عبد الوهاب العيساوي روائي جزائري متميز، روايته الديوان الاسبرطي حصلت على جائزة البوكر للرواية العربية عام ٢٠٢٠م، كما انه حصل على جوائز اخرى لروايات نشرها في السنوات السابقة.
الديوان الاسبرطي؛ رواية تتحدث عن مرحلة احتلال الاستعمار الفرنسي للجزائر، عام ١٨٣٣م، والسنوات التي سبقت ذلك منذ عام ١٨١٦م.
تعتمد الرواية أسلوب السرد بلغة المتكلم على لسان الشخصيات الاساسية في الرواية، يتبادلون الادوار على منصة السرد، كل يتحدث من موقعه ودوره عن الجانب الحياتي الخاص له، ودوره العام في سير أحداث الرواية. الحدث المركزي هو احتلال الفرنسيين للجزائر، كيف تم التخطيط لذلك ؟، وكيف تم التنفيذ ؟، ما حقيقة موقف الدولة الفرنسية في ذلك؟، ما ردة فعل الجزائريين ؟، كيف تعاملت كل الأطراف مع الحدث ؟، وما هي ردود أفعالهم كل من موقعه ودوره ؟. شخصيات الرواية على تعددها لها دورها تغطية الحدث الروائي كل من جانبه، بحيث تكتمل الرواية بتقديم روايتهم الكاملة عن الحدث التاريخي المهم، الذي سيكون مقدمة لاستعمار المنطقة العربية بعد ذلك، متابعين نموذج استعمار الفرنسيين للجزائر.
تنوير الشخصيات مهم للدخول في عالم الرواية:
١ – كافيار القائد العسكري الفرنسي من الضباط الذين رافقوا نابليون في رحلة بحثه عن مجده الشخصي وتوجهه الى الشرق مستفتحا العصر الاستعماري في غزوه لمصر عام ١٧٩٨م وفشله وعودته ليصبح حاكم فرنسا بعد ذلك، لكن طموحه الاستعماري لم يتراجع، وكان له معارك داخل أوروبا وكان آخرها معركة واترلوا التي هزم فيها، وكان مصيره النفي لإحدى الجزر، وموته هناك وحيدا معزولا. لكن ضباطه لم ييأسوا من أن يتحركوا جنوبا لإحتلال البلاد العربية التي كانت مازالت تحت الحكم العثماني. مات نابليون لكن الدولة الفرنسية بقيت بكيانها العميق وتخطيطها بعيد المدى تسعى لأن تتوسع، كانت الجزائر هي الاقرب لفرنسا وكان لها الأولوية في التخطيط لاستعمارها. أُرسل كافيار من الحكومة الفرنسية عام ١٨١٦م الى الجزائر بصفة تاجر ليقوم بدراستها تفصيليا. ذهب الى مدنها، رسم خرائطها، عرف سكانها، كل شيء كان يدونه ويحتفظ به بكراسات ستكون الدليل العملي بعد ذلك عند مجيئه مع الحملة الفرنسية لاستعمار الجزائر، كان يسمي الجزائر المدينة والإقليم اسبرطة، نسبة لطموحه بأن يجعلها دولة محكومة بالقوة العسكرية الباطشة. لم تكن رحلة كافيار سهلة بل مليئة بالمتاعب، وكان أقسى ما عاشه، ان هاجمه القراصنة الاتراك العثمانيين في سفينته عندما كان في احدى رحلاته التجارية، حيث كان يتستر على مهمته الحقيقية بأنه يعمل بالتجارة، هاجمه القراصنة وسلبوه تجارته، وحولوه إلى عبد عندهم، يستخدمونه وغيره في الاعمال القاسية المجهدة مثل قطع الحجارة والتي كاد يهلك من إحداها، وخسر أحد اصابع قدمه مهروسة تحت حجر سقط من على ظهره. لم تتدخل الدولة الفرنسية لإنقاذه، كان متألما لذلك، لكنه لم يتخل عن رسالته، بل زاد التعذيب والتعب والجهد من إصراره على إكمال مهمته، وضرورة تحقيق الحلم الامبراطوري لنابليون بالتمدد في الجزائر وغيرها من بلاد العرب، زادت معناته من حقده على الأتراك والعرب وأصبح مسكونا بهاجس الانتقام من كل عذاباته في فترة استعباده. استمر استعباده حتى تدخل القنصل الانكليزي في الجزائر لدى العثمانيين وباشاتهم، ودفعوا الفدية عنه وعن آخرين وأنهوا عبوديته. عاد كافيار لمتابعة