أحمد بن بلة: عملاق آخر من عمالقة العرب المعاصرين – تجربة وذكريات –

محمد خليفة

في (11 أبريل 2020) مرت الذكرى الثامنة لرحيل أحد أنصع وأعظم رموز النضال العربي المعاصر، أحمد بن بلة 1916 – 2012، أحد قادة الثورة الجزائرية 1954 – 1961، وأول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال 1962 – 1965. وأحد أبرز عمالقة النضال التحرري ضد الاستعمار في افريقيا، وأحد أبرز قادة حركة التحرر الوطني في العالم الثالث. صديق ورفيق جمال عبد الناصر ثم حليفه في قيادة الحركة القومية العربية في ذروة صعودها بين خمسينيات القرن العشرين ومنتصف الستينيات منه. ظل وفيا له وللمبادئ التي جمعتهما الى آخر رمق من حياته ، رغم نكوص وخيانة كثير من أنصاره السابقين له .

 قال لي مرات عديدة : والله لو أن كل العالم تنكر لجمال عبد الناصر أنا لن أتنكر له ، لأني لا أستطيع انكار وجحود ما قدمه للجزائر منذ أول يوم في الثورة عام 1954 ، حتى ما بعد الاستقلال ، من دعم عسكري بالسلاح ، ودعم سياسي وديبلوماسي على الساحة الدولية ، ثم دعم مادي ومدني حيوي، سمح للجزائر بالنهوض والوقوف على قدميها بعد ان انسحبت فرنسا منها حاملة معها كل أرشيفات الدولة الهندسية والادارية والاقتصادية فأرسل عبد الناصر آلاف المهندسين والأطباء والمدرسين والكوادر للعمل مجانا في الجزائر ولم يكن يعتبر ما تنفقه مصر دينا على الجزائر .

عبد الناصر وبن بلة: كيمياء وكهرباء واحدة!

التقى بن بلة في القاهرة بعبد الناصر الثائر الشاب وقائد حركة 23 يوليو للمرة الأولى في اغسطس 1953، ومنذ هذا اللقاء الذي رتبه القدر بينهما حدث نوع من التماس الكهربائي والكيميائي بين الرجلين، واتفقا على اطلاق شرارة الثورة الجزائرية، وتعهد عبد الناصر بوضع امكانات مصر خلفها ، وبدأ الإعداد للثورة . في فبراير 1954 بدأ تهريب السلاح من مصر الى الجزائر عبر ليبيا ، وافتتحت معسكرات تدريب الجزائريين على السلاح . في غرة نوفمبر اشتعلت الثورة ، وأيقنت فرنسا فورا أنها أمام تحد يختلف عن انتفاضات الجزائريين السابقة طوال 126 سنة ، بفضل وقوف مصر خلفها ، ولذلك استغلت مؤامرة 1956 على إثر تأميم قناة السويس مع بريطانيا واسرائيل للمشاركة في العدوان الثلاثي ، على أمل أن تخمد ثورة الجزائر التي تنطلق من القاهرة .

تواصلت الثورة بزخم شعبي وعربي عارمين، وتصاعد العنف والقتال ، حتى انتقلت آثار الثورة الى الداخل الفرنسي ، وكادت أن تشعل حربا أهلية بين الفرنسيين ، بسبب انقسامهم حول تقرير مصير الجزائر . إذ ان تيارات اليسار الفرنسي الثوري انحازت لثورة الجزائر وخاصة الحركة التروتسكية ، وكادت تتطور حرب أهلية بين يمين عنصري ويسار ثوري ،  فاستنجد الجيش بالجنرال ديغول بطل التحرير في الحرب الثانية لينقذ البلاد من الأزمة ، ووجد ديغول انه لا مناص من الاعتراف بحق تقرير المصير للجزائر في يوليو 1962 . ومع أن بن بلة كان معتقلا في فرنسا مع قادة الثورة إلا أنه كان رمزها في الداخل وفي العالم ، وقائدها الرئيسي ، فأدار المفاوضات مع سلطة الاحتلال وهو في السجن ، وتغلب على مراوغات ديغول . وخرج من السجن ليجهز بلاده للاستقلال ، واختاره شعبه رئيسا للجمهورية بإلاجماع . وحمل اسم الجزائر الى العالم مع قادة حركة عدم الانحياز ، جمال عبد الناصر وجوزيف تيتو ونهرو وشو إن لاي ، وموديبو كيتا ، ولومومبا ، وغيفارا . ولم يسترخ بعد الانتصار ولم ينشغل بشؤون الحكم، بل كرس جهده للقضايا الاستراتيجية العليا لحركة التحرر الوطني العالمية ، وتوصل الى أنه يجب تعميق الاستقلال الوطني في العالم الثالث بالتحولات الاجتماعية والثقافية ، لوضع استراتيجية تحرر حضاري ، وتوسيع نطاق الثورة الاشتراكية العالمية . وابتكر بن بلة ( فلسفة التسيير الذاتي) وعمل على تطبيقها في التجربة الجزائرية . وأخذ يخطط لعقد مؤتمر عالمي لعدم الانحياز في الجزائر عام 1965 يتبنى هذه التوجهات ، ولكن الانقلاب الغادر أحبط الخطة قبل انعقاد القمة بشهور فقط .

