تناقلت الصحف الجزائرية هذا الأسبوع خبر نشوب خلاف حاد بين ورئيس المجلس الشعبي الوطني إبراهيم بوغالي، ويرى المراقبون السياسيون في الجزائر أن هذا الخلاف ينذر بعواقب وخيمة إذا لم يتم احتواؤه بسرعة، كما يؤكدون أنه قد يعيد، ربما، إلى الواجهة السياسية الجزائرية السيناريوات القديمة التي عصفت مراراً بهذا المجلس وبرؤسائه مثلما حصل، مثلاً، مع رئيسه السابق عمار سعداني الذي هو الآن في حالة فرار في المملكة المغربية ومع رئيسه الآخر السعيد بوحجة الذي أقصي من رئاسة هذا المجلس بانتفاضة داخلية، أدت إلى غلق أبوابه بمفاتيح حديد غليظة، وغير ذلك من الحوادث السلبية التي عرفها المجلس الشعبي الوطني الجزائري الذي يصنّف في الموقع الرابع في ترتيب قوة السلطات الأساسية في الحياة السياسية الجزائرية، وذلك بعد رئاسة الجمهورية ومجلس الأمة (الغرفة الأولى من البرلمان) والمجلس الدستوري.
وتفيد الأخبار بأن الأسباب التي أدت إلى نشوب الخلاف المذكور آنفاً تتمثل باختصار شديد، في نظر الكتل البرلمانية الجزائرية الحالية، في التصرفات الفوقية الانفرادية وغير الديموقراطية لرئيس المجلس الوطني (الغرفة السفلى من البرلمان) وفي ضعف أدائه، ما يعرقل، بحسب رأي هذه الكتل البرلمانية، عمليات تنفيذ برنامج الرئيس عبد المجيد تبون بطريقة سلسة وإيجابية، وتجسيد الإصلاحات التي وعد بها الشعب الجزائري أثناء حملته الرئاسية التي أوصلته إلى قصر المرادية.
إلى جانب ما تقدم، فإن الكتل البرلمانية في المجلس الشعبي الوطني صرحت للصحف، ومنها يومية “الشروق” الواسعة الانتشار، بأن رئيس المجلس الشعبي إبراهيم بوغالي تأخر عن تنصيب مجموعات الصداقة البرلمانية من دون سبب وجيه، ما جمّد علاقات البرلمان الجزائري (الغرفة الأولى) بالعالم الخارجي. وزيادة على ذلك، فقد لاحظ رؤساء هذه الكتل أن بوغالي لم ينفذ مضامين ملف “مشروع إعادة هيكلة المجلس الشعبي الوطني”، الأمر الذي أعاق ولا يزال يعيق عمليات “الأداء البرلماني، وكذا تحديد الصلاحيات التي تسمح للكتل البرلمانية واللجان والنواب بلعب أدوارهم”.
ومن الواضح أن رؤساء الكتل البرلمانية يشعرون أن المجلس الشعبي الوطني تخلى عن دوره، وجراء ذلك يتفهمون لماذا لم يعتمد الرئيس تبون عليه، سواء في تفعيل برنامجه الإصلاحي على المستوى الداخلي الوطني أم في المساعدة على تحريك قطار سياساته الخارجية، بخاصة في هذه الظروف التي تجابه فيها الجزائر تحديات عدة في محيطيها المغاربي والأفريقي، فضلاً عن مواجهة المشكلات الحادة جراء خلافات الجزائر مع فرنسا بسبب ملف “الذاكرة الكولونيالية” والتدخلات التي تمسّ مباشرة الوحدة الوطنية، بسبب دعم فرنسا المضمر للمعارضة الجزائرية التي تقيم في الأراضي الفرنسية، وتستخدم المنابر الإعلامية المتوفرة هناك لضرب الاستقرار الوطني الجزائري.
وفي الحقيقة، فإن جزءاً من هذه التصريحات التي أدلت بها الكتل البرلمانية صحيح، ولكن هناك خلفية مهمة يتم كبتها دائماً، رغم أنها تمثل السبب الجوهري الذي جعل البرلمان الجزائري بغرفتيه السفلى والعليا مجرد ديكور خارجي في الحياة السياسية الوطنية.