مهمته بإصرار اشد، محملا بحقد، بعد تجربته الشخصية عبدا عند العثمانيين. تواصل مع القنصل الفرنسي في الجزائر وعلم أنهم يعلمون مهمته، وانهم مازالوا على خطتهم، وأنه مطلوب منه ان يذهب الى باريس ويلتقي بوزير الحربية وأركان الدولة ويضعهم بصورة ما لديه من معلومات ووثائق جمعها عبر ما يزيد عن عقد من السنوات. عاد الى فرنسا، تواصل مع أركان الحكم، وتوافقوا على تحديد بداية حملتهم على الجزائر، وانطلقت الحملة بقائد حربي محدد من الدولة الفرنسية، كان كافيار القائد الميداني، كانت غايتهم احتلال الجزائر مهما كانت الظروف، انتظروا ان يحصل مبررا سياسيا لهجومهم على الجزائر، صنع ذلك المبرر القنصل الفرنسي في الجزائر في مواجهة الباشا العثماني حاكم الجزائر، أهان الباشا، فرد عليه بضربه بمروحة التهوية خاصته، وطالبته الحكومة الفرنسية بالاعتذار، وحصل تشدد من الطرفين وأدى كل ذلك لتنفيذ الخطة الموضوعة سلفا وهي احتلال الجزائر. وبالفعل تحركت مئات السفن الفرنسية المحملة بالجنود الفرنسيين من البحرية والمشاة متوجهة إلى الجزائر لاحتلالها. وصلت السفن قبالة السواحل الجزائرية، طالبت العثمانيين بالاستسلام وتسليم الجزائر دون حرب، لم يستجيبوا، حصلت مواجهة عسكرية، كان التفوق للفرنسيين، العثمانيين كانوا أضعف من أن يصمدوا او يواجهوا، كانوا مخترقين من الفرنسيين، بعض يهود الجزائر سرق ذهب الجزائر و هرّبها للخارج، وكذلك مسؤولين آخرين انتقلوا من مركب العثمانيين الغارق والتحقوا في مركب الفرنسيين المنتصرين، فشل الباشا العثماني بالحرب سلّم عبر المفاوضة بعد أن خاض حربا قصيرة كان ضحيتها بعض الجنود العثمانيين وكثير من المواطنين الجزائريين جراء القصف الفرنسي. لم يستسلم الجزائريين لهذا المتغير فقد ظهر من بينهم وجهاء كان اهمّهم ابن ميار؛ التاجر الكبير التقوا بالحاكم الفرنسي ومعه كافيار، طالبوه بمجموعة شروط: أن لا يحصل اعتداء على الأملاك الخاصة ولا على الوقف الإسلامي ولا الجوامع و لا دور العبادة الاخرى. استجاب الحاكم في البداية لذلك، لكن واقع الحال أكد انهم بدأوا يهدون المساجد ويستولون على الأملاك الخاصة، يحتلها الضباط والجنود الفرنسيين. أصبحت الجزائر مستباحة للفرنسيين، وأصبح الجزائريين يترحمون على أيام العثمانيين، رغم مظالمهم. استمر كافيار والحكّام الفرنسيين المتتابعين، تنفيذ خطة نهب الجزائر المدينة وما حولها، واستيطانها ونهب خيراتها. بدأوا يفكرون بالتوسع الى المدن المجاورة لها مثل قسنطينة. قاوم الجزائريين عبر مواجهات فردية مع المستعمر الفرنسي. كما تابع بن ميار عمله الدؤوب لتوثيق كل التجاوزات والنهب والتدمير واحتلال الاملاك العامة والخاصة، لإيصالها للمسؤولين الفرنسيين الذين كانوا قد خدعوا العالم كله بأنهم مع مبادئ ثورتهم الفرنسية: حرية واخاء وعدالة، وكانوا يستقبلون ابن ميار دوما ويعدوه بالتقصي وارسال اللجان. كان في كل الوقت يصطدم بردود كافيار الحاكم الفرنسي الفعلي للجزائر، جوابه العملي: أن لا حقوق للجزائريين وهم مجرد عبيد عند الفرنسيين، استمر الحال على ما هو عليه مزيد من الظلم والبطش والنهب والاساءة للشعب الجزائري ونهب لثرواته، الى درجة انهم صاروا ينبشون قبور المسلمين ويأخذون عظام الأموات إلى فرنسا لاستخدامها في معامل السكر لتغير لونه ويصبح أكثر بياضا. هذا هو كافيار وجه فرنسا الاستعماري الحقيقي.
