قدّمت الحكومة البريطانية مبلغ 4 ملايين جنيه إسترليني لـ”بي بي سي وورلد” لمواجهة التضليل الإعلامي في روسيا وأوكرانيا، إضافة إلى حزمة عقوبات اقتصادية وسياسية أخرى فرضتها المملكة المتحدّة، ووصفها خبراء ومراقبون بـ”غير المسبوقة”.
رغم أنّ هذا التمويل الإضافي مُنح فقط لقناة “بي بي سي وورلد”، إلا أن “بي بي سي عربي” هي أيضاً جزء من “هيئة الإذاعة البريطانية” مع قنوات أخرى تابعة للشبكة نفسها. وهي القنوات التي تحصل على جزء من تمويلها من رخصة التلفزيون الشهرية التي أدفعها أنا وملايين المقيمين على الأراضي البريطانية (تصنّف هذه الرسوم كضريبة والتهرّب منها يعتبر جريمة جنائية). ندفع هذه الرسوم لنحصل على المعلومة والخبر. لنشاهد آخر التطوّرات. لنلتقط ما يحدث هنا وهناك، أو بكلمات أخرى تشبه العبث، لأتفرّج على لقاء أجرته “بي بي سي عربي” من دمشق، مدينتي المحرّم عليّ زيارتها، مع المستشارة الخاصة في الرئاسة السورية لونا الشبل.
“بي بي سي الدولية” ليست منزّهة بالتأكيد عن ارتكاب الأخطاء السياسية والإنسانية مثلها كمثل أي وسيلة إعلامية أخرى. وقد تتعرّض للتضليل، وقد تروّج له، وقد تخوض في سجالات غير دقيقة، وربما تختلط الأمور على بعض العاملين فيها فيتأرجحون بين الموضوعية والمهنية والحيادية والصمت أحياناً. كما فعل الإعلامي الشهير روس أتكنس في برنامجه “مصدر خارجي” عندما صمت بلا أي تردّد أمام تصريحات أحد المراسلين في أوكرانيا وهو يتحدّث عن “لاجئين أوكرانيين متحضّرين” على عكس ما شهدته الدول الأوروبية خلال السنوات العشر الماضية من موجات لجوء لأشخاص “غير متحضّرين”.
نعم، بهذا المعنى قد تحتاج قناة عريقة ناطقة باللغة الإنكليزية لتمويل إضافي يرنو إلى مواجهة ومحاصرة التنميط والعنصرية والعنف والتضليل الإعلامي، ليس في روسيا وأوكرانيا فحسب، بل أيضاً في بريطانيا وفي كل أنحاء العالم. إلا أن من يحتاج أكثر لمثل هذا التمويل هو “بي بي سي عربي” التي لم تتوقف طيلة السنوات العشر الماضية عن إدهاش المشاهد المجروح والمهجّر واللاجئ والتائه بعيداً من بيته وأصدقائه وعائلته وذاكرته وماضيه.
عبر السنوات، صمدت القناة بموظّفيها ومراسليها ومديري أقسامها أمام كل الانتقادات، لا بل ردّت بتعنّت أكبر في مرات كثيرة. كأن تحتفظ مثلاً بمراسل لها في بلد مزّقه النظام وهجّر شعبه. مراسل سوري نشر صورة على وسائل التواصل الاجتماعي يبدو فيها مبتهجاً وسط ضبّاط جيش متّهمين بارتكاب عمليات إبادة جماعية بحقّ السوريين. الصورة التقطت في حي الراموسة جنوب حلب، في سبتمبر 2016 مع استعادة قوات الأسد والمليشيات التي تساندها السيطرة هناك، فارضة حصاراً خانقاً على أحياء حلب الشرقية.
هل تكفي بطاقة الهوية ليتشارك هذا المراسل الجنسية السورية مع ملايين المهجّرين وضحايا البراميل والكيميائي؟ هذا السؤال نفسه طرحته لونا الشبل خلال اللقاء الذي استمرّ نصف ساعة، وكان هذا المراسل المبتهج أحد المعدّين له، لكنها هذه المرة نفت الجنسية السورية عن المعارضين السياسيين المشاركين في المفاوضات الدولية: “لتصل إلى طروحات بنّاءة يجب أن يكون المتحاورون سوريين وليس فقط بالهوية. الوفد الوطني خرج من دمشق. من أين أتى الوفد الآخر؟ من اختاره؟ الوصول إلى نتيجة يكون مع شريك، شخص يحمل نفس المبادئ ونفس الهموم، شخص وطني. عندما يختار التركي أسماء المشاركين فهؤلاء ليسوا وطنيين”، قالت الشبل.