من الملاحظ أن البرلمان الجزائري صمّم منذ سنين طويلة ليكون فضاءً لتمرير قوانين النظام الحاكم وتبريرها، وإضفاء الشرعية على الانتخابات التي عرفت خروقاً خطيرة، سواء في عهود الرؤساء الراحلين هواري بومدين والشاذلي بن جديد وعلي كافي واليمين زروال، أم في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة الذي تمكّن من تحويل البرلمان مزرعة خلفية له، وفرّغه من محتواه التشريعي، وعطّله كلياً عن ممارسة تمثيل الدوائر التي انتخبت أعضاءه عبر الجزائر العميقة، ومحاسبة الحكومة التنفيذية والمؤسسات التابعة لها، ومراقبتها مركزياً وعبر الوطن كله.
ويرى المراقبون السياسيون أن الرئيس تبون ورث تركة ثقيلة عن أسلافه الرؤساء السابقين على مستوى بنية النظام الحاكم كله، وحكومته التنفيذية وعلى مستوى شكل البرلمان ومضمونه بغرفتيه، وفي هذا الخصوص يعتقد هؤلاء أنه يصعب عليه أن يقضي على هذه التركة السلبية بسهولة.
فالنظام الجزائري تعوّد سابقاً على إسناد رئاسة البرلمان الجزائري بغرفتيه إلى رموز حركة التحرر الوطني، من خلال هيكل حزب “جبهة التحرير الوطني” في عهد الأحادية السياسية المطلقة، ومن بعد إلى حزبي الموالاة “التجمع الوطني الديموقراطي” و”جبهة التحرير الوطني” في عهد التعددية الحزبية الشكلية (من عام 1997 إلى عام 2018). أما إسناد رئاسة المجلس الوطني الشعبي في عام 2019 إلى حزب “حركة البناء الوطني” لمدة قصيرة جداً، فكان حركة تكتيكية هدفها إشراك ما يسمى بالمعارضة الإسلامية للتخلص من الحراك الشعبي، وإظهارها للرأي العام انتهازية تسعى إلى السلطة مثل غيرها من أحزاب النظام الحاكم أو الأحزاب التي تجهر بالمعارضة في مواسم الانتخابات فقط.
لكن إسناد رئاسة المجلس الشعبي الوطني الحالي، في عهد الرئيس تبون، إلى شخصية مستقلة هي إبراهيم بوغالي يحتاج إلى التحليل أكثر. من الملاحظ أن بوغالي وصل إلى البرلمان بعد ترشحه مستقلاً عن منطقة غرداية التي تسكنها غالبية سكانية تنتمي إلى الطائفة الإباضية الميزابية التي تتمتع بفرادة إثنية أمازيغية أيضاً، والتي تجد محورها المذهبي (الخوارج)، بحسب مصادر موثوقة، في كل من سلطنة عُمان، حيث تنتشر الإباضية بنسبة 70 في المئة بين السكان، وفي جبل نفوسة وفي زوارة في ليبيا وفي جربة في تونس وبعض المناطق في شمال أفريقيا وزنجبار.
والجدير بالذكر هنا هو أن وصول إبراهيم بوغالي إلى رئاسة أعلى قمة هرم المجلس الشعبي الوطني ،كان مكافأة لدوره كإباضي في غرداية، حيث تقلد مناصب عدة، منها منصب مدير للصحة العامة ورئيس المجلس الولائي، كما يحفل سجله بمساهمته الفعلية في إخماد نيران الفتنة التي عرفتها منطقة غرداية قبيل منتصف ليل الثلثاء من يوم السابع من تموز (يوليو) 2015، بعدما كادت تلك الفتنة تتحول صراعاً أمازيغياً عربياً دموياً يعصف بوحدة الجزائر.
ونفهم من كل هذا، أن سماح السلطات لهذه الشخصية المستقلة بتولي رئاسة المجلس الشعبي الوطني يدخل في التكتيك السياسي المؤسس على تفعيل الهيمنة الناعمة لكسب ولاء هذه المنطقة الأمازيغية الإباضية المهمة، رمزياً من جهة، وللتلويح بأن السلطات الحاكمة شرعت في الانتصار للمرشحين الأحرار ضمن المجتمع المدني الجزائري، وكذا إعادة الاعتبار لمنطقة الجنوب الجزائري التي عانت، على مدى سنوات الاستقلال، من التهميش السياسي ومن الإقصاء التنموي الاقتصادي، من جهة أخرى.
وهنا نتساءل: هل سيغامر النظام الجزائري ويسمح لكتل المجلس الشعبي الوطني بأن تزحزح بوغالي، ممثل منطقة ميزاب الإباضية التي تعتبر قطباً رمزياً أساسياً للتوازن الجهوي والإثني والطائفي الإباضي في المسرح السياسي الجزائري، في الوقت الذي تحتاج البلاد إلى التهدئة؟
المصدر: النهار العربي