٢ – ابن ميار التاجر الجزائري الذي حمل القضية الجزائرية وحقوق الجزائريين رسالة له، يناضل من أجل حقوقهم، عمله تاجر، كان على علاقة جيدة مع العثمانيين الذين كانوا قد استقروا بالجزائر منذ قرون ثلاثة، قبل تاريخ الاستعمار الفرنسي عام ١٨٣٣م. كان العثمانيين قد ثبتوا مجموعة مصالح لهم في ولاية الجزائر، حاكم عثماني وجنود لحماية الحكم وتأكيد هيمنة وهيبة السلطة ومواجهة أي تمرد أوثورة، كانت تجنى ضرائب من الناس لصالح العثمانيين، غير ذلك كان الجزائريين يعيشون حياتهم وأعمالهم، كان لوجود التدين الإسلامي كعامل مشترك بين العثمانيين والجزائريين مما جعل التعايش متحققا. هاهم الفرنسيين القادمين من البحر بسفنهم الحربية وعتادهم وجيوشهم بعشرات الآلاف كالجراد. يضربون دون تفكير بأن الضحايا جزائريين عزّل، كان ابن ميار من وفد التفاوض باسم الجزائريين مع الفرنسيين القادمين في الحملة. اشترط على الفرنسيين صون حياة الجزائريين واملاكهم العامة كالمساجد والأوقاف، قبلوا، لكن الواقع بعد ذلك كَذّب هذا القبول المزيف، وبدأ الفرنسيون الجنود والضباط وعلى رأسهم كافيار المسؤول الأول، ينهبون البلاد ويستولون على الوقف الاسلامي والمساجد يهدمونها ويعتدون على الناس. لم ييأس ابن ميار وثّق كل شيء كتابة، واجه الحاكم الفرنسي بالجزائر، لكنه لم يستجب، واجه كافيار لم يستجب له، ومن ثم طرده. حمل وثائقه ومجموع التجاوزات التي طبعها في كتاب ووصل الى أحد المقربين من الملك الفرنسي، عرض عليه شكايته، وأبرز وثائقه مع كتابه الذي كتبه بهذا الخصوص، وعده المسؤول أنهم سيرسلون لجنة للتحقيق. انتظر ابن ميار كثيرا حتى جاءت اللجنة، واجتمعت مع ابن ميار بحضور كافيار وبعض وجهاء الجزائر، لكن كافيار عامل ابن ميار بعدوانية واحرق الكتاب أمام اللجنة وطرد ابن ميار بعد ذلك. أُحبط ابن ميار وأدرك أن ما يحصل في الجزائر من اساءة ونهب وسرقة المال العام والخاص وبما فيها ضيعته التي استولوا عليها، هي سياسة الدولة الفرنسية وليست مجرد تصرف شخص مسيء مثل كافيار. أسقط بيد ابن ميار وأحس انّ الجزائر مقبلة على أيام سوداء. ولم تمض أيام حتى بعث له كافيار ورقة تخبره بنفيه إلى اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية. لم يحتمل كافيار وجود ابن ميار المطالب الدائم بالحقوق ومصالح الناس وكان الحل عنده طرده من الجزائر. غادر ابن ميار وزوجته الجزائر الى اسطنبول.