المذيع المبتهج أيضاً لم يسأل عن الوفد “الوطني” الذي اختارته روسيا. اكتفى بنزعها الجنسية عن المعارضين السياسيين وختم اللقاء. و”نزع الجنسية” بثّته قناة بريطانية ناطقة بالعربية. واسم البرنامج لا يخلو من الاستخفاف بالمشاهد: “بلا قيود”. فهل كانت هيئة الإذاعة البريطانية تنتظر من المذيع إحراج الشبل وطرح أسئلته “بلا قيود” سعياً لمواجهة التضليل الإعلامي وسياسات القتل والعنف والتعذيب والتهجير التي لا يتقن نظام الأسد غيرها؟
سأفترض أن موقف المملكة المتحدة مما يجري في سورية محايد، وسأفترض أن التصريحات الرسمية لمسؤوليها لا تتهم بشار الأسد بالإجرام، وأن حكومتها لم تفرض العقوبات ولم تستنكر التطبيع العربي مع نظام قتل وعذّب وهجّر شعبه. سأفترض أن التمويل الضخم الأخير الذي خصّت به الحكومة البريطانية “القوة الناعمة” في الإعلام كان فقط موجّهاً للتضليل الإعلامي الذي يحاصر أوكرانيا إلى جانب الغزو الروسي. إلا أن السؤال الأول الذي وجّهه المذيع المبتهج فعلاً لوجوده في دمشق ومع المستشارة الخاصة في الرئاسة السورية، كان حول الغزو الروسي. هو يقول الغزو الروسي وهي تصحّح له المعلومة “هذه عملية عسكرية وحضرتك تصرّ على أن تسمّيها غزواً”! أليس هذا تضليلاً تعهّدت المملكة المتحدة بمواجهته عبر وسائل إعلامها “العريقة”؟ أليس كل ما نطقت به لونا الشبل هو شكل صارخ من أشكال التضليل الإعلامي؟ عندما تقول: “سورية أيّدت حق روسيا في الدفاع عن نفسها، عن أرضها، عن شعبها، عن أمنها القومي. سورية أيّدت واجب روسيا في ذلك وليس فقط حقّها. موقف سورية ثابت في حق الشعوب في الدفاع عن نفسها”. هل باتت شعارات التحرّر وحق الشعوب في الدفاع عن نفسها في وجه الظلم تخرج من دمشق التي قصف النظام ريفها بالأسلحة الكيميائية المحرّمة دولياً؟
ليس مستغرباً أن تستضيف “بي بي سي عربي” لونا الشبل وأن تمنحها منبراً لتسخر عبره من تضحيات ملايين السوريين. فهي منحته سابقاً وما تزال لمراسل قريب من النظام، موالٍ له، “شريك” كما يحلو للمستشارة أن تسمّيه، شريك في المجزرة السورية بشكل أو بآخر، ومتورّط بالمأزق السوري بشكل أو بآخر. “وطني” بمعنى أنه لم يكتفِ بالبقاء، فكثيرون لم يمتلكوا سبيلاً للخروج، بل نقل يومياً على مدار السنوات تضليل النظام عبر وسيلة إعلامية بريطانية “عريقة”. ليس مستغرباً أن تتحيّن “بي بي سي عربي” الفرصة للقاء “مبهج” مع المستشارة الخاصة، وأن تختار اللحظة الأكثر دقة في العلاقات البريطانية الروسية، تلك اللحظة التي وهبتها الحكومة البريطانية تمويلاً غير مسبوق لمواجهة العنف والتضليل. ليس مستغرباً أن تطبّع “بي بي سي عربي” علاقتها مع نظام الأسد، فهي لم تخفِ يوماً تلك العلاقة، هي القناة “المحايدة والشفافة”.
كل ذلك ليس مستغرباً إلا أنه عبثي وغير مهني وجارح.
المصدر: العربي الجديد
للأسف الشديد فإن ال بي بي سي فقدت مصداقيتها عند السوريين وتبين انحيازها الواضح لنظام الدكتاتور بشار الأسد الذي قتل وهجر الملايين من الشعب السوري بمساعدة النظام الروسي. وهذه المقابلة دليل واضح على انحياز ال بي بي سي وعدم مصداقيتها. القتل والتدمير وتهجير اللاجئين والتغيير الديموغرافي في نسيج المجتمع السوري هو أسوأ بكثير مما يجري في أوكرانيا. ولكن طبعا ال بي بي سى مثل باقي وسائل الاعلام الغربية لم تلاحظ ذلك لأن أغلب اللاجئين السوريين ليس عندهم عيون زرقاء وشعرهم أشقر.