وروى لي أنه في أول دورة للجمعية العامة للأمم المتحدة حضرها كرئيس للجزائر المستقلة قابله جون كينيدي وقال له : اميركا ستدعمكم شرط أن تبتعدوا عن ناصر وتيتو وكاسترو وشو إن لاي ، فرد عليه : لم نقدم مليون شهيد لننتقل من الاستعمار الفرنسي الى الامبريالية الاميركية . وقال له : لن نتخلى عن الذين ساندوا نضالنا ، ونقف معكم ، وأنتم الذين ساندتم فرنسا في حربها علينا !

وأكد لي بن بلة في أحاديث عديدة أن الانقلاب عليه كان بقرار أميركي لضرب مراكز الثورة الحقيقية في الوطن العربي ، بدأت بالجزائر ثم تواصلت بضرب مصر وناصر في 1967 .

وقال لي أيضا : كنت اقول لرفاقي في القيادة الجزائرية : لقد حررنا الجزائر ، وعلينا الآن أن ننتقل للقتال في الشرق لتحرير فلسطين ، ولا قيمة لاستقلال الجزائر اذا لم نواصل النضال لتحرير فلسطين .

وقال لي في مرة أخرى أنه عرض على ناصر منذ عام 1963 إقامة الوحدة مع مصر ولكن عبد الناصر طلب تأجيل المشروع ، وقال له : يا أحمد إن انفصال سورية سبب لنا متاعب وتحديات كثيرة ، وعلينا ألا نكرر الوحدة بسرعة .. لا بد أن ندرس خطوات الوحدة جيدا .

وكان ايمانه بالتجربة الناصرية لا يتزعزع، وكان دائما يقول لي : أنا ناصري . وعندما سألته في حواري معه ما فهمك للناصرية ..؟  أجابني : الناصرية مشروع نهضة عربية شاملة بمستوى التحدي الحضاري مع الغرب ، للمرة الأولى منذ ضياع الاندلس والحروب الصليبية . وأضاف : الناصرية هي الثورة العربية المعاصرة وطريق التقدم ، وكل ما عداها زيف !

من سجون الاحتلال الى سجون الاستقلال :

كان بلة يمثل التيار القومي العربي في قيادة جبهة التحرير الوطني الجزائري ، ومثّل حسين آيت أحمد تيار الجزأرة ، وحسم الصراع هواري بومدين الذي مثل التيار الوسط بينهما ، فهو مع الهوية العربية ، ولكن بدون الاندماج الكامل مع العرب ومع ناصر . وضد الجزأرة بدون التنكر لها بشكل كامل . كان بلة عربيا بينما كان الآخران من الأمازيغ ، وبدأ الصراع مبكرا بين التيارين العربي والامازيغي .