٣ – ديبون الصحفي الفرنسي الشاب الذي يعمل في احدى الصحف الفرنسية، وقد أرسل مبتعثا من صحيفته مرافقا للحملة الفرنسية إلى الجزائر يدون مجرياتها ويرسلها تباعا الى صحيفته لتنشر في باريس. ديبون يؤمن بالدور المسيحي للحملة الفرنسية، ناشرة رسالة الله والسيد المسيح على البشر رحمة ورعاية. لكن واقع مجريات الحملة كانت صادمة لديبون، لم يستطع قادة الحملة المتواجد بصحبتهم أن يبرروا له درجة العنف والدموية والقسوة والقتل في أعمالهم، كان مصاحبا كافيار في الرحلة، احبه كافيار لكنه وجده غرا في فهم الدوافع الاستعمارية، حاول أن يفهمه أن الحملة ذات أهداف مصلحية فرنسية في الجزائر، وأن هذه المصالح تتطلب ترك الله والمسيح جانبا، والتفكير بما تجنيه الحملة من خيرات ومال للدولة الفرنسية، وأن كل ما يصاحبها من تضحيات للجنود الفرنسيين، وما يُقتل أو يُدمّر أو يُنهب من الجزائر والجزائريين مبرر و هي مشروعة لهم بحق القوة والهيمنة ، وما عملوه للوصول الى هذه البلاد، وانها اصبحت ملكهم مباحة في كل شيء فيها لهم، وأن شعبها بمثابة عبيدهم وليس لهم أي حقوق، ومن يعترض مصيره الموت أو السجن. كانت هذه الحقائق التي علمها ديبون واكدتها التجربة بمثابة صفعة موجهة إلى ديبون ولكل الطموحات التي بنى عليها التصور الخلاصي للحملة، أمام حقيقة الواقع الاستعماري الإجرامي لها. عايش ديبون كل ذلك، قرر العودة الى فرنسا يائسا حاول الوصول الى الحكام ليخبرهم بأن الحملة خرجت عن واجبها الانساني المفترض، ولم تكن لتأديب الباشا العثماني ولا لرد الاعتبار لفرنسا المهانة بشخص قنصلها، ولا تحريرا لشعبها من نير العثمانيين، بل هي حملة استعمارية اسوأ مما عاشه الجزائريين تحت حكم العثمانيين في قرون، قتل، اعتقال، اذلال، نهب للمصالح والاراضي العامة والخاصة، تعدي وهدم دور العبادة، انه اسوأ من الاستعباد. أخبره القادة الفرنسيين بالتورية و بالمباشرة بأن هناك أخطاء ستعالج، وأن هناك لجنة ستذهب لتواجه الحقائق على الأرض، هذا ما وعد به ابن ميار ايضا، عاد ديبون مرة اخرى الى الجزائر ليتأكد من صحة أعمال اللجنة وانها فعلا ستواجه اخطاء الادارة الاستعمارية هناك عبر نموذجها كافيار، عاد للجزائر ثانية وتأكد بنفسه أن كافيار يمثل السياسة الاستعمارية الحقيقية في صورتها العارية والسيّئة، وأن كل ادعاءات الادارة الفرنسية كانت مجرد تهرب من حقيقة تظهر له كل يوم من خلال ممارسة كافيار والقادة والجنود والمواطنين الفرنسيين، الذين تصرفوا كلهم على خلفية مصالحهم على حساب الشعب الجزائري ونهب خيرات بلاده. ديبون التقى مع كافيار مجددا وأساء له واتهمه بأنه شيطان ويسيء لفرنسا بأفعاله. فما كان من كافيار الّا أن شتم ديبون واذلّه كما ضربه أحد جنود كافيار. عاد ديبون مجددا الى باريس يائسا. كان قد التقى في الجزائر ببعض السان سمونيين المتأثرين بأفكار سان سيمون الفيلسوف الفرنسي التنويري، وانهم يعملون لإنصاف الجزائريين، لكن واقع الحال أكد الصفة الاستعمارية العارية للفرنسيين ولا جديد ابدا.
