تكتسب مشاركة الرئيس الأميركي جو بايدن في قمّتي حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي في 24 الشهر الجاري في بروكسل أهمية تاريخية، وقد تشكّل منعطفاً مصيرياً إذا صدر عن قادة الناتو إنذار بخطوط حمر الى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عنوانه أن تصعيده في حربه على أوكرانيا سيلاقي نقلة نوعية في ردود الفعل الأميركية والأوروبية.
هذه النقلة قد تتمثّل بإجراءات على نسق التدخّل العسكري تحت غطاء “حماية المدنيين” في كييف أو غيرها من المدن الرئيسية في أوكرانيا، كما سبق وحدث في كوسوفو عام 1999 في عمليات قصف للناتو بلا موافقة الأمم المتحدة، على أساس أن هذا “تدخل إنساني”.
قد يتخذ قادة الناتو قرار فرض حظر الطيران الذي يطالب به الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ويحشد الرأي العام الأوروبي والأميركي – جزئياً – وراءه. فإذا حدث وتبنّت قمّة حلف شمال الأطلسي قرار الإنذار بالأحمر والاستعداد للتدخل عسكرياً في أوكرانيا، ستكون تلك حقاً خطوة نحو حرب عالمية ثالثة لا نعرف عواقبها، لأننا في زمن عالم بأسلحة نووية وبيولوجية وكيماوية وسيبرانية، عالم بلا قواعد وبلا قيود.
الرئيس بايدن قد يلتقي نظيره الأوكراني في بروكسل أو في العاصمة البولندية وارسو، التي يُرجَّح أن يزورها. هذا اللقاء الثنائي، إذا حدث، قد يكون للرئيس بايدن لحظته التاريخية على نسق اللحظة التي أعلن فيها الرئيس الأميركي السابق جون أف كينيدي “أنا برليني” عند زيارته برلين في 26 حزيران (يونيو) 1963 أثناء الحرب الباردة في خطاب ضد الشيوعية اكتسب له شهرة واسعة.
زيلينسكي يتشوّق للقاء له مع بايدن ويتمنى لحظة “أنا أوكراني” أو ما يشابهها. إنه ليس في عجلة الى المفاوضات الجديّة مع روسيا لأن الزمن الى جانبه ولمصلحته، ولأن روسيا وقعت في المأزق الذي لن يُخرج بوتين نفسه أو روسيا منه لأنه لا يتراجع.
كلام بايدن خلال الأيام القليلة الماضية يفيد بأنه ينوي التصعيد أثناء زيارته الأوروبية بإجراءات تتعدّى البلاغة في الكلام. وصف الرئيس الأميركي نظيره الروسي بأنه “مجرم حرب” و”ديكتاتور مجرم” و”بلطجي”، وهذا كلام تبنى عليه إجراءات، على الأرجح، وهو يخرِج العلاقة الأميركية – الروسية من خانة الدبلوماسية. بل هناك توقعات بانهيار تام للعلاقات الثنائية في أعقاب قمّة حلف شمال الأطلسي، بمعنى قطع كامل العلاقات الدبلوماسية كخطوة إضافية للتطويق الاقتصادي الكامل.
المؤشرات التي يبعثها الرئيس الأميركي الى روسيا تُنذِر بأن الخطوة التالية آتية، وأن الغرب لن يقف مكتوف الأيدي، فيما العاصمة كييف و3 ملايين من سكانها تُدمّر. ما هي الأفكار والسياسات والإجراءات والاستراتيجيات التي تُدرَس في صفوف الناتو كخطوة تالية؟ لا أحد يعرف تماماً بعد، ومن الصعب التنبؤ بها.
ولكن، هناك ما يكفي من معلومات تفيد بأن القمّة الأوروبية ستفرض عقوبات جديدة، هدفها عزل روسيا بعقوبات لا مثيل لها “ستجعل من إيران تحت العقوبات لعبة صغار” كما قال أحد الضالعين في هذه المسألة.
إيران، من جهتها، تستعدّ لرفع العقوبات عنها بموجب صفقة إحياء الاتفاقية النووية التي وقّعتها الولايات المتحدة والصين وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا. بالرغم من التوتّر الذي برز بربط روسيا الصفقة الإيرانية بالأزمة الأوكرانية، روسيا حصلت على الضمانات المكتوبة من الولايات المتحدة، بما يسمح لها بالموافقة على الصفقة، وذلك بعدما تراجعت عن ربط العقوبات المفروضة عليها بسبب أوكرانيا بالصفقة الإيرانية. ما أرادته روسيا هو ضمانات بأن لا تقع إيران مجدّداً تحت العقوبات بعد توقيع الصفقة النووية. والسبب هو أن روسيا ما زالت تأمل أن تتمكّن من استخدام القناة الإيرانية لتسويق نفطها، ولذلك لا تريد لإيران أن تقع مجدّداً تحت العقوبات كضمان.
بكلام آخر، ما حرصت موسكو عليه هو ألا تقع العلاقة الروسية – الإيرانية تحت العقوبات، لأنها ما زالت تأمل أن يكون الأصدقاء والحلفاء التقليديون سنداً لها، بعد اضطرارهم للنفور منها موقتاً، كما تأمل.
القيادة الروسية مستاءة من نفور الأصدقاء بالتأكيد، بل إنها فوجئت أكثر مما فوجئت بفنزويلا وبإيران. أما الصين فإنها تبقى في نظر روسيا الحجر الأساس في العلاقات الاستراتيجية، وهي في نظر فلاديمير بوتين لا مناص ملتزمة بصداقتها مع روسيا مهما بدا من انطباعات تفيد بأن الصين أيضاً تغيّرت برياح بوتين الأوكرانية.
تبقى الصين لغزاً لكثيرين وموضع اختلاف في الآراء والتقويم، ليس فقط في إطار مواقفها من الحرب الأوكرانية، بل لجهة انعكاس هذه الحرب على تطوّر علاقات بكين بكلٍ من روسيا والولايات المتحدة. القيادة الصينية تتبنى “الغموض أداة” في براغماتية حساباتها وتتعمّد عدم تكبيل أيديها اعتباطياً أو عاطفياً. مشاريعها الجيو-سياسية الضخمة مدروسة لعقود آتية، لكن هذا لا ينفي تأثّر الاستراتيجية العقائدية بتطورات غيّرت معايير العلاقات الدولية برمّتها.
والكلام هو عن الحدث المصيري بتاريخ 20-2-2022 يوم أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فعلياً عزمه على غزو أوكرانيا من بوابة اعترافه باستقلال المناطق الانفصالية في شرق أوكرانيا، دونيتسك ولوغانسك. فكانت تلك شرارة الحرب المصيرية التي قلبت الموازين الإقليمية والعالمية، ومزّقت الدفاتر التقليدية للحسابات.
هناك ملامح تحوّل في العلاقات الأميركية – الصينية على ضوء الانحراف في العلاقات الصينية – الروسية. ليس القصد أن هذا تحوّل استراتيجي، لكنه حتماً تحوّل تكتيكي بين واشنطن وبكين سنتعرّف الى معالمه على وطأة التطورات في حرب روسيا الأوكرانية.
المقرّبون من تفكير صنّاع القرار الصينيين يقولون إن الصين تفكّر بروسيا كما هي اليوم، مبعثرة في حرب لن تنتصر فيها، وبرئيس دمّر نفسه وبلاده، ولن يتراجع. وعليه فإن نظرة الصين الى فلاديمير بوتين قبل الثاني والعشرين من شباط (فبراير) عام 2022 مختلفة تماماً عن نظرتها إليه بعد ذلك التاريخ الذي أنهاه فعلياً.
لكن روسيا الغد لا تغيب عن حسابات الصين الاستراتيجية، بغضّ النظر إن أسفرت الحرب الأوكرانية عن هلاك روسيا اليوم، استراتيجياً واقتصادياً ونفوذاً وتأثيراً عالمياً. فبكين لا تتوقف عند مفترق الطرق بلا بوصلة. وبكين تمارس لعبة المصالح بقدر ما تمارسها الولايات المتحدة الأميركية.
ما يريده الرئيس جو بايدن من نظيره الصيني شي جين بينغ هو الوعد. الوعد بأنه لن يساعد فلاديمير بوتين، بالذات عسكرياً. يريد بايدن من شي أن يدرك جديّة وحدّة عواقب أي محاولة من بنوك أو شركات صينية لتمرير بضائع روسية، لأن العقوبات الأميركية ستكون بالمرصاد وستكون مكلِفة للغاية. يريد أن يضع النقاط على الحروف ليحذّر بأن الولايات المتحدة تدرك تماماً أن أكبر ثغرة في نظام العقوبات على روسيا سيحاول بوتين استغلالها للتذاكي على العقوبات هي الثغرة الصينية. ذلك أن روسيا لطالما افترضت أن عمقها الأيديولوجي والاستراتيجي والاقتصادي يكمن في الصين، وبوتين يراهن على العداء المشترك للولايات المتحدة الأميركية.
الصين لن تقف في وجه الولايات المتحدة وأوروبا دفاعاً عن فلاديمير بوتين. فهي ترى أن بوتين حفر لنفسه الحفرة، حتى لو كانت فخاً غربياً، فهو الذي أوقع نفسه فيها.
الأرجح أنه في المحادثات الأميركية – الصينية سيخرج الطرف الأميركي من دون أن يفهم الأجوبة الصينية، لأنها ستكون مُبهَمة عمداً. ما سيفهمه الأميركيون هو أن الصين لن تغامر بمصالحها الحيوية، ولن تعرّض مشاريعها مثل “الطريق والحزام” للخطر، ولن تقدّم المعونة العسكرية لبوتين، ولن تخاطر بمؤسساتها المالية. سيفهم الأميركيون أن لدى الصين أجوبة انتقالية موقتة، لكن لديها أسئلة استراتيجية بعيدة المدى.
المصدر: النهار العربي