نجح الانقلاب وزج بومدين ببن بلة في سجن خاص استمر خمسة عشر عاما ، بحراسة عسكرية مشددة . ولوحق أنصاره ومؤيدوه، وحظر بومدين التداول باسم بن بلة نهائيا ، وحرم ذكره في أي محفل ، وكأنه غير موجود في التاريخ ! وسجن عددا من اقاربه ونفاهم من الجزائر وعزل انصاره ووزراءه من الدولة والجيش ، وأصبح مجرد التفوه باسمه جريمة عقوبتها السجن والتعذيب . ولكن رغم ذلك نشأت مجموعات ( بن بيلاوية ) سرية للدفاع عنه والنضال لإطلاق سراحه . ولكن بومدين أنشأ دولة بوليسية فولاذية تضاهي النظام الصيني او الكوري الشمالي او السوفياتي يتبنى عقيدة عبادة الفرد !

 وخلال سنوات السجن خطبته المناضلة الرسامة والصحافية اليسارية زهرة سلامي ، وعرضت عليه الزواج منها فوافق ، وسمحت السلطة لها أن تنضم له في سجنه وتعيش معه بموافقتها ! وظلت ترافقه في حياته حتى وفاتها قبله عام 2010 ، وترك غيابها اثرا عميقا في حياته ، عجل في وفاته عام 2012 . ولم يرزقا بأطفال ، فتبنيا طفلتين ( مهدية ونورية) رباهما بن بلة على عينه وكان يحبهما كما لو أنهما من صلبه ، ورافقتاه بعد خروجه من السجن ، واحسن تربيتهما وتعليمهما ، وما زالتا تحملان اسمه طبعا .

 قضى بن بلة سنوات الاعتقال الخمس عشرة  مع زوجته في قراءة آلاف الكتب العربية والاسلامية في التاريخ والفلسفة والدين والادب والسياسة . ولم يطلق سراحه إلا عام 1980 بعد وفاة بومدين عام 1979 بعفو خاص من الرئيس الشاذلي بن جديد . وأطل بن بلة على الناس فاستقبل استقبالا شعبيا حافلا سبب ذعرا للسلطة ، ففرضت قيودا على حركة زواره ، فقرر الخروج الى فرنسا لممارسة المعارضة السياسية ، داعيا للتغيير وتجاوز تركة بومدين والتحول الى الديمقراطية والتعددية ، ولكن السلطات الفرنسية لم تتحمل وجوده الذي اصبح يهدد علاقاتها مع الجزائر ، فلفقت له تهمة باطلة ، وطردته من فرنسا عام 1982 ، فانتقل الى سويسرا بدعوة رسمية من حكومتها ، فأقام فيها في ظل رعاية فائقة حتى نهاية حياته . وأصبح بن بلة في الثمانينيات شخصية عالمية يتحدث يوميا عبر التلفزيونات الغربية عن الشؤون الدولية الكبرى ، وقضايا الحرية والتنمية ، والصراع بين الشرق والغرب والعدالة وحقوق الشعوب والاسلام . وأصبحت أفكاره مادة حوار وسجال عميقين مع كبار المفكرين في الغرب . واتهم الغرب بتفريغ الاستقلال الوطني من محتواه ، ومواصلة نهب العالم الثالث ، والسيطرة عليه . والتآمر على الأنظمة الثورية .

والجدير بالذكر أن بلة مثقف موسوعي يجيد سبع لغات الى جانب العربية ، أطلعني على مخطوطات عديدة كتبها أثناء الاعتقال في الفلسفة ، ولا أعلم ما حل بها . وكان المفكرون الغربيون وخاصة الفرنسيون يعجزون عن مواجهته بسبب سعة معلوماته وثقافته واحاطته بالتاريخ الاوروبي . وكنت كلما زرته في جنيف أجد طابورا طويلا من المراسلين أمام داره ينتظرون دورهم في الدخول اليه ، لإجراء مقابلات وحوارات معه حول مختلف الشؤون العالمية ، ناهيكم عن رواية تجاربه بين الثورة والاعتقالات المتعددة في سجون الجزائر وفرنسا . وكان يتبنى الدفاع بقوة وبصورة مبدئية عن القضايا العربية وعن الاسلام ويرد التهم الموجهة  للعرب والمسلمين والشعب الفلسطيني .