٤ – حمة السناوي؛ الرجل الثائر ابن الشعب الجزائري العريق، يسمي الجزائر المحروسة، لم يكن يوما على توافق مع التواجد العثماني في الجزائر، كان يرى ظلمهم للناس، تجوّل جنودهم وغطرستهم، فسادهم وتغولهم على الجزائريين وعيشهم عالة عليهم، كان يدرك السناوي أن الإسلام الذي يدّعي العثمانيين انه دين الدولة وأن السلطان العثماني كان معبرا عن ارادة الله، لم يكن يقبل بهذا الذي يمارسوه بحق الجزائريين. مسلمون نعم لكن هم يستغلون الناس بالضرائب والناس يعيشون عيشة الفقر والحرمان، وجنودهم يتطاولون على الناس ومصالحهم. كان الناس ضحية استعباد مجتمعي يحميه العثمانيين عبر قرون، وكان كثير من المشايخ والفقهاء يسايرون العثمانيين ويسيرون في ركاب الحكّام على حساب شعبهم. كان الناس يلوذون في قبور الأولياء والصالحين مثل مزار الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، الذي كان ملجأ قدريا للناس يطلبون منه ما يعجزوا واقعيا عن تحقيقه. الناس يعيشون على حد الكفاف والعجز عن تحسين حياتهم، تقبلوا ما هم فيه بكل ذل وعجزوا عن مواجهته. السناوي لم يقبل ذلك. لم يقبل أن يكون البغاء مقننا، وان يكون له مسؤولا متصرفا من الدولة، هذا المسؤول يرقب عمل النساء المتورطات في البغاء لأنه لا اهل لهم او ايتام او فقراء، كان المزوار وهذا اسمه الرسمي كمسؤول عن نساء البغاء، يضطهدهم، ويختار بعضهنّ ليكنّ ضحية ملذاته الشخصية، في حالة أقرب للاغتصاب، كان يجني منهنّ المال على أنه ضرائب. كثير من الفتيات تتغير ظروف حياتهنّ ويبحثن عن عمل او معيل، كان يلتقطهم ويجبرهن على البغاء. كان مدعوما من السلطة العثمانية، يراه السناوي نموذجا لأبن البلاد الذي يبيع أعراض النساء ويمتهن كرامة الجزائريين جميعا. لذلك كان السناوي يفكر أن ينهي حياة المزوار ويقتله. هذا قبل الحملة الفرنسية واحتلال الجزائر، وبعد احتلال الجزائر أصبحت مهمة السناوي وأمثاله أكبر، أصبح لزاما عليه أن يقاتل ويقتل المستعمر الفرنسي وازلامه في البلاد، غيّر المزوار جلده وولاءه وصار ممثلا للفرنسيين ومعيّنا من قبلهم لإدارة البغاء، كان محميا بالجنود الفرنسيين. المزوار الذي اعتدى على حمّة الفتاة التي أحبها السناوي اغتصبها واجبرها على البغاء. كان السناوي مسكونا بضرورة العمل بالقوة المسلحة لمواجهة المستعمر الفرنسي. أما صديقه ابن ميار فقد كان يؤمن بالمفاوضات والعرائض، وعرف ابن ميار ان ذلك الطريق لم يؤد الى نتيجة. ميزة السناوي أنه كان متمردا اصلا والثورة على الظلم جزء من طبعه، لكنه كان لوحده، لذلك وضع هدفا نصب عينه وتحرك له، لقد قرر قتل المزوار رمز الخيانة للشعب والتبعية للمستعمر. خطط لذلك وقتله، لاحقه الجنود واستطاع الفرار منهم، بمساعدة شباب كانوا يعملون مع المقاومة الوليدة للوجود الفرنسي في الجزائر، ينشطون في السر وبالتواصل مع الأمير عبد القادر الجزائري الذي كان يعد العدة في مناطق القبائل لمحاربة المستعمر الفرنسي، لجأ الى بيت ابن ميار وعالجته زوجته ساعدتها دوجة حبيبته، التي كان أخرجها من المبغى رغما عن المزوار ووضعها عند عائلة ابن ميار. عالجوه حتى شفي. وتوطدت علاقته مع دوجة وتآلفت روحهما أكثر، كان ينتظر أن يشفى حتى يذهب إلى الأمير عبد القادر ويكون جزء من الثورة والعمل المقاوم للفرنسيين. وما أن شفي حتى اخذه أحد المقاومين إلى الأمير والثوار.
