لم أكن أعلم ان زيارتي الأخيرة لصديق العمر الأستاذ حبيب عيسى، أبو عصمت قبل أيام من مرضه وجلستنا المطولة في مكتبه ستكون آخر مرة اراه فيها ، وكان حريصا على ان يودعني ويدي بيده حتى خارج مكتبه حتى بوابة مدخل العمارة ، وعندما ابتعدت بضع خطوات التفت الى الخلف وكان لايزال واقفا ورفع يده بتلويحة وداع ، وكأنه يودعني الوداع الأخير .
علاقتي بالصديق أبو عصمت تعود الى حوالي نصف قرن عندما عمل معنا في صحيفة الثورة ، ولم يمكث فيها طويلا لأنه ادرك ان قصة الصحافة في بلدنا عبارة عن كذبة كبيرة ، وان سقف النشر لن يوفر له حرية التعبير عن أفكاره واحلامه في الدفاع عن حياة الناس واحلامهم ، لذا غادر الصحافة رغم انه كان متميزا وصادقا في كتاباته ، وآثر امتهان المحاماة كمهنة يستطع فيها الدفاع عن المظلومين والتعبير عن أحلامه بوطن سعيد تحكمه قوانين العدالة والحرية ، وهذا ماعمل له طوال عمله كمحامي ليس عن الناس فقط بل عن رؤيته الشاملة في حلمه الكبير في الوحدة العربية ، وكان من اقرب الناس الى فكر المفكر العروبي د . عصمت سيف الدولة ، حتى انه اطلق اسم المفكر الكبير على اكبر أولاده
ايمانه بضرورة الوحدة العربية كاطار قومي للوطن العربي كان هاجسه الاكبر، وبقي يعتبر نفسه مواطنا من الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة ، كما كان حرصا على اعلان ذلك في صدر صفحته على الفيسبوك .
عاش المناضل الكبير الأستاذ حبيب عيسى عمره وهو يدفع غاليا ثمن محبته لوطنه وامضى افضل سنوات عمره داخل السجن ولم يتوقف عن اعلان مواقفه بشجاعة في كل المناسبات والفعاليات المحلية اوالمؤتمرات التي شارك فيها ، وكان حضوره فيها مؤثرا في اغناء الحوارات التي كانت تتم في هذه المؤتمرات ، ودائما كان يطرح ومكررا سؤاله : مالعمل ؟
ودائما كان يجيب على سؤاله ببث رسائل محبة الى غاليته دمشق ، وتحت عنوانه المفضل (صباح الياسمين يادمشق) كتب :
(إن التكوين القومي للأمة العربية لا يلغي المكونات التي تكونت منها، بل تلك المكونات هي جذورها ، والأمة تحتويها على تنوعها ، وتعدد مصادرها ، وأروماتها ، وأن تورّم بعضها ، أو انزواء بعضها الآخر هذه الأيام مرتبط بظروف طارئة ، مما يدفعها للتصارع ، ومحاولة إقصاء بعضها ، بعضاً باحثة عن سند لها من عصبيات تجاوزها الزمان أو من قوى خارجية في الغرب ، أو من قوى خارجية في الشرق ، وتلك القوى العصبوية في الداخل، أو المعادية في الخارج تتغذى على الجموع التي تساقطت من المشروع النهضوي القومي العربي التقدمي ، الذي كان ملء الدنيا ، وبصرها ، تلك القوى المتقوقعة نكوصاً ، أو يأساً ، أو إحباطاً ، أو حتى تلك الجموع المحبطة لكنها تتعلق أملاً بتشكيل رافعة لمشروع التحرير ، والمقاومة ، والنهوض في هذه الأمة من خلال واحدة من تلك المكونات ، أو العناصر ، على الانفراد ، دون أن يدرك الجميع أن تلك المكونات مثقلة بما لحق بها من عصور الانحطاط ، والفتن ، والاستبداد التي امتدت قروناً عديدة ، وأن الحل الوحيد لإخراجها من المأزق يكمن في انخراطها في مشروع نهضوي تنويري شامل يشملها جميعاً ، ويضع حداً لمشاريع الإقصاء ، والاستئصال ، والتكفير ، وبالتالي فإن محاولة تحميل واحدة من تلك المكونات الدينية ، أو المذهبية ، أو الطائفية ، أو الأثنية ، أو العائلية ، أو الإقليمية …. مشاريع للتحرير ، والمقاومة لن ينقذها مما هي فيه، وأنه سيتم توظيفها، إرادة أو غباء، لصالح مشاريع التخريب الداخلي والعدوان الخارجي، ولن تقدم حلاً استراتيجياً لأزمة مشاريع التحرير والحرية .. وإنما ستؤدي إلى إضافة أزمات جديدة للحالتين معاً ، وصباح الياسمين يا دمشق …! )
سنفتقد حضورك اخي وصديقي الاستذ حبيب عيسى ، وستبقى مواقفك الوطنية وحبك الكبير لوطنك ودورك الوطني في العمل على حمايته وحرية مواطنيك في ذاكرة كل السوريين ، الرحمة لروحك وخالص العزاء لأسرتك ولنا ولكل محبيك يا أنبل من عرفت ، وتلويحة وداع لروحك الطيبة وحضورك الذي سنفتقده دائما .
المصدر: صفحة صبري عيسى
رحمه الله…
سيقى حياً في الضمير الوطني الجمعي
رحل جسداً ولكنه باق بيننا