في هذه الفترة طلب صداقته عدد من الزعماء العرب ، وكان يلتقي بهم ، وتصالح مع رفيق نضاله حسين آيت احمد , ووزع وقته في النضال من اجل قضايا التغيير في الجزائر والوطن العربي ، والعالم ، فأسس (الحركة من اجل الديمقراطية في الجزائر) عام 1984، فكانت أول حزب سياسي ينادي بالديمقراطية في الجزائر المستقلة ، وأعاد علاقاته مع الحركة التروتسكية في العالم التي تعتبره قائدا رمزيا لها وتتبنى فلسفته في الاشتراكية والتسيير الذاتي . وتقارب مع عشرات المنظمات اليسارية والديمقراطية والقومية العربية الثورية . وكان يتنقل عبر العالم باستمرار رغم تقدمه في العمر لحضور مؤتمرات فكرية وسياسية بين البرازيل واستراليا . وكان يحضر في كل الأزمات الدولية الكبيرة : بعد العدوان على ليبيا 1985 ، وبعد العدوان على العراق 1991 ، وبعد كل عدوان على لبنان. وعاد الى الجزائر عام 1990 على اثر انتفاضة 1989 ، ودعم جبهة الانقاذ الاسلامية في انتخابات 1990 ، وبعد انقلاب 1992 العسكري غادر بن بلة الجزائر مرة ثانية ، ولم يعد إلا بعد 1999 بدعوة من بوتفليقة خصمه السابق فتصالح معه ، واعتزل السياسة بسبب تقدمه في السن ، وعاش سنواته الأخيرة  في دارته حتى وفاته عام 2012 , ودفن في مقبرة كبار زعماء الجزائر جنبا الى جنب مع الامير عبد القادر وبومدين وآيت أحمد وبوضياف والعربي المهيدي وديدوش مراد .. إلخ .

ذكرياتي الخاصة مع الراحل الكبير :

بدأت علاقتي مع الراحل الخالد أحمد بن بلة بمبادرة مني، إذ أرسلت له رسالة شفوية مع أحد الاصدقاء اللبنانيين أعرض فيها عليه فكرة اجراء حوار فكري لا سياسي، مطول ومعمق، يرتب وينسق أفكاره وفلسفته، ويخلصها من الفوضى التي شابتها في الفترة التي اعقبت الافراج عنه، على أن ننشره في كتاب، فأعجبته الفكرة ووافق فورا.

التقينا يوم 1 / 1 / 1984، وأجريت الحوار معه على مدى أسبوعين كنا نلتقي عدة ساعات يوميا. وعندما عدت الى بيتي في أثينا، تواصلت الاتصالات بيننا هاتفيا يوميا، وتوثقت العلاقات باطراد، وصار يستشيرني في أمور عديدة، تتعلق بالشؤون السياسية لبلدان المشرق العربي تحديدا لبنان وسورية ومصر وإيران وفلسطين. كما أخذ يدعوني لزيارته.  وفي نهاية 1984 طلب مني العمل معه رئيسا لتحرير المجلتين اللتين اسسهما في باريس باسم (البديل / الترنتيف) احداهما بالعربية واخراهما بالفرنسية ، فوافقت . وانتقلت للإقامة في باريس ، وكنت أزوره مرة واحدة على الأقل كل شهر في جنيف ، لمناقشة  المسائل الاجرائية . وتبادل الرأي في أمور سياسية خاصة جدا ، تتعلق بحركته وعلاقاته وتحالفاته مع حركات ومنظمات وأنظمة سياسية عربية وغير عربية ، تبدأ من علاقته بالحركة القومية العربية ، الناصرية ، وبالحركة التروتسكية العربية والاجنبية ، وبعض المجموعات اللبنانية ، وبالنظام الايراني ، وبالمعارضات العربية ، وخاصة العراقية . وبعد عامين تقريبا طلبت اعفائي من رئاسة تحرير المجلتين نتيجة خلافات مع بعض قادة حزبه (الحركة من أجل الديمقراطية) الذين ساءهم أن يكون صحافي سوري موضع ثقة الرئيس ، والناطق باسمه ، إذ كنت اكتب له كل البيانات التي يريد اصدارها باسمه في أي مناسبة عربية .