٥ – دوجة؛ تلك الفتاة التي تنتمي لعائلة جزائرية متواضعة، كان يعمل والدها في رعاية مزرعة القنصل النمساوي، تعيش مع امها وأخيها في بيتهم المتواضع، ينتظرون الأب الذي يحضر في الاسبوع يوميين للعيش معهم، يعيشون على الكفاف لكنهم راضون عن ذلك، فقليل من يعيش بكرامته في الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي، كان اخيها الصغير مصابا في مرض في جهازه التنفسي، كان دائم السعال، ويتعب في تنفسه، كانت مع والدتها تخدمه كل الوقت، لكن انعدام العلاج، أدى لوفاة الصغير. كان لوفاته غصّة على العائلة كلها. وخاصة الأم التي ما أن مضى زمن قصير على وفاة ابنها حتى مرضت هي ايضا وماتت. بقيت دوجة مع والدها، تعيش منتظرة حضوره كل اسبوع، لا تحس الامان، ولا تعويض حنان الام، ولا تحتمل غيابها، كما تعاني غصة موت اخاها الصغير. كافيار كان يسكن مع القنصل أحيانا، يُعامل عمال المزارعين بقسوة، وفي مرة ضرب كافيار ابوها، حيث التقى بوالد دوجة هناك وتحدث معه ولم يفهم عليه، فضربه واهانه، كان ذلك تحطيما نفسيا للأب، الذي تراكم مع موت ابنه وزوجته واذلال كافيار له، مرض الأب وسرعان ما مات بعدها. لم يعد عند دوجة أي معيل، حملت صرّتها الصغيرة وغادرت باتجاه الجزائر بحثا عن عمل ما ولقمة عيش، وصلت إلى السوق، وافترشت الأرض بجانب بعض المحلات، وما كان من التجّار الا المبادرة في مساعدتها وتشغيلها في تنظيف المحلات او اصطحابها لمنازلهم لتساعد زوجة أحدهم في التنظيف والخدمة، لكن الزوجات كن يخفن على أزواجهن من دوجة وان تكون منافسة لهم، فهي صبية وجميلة. كانوا يطردونها بأسرع وقت وتعود للشارع مجددا. وفي يوم التقى بها المزوار مسؤول البغاء أخذها الى بيته، اغتصبها وأجبرها على العمل بالبغاء، أخذها مرة الى الباشا الحاكم كهدية وكذلك الى غيره، ضمها الى نساء الدعارة في حييهم الخاص. كان السناوي قد علم بقصتها، وغضب من المزوار ودوره معها ومع جميع الفتيات، كان يحس اتجاهها بعاطفة مميزة، وهي أيضا، وسرعان ما انتزعها من دار البغاء رغما عن المزوار، واسكنها في بيت صديقه ابن ميار، تساعد زوجته وتصون نفسها عن البغاء وعاره. حاول المزوار استردادها فضربه السناوي ومنعه من الوصول إليها. صارت تحلم ان يكون السناوي رجلها الذي تتزوجه ويحميها وتعيش معه انسانة سوية تنجب الاولاد وتبني عائلة مع حبيب متميز مثل السناوي، والسناوي كان يحلم ذات الحلم، لكن اولويته كانت قتل المزوار اولا، والالتحاق بالأمير عبد القادر وأن يكون مع المقاومين للمستعمر الفرنسي. بالفعل قتل السناوي المزوار واختفى في بيت ابن ميار وعولج من اصابته بطلق ناري من أحد الجنود الفرنسيين الذين يحمون المزوار. وانتظر حتى يشفى لكي يغادر ملتحقا بالأمير عبد القادر. عاهد دوجة أنه سيعود ليأخذها ويتزوجها. لذلك عندما نفي ابن ميار الى اسطنبول رفضت أن تغادر معه وزوجته الى هناك. قررت أن تنتظر السناوي ليعود موفيا بوعده ليأخذها حيث يعيش ويتزوجها…هنا تنتهي الرواية.
٠ كانت الرواية متعبة من حيث السرد المتكرر لكثير من الأحداث، بحيث ظهر وكأنها حشو، خاصة أن ذات الاحداث تعيد كل شخصية التحدث عنها، صحيح انها من وجهة نظر مختلفة عند كل شخصية، لكن بعض التكرار بالأحداث التفصيلية كان فائضا ودون مبرر، والرواية تعتبر مطولة فهي ٣٨٤ص من القطع المتوسط.
٠ تأتي أهمية الرواية من قدرتها على إعادة إحياء تلك المرحلة التاريخية بكثير من التفاصيل، عبر بحيادية يُحمد الكاتب عليها، خاصة انه اعطى المنبر لكل الاطراف ان تقول رأيها بالحدث من حيث أسبابه ونتائجه ومشروعيته.
٠ الرواية تؤرخ ايضا الى بداية طور جديد من الاستعمار الأوروبي تجاه العالم وخاصة الوطن العربي، حيث كان نابليون قد حاول احتلال مصر قبل ما يزيد عن ثلاثين عاما، من احتلال الجزائر وفشلت تلك الحملة وعادت بعد ثلاث سنوات خائبة الى فرنسا. لكن الحملة على الجزائر ستنجح ويستمر استعمار الجزائر حوالي ١٣٠ عاما، ويكون احتلال الجزائر مقدمة للفرنسيين ومن ثم الأوروبيين جميعا ليحتلوا اغلب البلدان العربية، وخاصة بعد إسقاط الخلافة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى وما تلاها.
٠ الرواية تسقط كل الأقنعة عن الدوافع الاستعمارية التي كانت وراء استعمار الجزائر والبلدان العربية بعدها، عبر أكثر من قرن ونصف، وان الغرب الرأسمالي مازال يفكر من منطق المصلحة الخاصة به على حساب الشعوب الاخرى ومصالحها وحريتها وحقوقها، يستغلها ويستعمرها، ولو انه غير أقنعته في العصر الحديث لكن الجوهر مازال نفسه. استغلال بلادنا ومواردها وشعوبها لمصلحته. خاصة وأنه أنشأ دولا تابعة له مستبدة بشعوبها، تستغل البلاد وتستعبد العباد وتخدم الغرب الذي يحميها. لم يتغير شيء من ذلك منذ قرن ونيف.
أخيرا: تؤكد الرواية ومن خلال فوزها بجائزة البوكر للرواية العربية لعام ٢٠٢٠م، أن القضايا العامة والعلاقة بين الغرب والعرب مازالت حاضرة ومهمة ومطلوب ان نسترجعها ونتعلم من دروسها وعبرها. لنعدل علاقتنا مع ذاتنا ومع الغرب ومع حكامنا الذين مازالوا مصرين على الاستهتار بالشعوب العربية والاستبداد بها وهدر حقوقها وكرامتها.