الضغط الحاصل عليها من “الجهاديين” الإيغور، عبر إرسالهم للانضمام إلى المجموعات القتالية والجهادية في سورية، محاولةً إزالة مخاوفها من عمليات داخل حدودها.

تنامت هذه المخاوف مع ازدياد أعمال “داعش” في سورية، الأمر الذي دفع بكين إلى توقيع اتفاقيات أمنية مشتركة مع دمشق، من أجل مراقبة المواطنين الصينيين الموجودين على الأراضي السورية، وباتت سورية بحد ذاتها خطرًا من وجهة نظر الصين، خصوصا وأنها تخشى عودة الإيغور المشحونين جهاديًا إلى البلاد. (يقول السفير السوري في بكين إن عددهم يقدر بنحو خمسة آلاف). ولهذا، الصين حريصة، من جهة أخرى، على تحقيق استقرار حقيقي في سورية بشراكة مع دول الاتحاد الأوروبي، للحفاظ على مستوىً معين من الأمن الدولي، بما يخدم مصالح الصين في سورية، في نهاية المطاف.

تروّج السردية الصينية فكرة استقرار سورية، ومعها لبنان طبعًا، لكون الصين على دراية أن التجارة مع أوروبا تمر بهذه المنطقة، في ظل رغبةٍ صينيةٍ واضحة بالابتعاد عن قناة السويس وكلفتها الاقتصادية الكبيرة، لحساب التأسيس لموانئ في منطقة شرق المتوسط وإعادة إحياء الطرق التجارية التقليدية بين آسيا وأوروبا. من وجهة نظر الصين، فإن ضم سورية إلى مبادرة “الحزام والطريق” يمهّد لإحياء طريق الحرير الواصل بين آسيا وأوروبا مرورًا من سورية، كما يمهد لاستثمارات صينية ضخمة في الساحل السوري، ضمن مجموعة مشاريع تمولها الحكومة الصينية ضمن خطة الربط البيني للموانئ الصناعية الموجودة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي تشكل أماكن استثمار صينية عملاقة.

وفّرت الصين جهودها التي كان من المفترض لها، كقوة فاعلة منذ 2011، أن تستثمرها في العمليات القتالية، واستغلتها في شراكات واستثمارات مع كبريات الفعاليات الصناعية والاقتصادية والصحية في سورية. بدأت الصين، منذ عام 2017، تكشف عن رغبتها في الاستثمار في مجالات الاتصالات والنقل والخدمات في سورية، لتمهّد بذلك لدخولها القوي مجرد أن تبدأ مرحلة إعادة الإعمار، والتي تشكل ذروة الاستثمار الصيني في سورية. تتأهب أكثر من مائتين من الشركات الإنشائية وشركات الإعمار الصينية، الحكومية منها والخاصة، مثل “البناء الحكومية الصينية” و”سكك حديد الصين” وشركات الاتصالات وفي مقدمتها “هواوي”، وشركات النفط والغاز والمعدات الثقيلة للدخول إلى السوق السورية بعد انتهاء الحرب والبدء بإعادة الإعمار، وأسست لذلك بمشاركتها في معرض دمشق الدولي في نسختي عامي 2018 و2019. وإن كان مستثمرون سوريون كبار على علاقات وطيدة مع الشركات الصينية في الوقت الحاضر يقولون إن الهدف من هذه العلاقات، في الوقت الحاضر، هو التخفيف من حدّة العقوبات المفروضة من الاتحاد الأوروبي وأميركا، وتزويد السوق السورية بما يلزم من مواد تصنيعية وغيرها.

لم تتأثر علاقات الصين وسورية بالعقوبات المفروضة على البلدين من الغرب، واستفادت الصين من أخطاء الولايات المتحدة في سورية لترسيخ قواعدها واستغلال الأخطاء التي وقعت فيها واشنطن لتنشيط علاقاتها مع دول الشرق الأوسط، متخذة من القضية السورية مساحةً لتجريب دبلوماسيتها العامة، وقدرتها على التأثير على مجريات السياسة الدولية، خصوصا في الشرق الأوسط، ما يرفع رصيد الحكومة الصينية والسياسيين الصينيين أمام الشعب الصيني من جهة، والمجتمع الدولي من جهة أخرى. وكانت نتيجة سياستها هذه إبرام صفقات سلاح مع إيران عامي 2014 و2017 لتبلغ نسبة السلاح الصيني حوالي 31% من المجموع الكلي لواردات إيران من السلاح.

أخيرًا، جاءت أزمة كورونا فرصة للصين لتمرير بعضٍ من أجندتها، عبر قيادتها فريقا أمميا من أجل رفع تدابير الضغط الاقتصادي عن سورية، والسماح للصين بإدخال مساعدات طبية وتزويدها بفرق إغاثية وخطط عمل، والضغط على الدول المانحة لتزويد جميع الأراضي السورية بتجهيزات طبية لتفادي انتشار الفيروس على نطاق أوسع.

وإن كانت الصين تسعى إلى الحفاظ على وحدة سورية وسيادتها من خلال استضافتها مؤتمرات الحوار السورية، ودعمها محادثات جنيف وأستانة بصفة دولة ضامنة، إلا أن ما تسعى إليه أكثر هو تصدير صورتها أنها الدولة ذات الدبلوماسية المرنة، والاقتصاد المستقر، والقدرة الصناعية الهائلة، ورأس المال الضخم، بما يضمن صعودًا منظمًا أمام المعسكر الغربي.

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى