ما تزال إبتسام تريسي – الروائية السورية المتميزة – تتحفنا بالجديد دائماً: روايات تتناول الواقع السوري من زوايا متنوعة، بحيث أصبحت – بحق – إحدى الروائيات الرائدات في سوريا في العقدين الأخيرين.
بنات لحلوحة عنوان مثير لرواية ملحمية، فنحن أمام حشد كبير لنساء يتحدثن عن أنفسهنّ، أو تتحدث أخريات عنهن بما فيهم الكاتبة ابتسام ذاتها وهي متوارية وراء أكثر من شخصية داخل الرواية. لذلك لا بطلة للرواية بل هناك بطلات كثر. وليس في جيل واحد بل لعدة أجيال، لعقود كثيرة. وكما أن شخصيات الرواية كثر كذلك موضوعها متعدد ومتنوع ومتراكب و متداخل. الموضوع الطافي على سطح الأحداث هو سرد حكايا نساء الدعارة في حلب منذ أيام الاستقلال إلى أيامنا الحاضرة، تنتهي أحداث الرواية عام ٢٠١٧م.
هذا السرد سيظهر الواقع المجتمعي الذي أفرز هذه الظاهرة. كما سنعرف الاستخدام السافر من الأجهزة الأمنية لهذه الظاهرة، وحتى صناعتها ورعايتها، إنه حاضر كل الوقت.
يتكون واقع حياة هؤلاء النساء الداعرات من مزيج من الظلم المجتمعي، وبيع النساء لأجسادهنّ في سوق الجنس الذي ظهر مبكرا في جميع المجتمعات، وما غاب يوما. مع كونهن ضحايا مجتمع يحتقرهنّ ويستخدمهنّ و ينبذهن.ّ.
كان سوق الدعارة في سوريا في بداية الاستقلال مقننا وله قواعده وشروطه. لا أعلم ان كان ذلك إرثا من مرحلة الاستعمار الفرنسي لسورية. كان لهنّ حي مخصص في حلب “بحثيتا”. كثيرة هي الأسباب المؤدية لتصبح المرأة في بلادنا عاهرة، كلها تأتي تحت عنوان المظلومية المجتمعية. كل النساء اللواتي تحدثن عن حكايتهن كُنّ يتحدثن عن اعتداء عليهن في سن مبكرة من أحد الأقارب أو المعارف ومن ثم هربهنّ من ذويهن القتل إن اكتشفوا ماحصل معهن، خاصة إن ترافق ذلك بحمل وولادة. تهرب كلّ واحدة و تجد من يتلقفها ويبيعها لدور الدعارة الرسمية وغير الرسمية بعد ذلك، وتدخل في دوامة بيع جسدها وعيش مأساة حياتها. قد تكون خادمة من بيئة فقيرة يعتدي عليها سيد البيت أو ابنه المراهق وتنتهي لذات النهاية وتصبح عاهرة. قد تكون زوجة صغيرة لرجل مسن يكون موسرا، يعني اشتراها بماله. عند موته يطردها أولاده، وتجد نفسها مشردة، وتبيع جسدها لتعيش. وهكذا وهكذا… المهم أنه ومن خلال حديث كل النساء في الرواية، لم نجد أي امرأة اختارت هذه المهنة بإرادة حرة ومحبة. كنّ يعرفن أن ما يفعلنه خطأ اجتماعيا، و يعرفن أنهن ممتهنات وغير محترمات، و أنهن غادرن إحساسهنّ بالكرامة منذ أن وصمن بعار هذه المهنة. لكن أغلبهن لم يستسلمن لقدرهنّ هذا، لقد قررنّ استثمار ذلك. البعض حلم بالثروة والمال والسطوة والتملك، والبعض منهن تحولن لمديرات لمنازل الدعارة وأصبحن يثرين من بيع النساء اللواتي يعملن معهن أجسادهن.ّ. استطاعت بعضهن أن ينجحن بالوصول للثروة وحتى للتقارب مع أبناء السلطة والسطوة، لكنهن كن دوما ضحايا إحساس بالعار الذي يتغطى بالمظاهر الخادعة والتجميل والملابس والمنافسة النسائية والمكيدة وخلق عالم يهربن به عن واقع حالهن.
هذا حيز من عالم الرواية نستقرئه تباعا. لكن المسار الروائي يرصد كون الدعارة ومجالها ونساءها كان دائما تحت المراقبة والرعاية والاستخدام من قبل الأجهزة الأمنية. فمنذ الاستقلال سيظهر العقيد (ضابط ما) في الأمن الشعبة الثانية السياسية قبل مرحلة البعث أو اللواء في الأمن العسكري في مرحلة البعث، ليضع يده على نساء الدعارة ويستخدمهنّ في أعمال الرصد والتجسس واصياد المعارضين والخصوم. سيكون الامن هو المدير الحقيقي لشبكة الدعارة كل الوقت. يحقق من خلاله كل المكتسبات، بدءاً من استثمار نساء الدعارة لأجل ملذاتهم الشخصية، وانتهاء بصيد خصومهم وأعدائهم. كانوا يتابعون واقع النساء القدامى والجدد، ويسعون دائما لإلحاقهم بمزيد من النساء اللاتي يُظلمن مجتمعيا ويتلقفهنّ الأمن وجواسيسه ليصبحن جزءاً من فريق الدعارة الرسمية المستخدمة لصالح الأمن كل الوقت.
في الرواية تتداخل عوالم ذوات كل شخصية مع غيرها، وينتقل الحديث من عاهرة الى أخرى. ومن زمان الى آخر. كل النساء ممتلئات بما يحتجن أن يبحن به، حياتهن وكيف وصلن ليكن نساء دعارة، وما ترتب على ذلك، البعض منهن أصبح لديهن طفل أو طفلة كبروا بعيدين عن أمهاتهن أو في أحضانهنّ مع ما ينعكس عليهن نفسيا ومجتمعيا، والبعض مُنعن عن أولادهن وعشن محنة الفقد زيادة على عار مهنتهن. ومع ذلك سنكتشف أن نساء الدعارة متكيفات مع واقعهن أخيرا. فهن في غابة يعرفن أنهن الأضعف والضحايا، لكن يعملن بكل إمكانياتهن ليحصلن على أي مكتسب مادي أو سلطة أو .. تعوض لهن بعضا مما فقدنه من اعتبار حياتي.
الرواية تتابع حياة بنات لحلوحة من أربعينات القرن الماضي عندما كن صغيرات لتصل إلى أن أصبحنّ في سن الشيخوخة. وكيف تغيرت أحوالهنّ وأعمالهنّ وكيف أعيد استخدامهنّ من قبل الأجهزة الأمنية في كل الأزمنة للتجسس على أبناء السلطة وأعدائها ومتابعتهم على السواء.
تنبئنا الرواية عن الحدث السوري العام في هذه العقود التي تغطي حياة بنات لحلوحة. وخاصة بعد الثورة السورية، حيث نعلم أن الكثير من أبناء نساء لحلوحة قد أصبحن من المسؤولين في النظام الذي رعى النساء الداعرات وأبنائهم. حصل البعض على شهادات علمية مشتراة من الدول الاشتراكية وحصلوا على مناصب جامعية ووزارية، وكان ختامها حديث بتورية عن صراع داخل أجنحة السلطة أيام الثورة التي أدت إلى تفجير “خلية الأزمة” الذي لم يذكر بالاسم لكنه واضح من خلال المسار، حيث كان المطلوب التخلص من آصف شوكت الضابط النافذ وزوج ابنة الأسد الأب وأخت الحاكم الابن، عندما تبين أنه من المحتمل أن يقود انقلابا داخل القصر لتغيير شخص الرئيس مع إبقاء السلطة في ذات الطائفة وبذات البنية السابقة، وأن بعض أبناء نساء لحلوحة قد لقي مصرعه في التفجير حيث يذهبن إلى هناك ويلتقينّ على جثث أبنائهن.ّ، أبناء الرذيلة وأبناء النظام، كيف تخلص النظام منهم في صراع داخل بيت السلطة.
الرواية طويلة ٤٣٦ص، ممتلئة، تتابع حيوات شخصياتها كلهم بتفاصيل كثيرة، هذه الحياة التي تغطي بعمق واقعا مجتمعيا تشكل عبر عقود، وجعل حياة الناس على ماهم عليه.
تنتهي الرواية عندما تستطيع إحدى الفتيات اللواتي اصطادها المسؤول الأمني الأول الكبير بالسن و العاجز جنسيا والسادي، الذي يحاول اغتصابها ويعذبها، وكان يجب أن يقتلها بعد ذلك، كما يفعل مع كثير من الفتيات قبلها. تعويضا عن حب سابق لم ينجح به، وعن دور إجرامي يعيشه، مشاعر عدوانية يفرغها بالصبية الضحية. لكنها تستطيع الهرب إلى أوربا وتكتب روايتها هذه وتنشرها باسم مستعار، فهي مازالت مهددة بالقتل من النظام وأمنه حيث تكون في أي مكان في العالم.
في التعقيب على الرواية نقول:
إننا أمام رواية مختلفة تماما عن ما كانت تتحفنا به كاتبتنا العتيدة ابتسام تريسي، تؤكد لنا أنها روائية مقتدرة تعرف كيف تغرف من معين واقعنا السوري الخصب وتعطينا الجديد المختلف والمتميز في كل رواية جديدة.
كما أنها على طولها تقدم سجلا مجتمعيا حول موضوع مسكوت عنه مجتمعيا، تقية وخوفا وورعا أحيانا. إنها الدعارة، ترفع عنها الغطاء، تعيد رسم الحدود وتحميل المسؤوليات وتظهر حقائق الأمور، لا تجلس ابتسام تريسي على مقعد المحامي ولا القاضي ولا تمثل القيم والمبادئ، هي راصد اجتماعي سياسي نموذجي، ضميره حاضر ووعيه يقوده كل الوقت. لا تبرئ النساء، كما تجرّم الظروف التي أدت بهن لما أصبحنّ عليه. ترصد حياتهن وأدوارهنّ وكيف أصبحنّ جزءاً من منظومة النظام الذي استثمر كل شيء حتى نساء الدعارة. وكيف منحت بعضهنّ مهنتهن فرصة “الترقي” الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وبالتالي لم يعدن من فئة المظلومات وانتقلنّ ليكن من فئة النظام الظالم على كل المستويات. فهن بائعات جنس في العلن ومخبرات للنظام في الحقيقية أيضا.
الرواية تعيد ترتيب الحالة المجتمعية التي تنتج نساء الدعارة، وكيف تستثمر من النظام بعد ذلك لتكون إحدى أدوات السيطرة والضبط والتسلط على مجموع الناس.
هكذا تعود الرواية لتؤكد أن العدو الأساسي للشعب هو النظام راعي التخلف وصانع الاستبداد والمظلومية، الفاعل لكل الموبقات الاجتماعية وراعيها، وجاعلها أدواته في استعباد الشعب واستغلاله ونهبه.
لذلك كانت ثورة الشعب السوري حق ومطالبه بإسقاط النظام المستبد واستعادة الحرية والكرامة وتحقيق العدالة والديمقراطية، وبناء الحياة الأفضل، حيث تجعل المجتمع كله أبعد عن الرذيلة، ولا تدفع إنساننا لبيع نفسه وجسده وإنسانيته بأشكال مختلفة…