ورغم قبوله استقالتي من ادارة المؤسسة الاعلامية إلا أنه أصر أن أبقى الى جانبه مستشارا للشؤون العربية والخارجية، فبقيت العلاقة بيننا على هذا النسق حتى عام  1991 . كنت أزوره باستمرار لمناقشة الكثير من الأمور والمسائل السياسية والاعلامية ، وكان يطلعني على تفاصيل ودقائق تحركاته واتصالاته وعلاقاته . وكان يسألني عن رأيي في الكثير من الأمور، فأقدمها له بكل صراحة وصدق. وكنت أحيانا أخالفه الرأي، وانصحه بما أراه صائبا. وكانت أهم الملفات التي افتخر بتحقيق نجاحات فيها معه هي ثلاثة:

الملف الاول : الموقف والعلاقة مع نظام الخميني في ايران وما يتفرع عنهما ، كالموقف من حرب الخليج الاولى ، والموقف من العراق .

الثاني : الموقف من النظام السوري في تلك الفترة .

الثالث : الموقف والعلاقة مع الحركات السياسية العربية الكبرى ، القومية والاسلامية .

بالنسبة للملف الأول : أؤكد أنني عندما تعرفت على بن بلة ، كان الرجل واقعا تحت سحر وتأثير الثورة الايرانية ، كما توضح مقابلاته الصحافية ، وكان يراهن عليها ويعلق آمالا كبيرة على تأثيرها ، كثورة اسلامية عظيمة تحمل فكرا تنويريا وثوريا ضد الامبريالية ، وتشكل نموذجا اقتصاديا تحرريا ، وتستعمل لتوحيد الأمة الاسلامية . ولم يعد سرا أن الايرانيين سبقونا نحن القوميين العرب ، وأسسوا علاقة شخصية قوية معه ، وقدموا له بعض الدعم المالي في بداية انتقاله الى اوروبا . لذلك أخذت استغل لقاءاتنا وحواراتنا لشرح وجهة نظري من هذه العلاقة ، وأوضح له أن الايرانيين يكذبون عليه في نقل مواقفهم ، وأنهم لا يعادون النظام العراقي وحزب البعث ، بل يعادون العرب عداء عنصريا ، ويعتبرون عبد الناصر معاديا للاسلام وماسونيا وعميلا للغرب ، وكنت أقول له إن علاقته بإيران والخمينيين ستؤثر سلبا على صورته كزعيم عربي قومي وعلى علاقته بالقوى السياسية العربية ، وعلى مستقبله عموما ، فكان يرفض اتهاماتهم لناصر ، وتشويهاتهم للعروبة والحركة القومية العربية ونضالها التحرري . وكنت أكرر أنني مؤيد من حيث المبدأ لثورة الشعب الايراني ضد الشاه ، ولكن ليس الى درجة الانصهار فيها على حساب ايماني بعروبتي وهويتي القومية . وشيئا فشيئا بدأت أفكاره ومواقفه تتغير ، وتعود الى جوهرها القومي العربي ، وظهر هذا بوضوح شديد في كتاب (حوار معرفي شامل ) الذي أجريته معه ونشرته ، وترجم لاحقا لعدة لغات ، وطبع عشرات الطبعات .

 واعتبر الايرانيون المتطرفون أنني قد اعدت بن بلة الى الناصرية والقومية بعد أن سلخوه عنها وعنا ، وحولوه الى الاسلامية – الخمينية ، وناصبوني العداء الشديد بسبب ذلك ، واتهموني كذبا بتزييف أفكاره وأقواله ، ونسبةأاشياء له لم يقلها . إلا أنني كنت لحسن الحظ قد عرضت النسخة الأخيرة من الحوار عليه قبل نشرها لاقرارها ما فيها ، فسلمها هو الى أحد مساعديه هو (السيد عبد السلام السراوي) فقرأها ووافق عليها ، ووقع عليها بن بلة بقلمه، مما حماني لاحقا من حملة الايرانيين الباطلة . وقد جاءني يوما سفير ايران في ايطاليا حجة الاسلام خسرو شاهي واتهمني بتزوير اقوال بن بلة قلت له لدي مخطوطة الكتاب الاصلية ، وعليها توقيعه ، وقلت له بحدة وشدة :  دعوا بن بلة فهو زعيم  قومي عربي ، ولن يصبح خمينيا ، ولا ايرانيا ، فخرج من مكتبي غاضبا . وسمعت فيما بعد أنهم في ايران ترجموا كتابي المذكور للفارسية ، ونشروه بعد أن غيروا الكثير من فقراته ومضامينه !!

مر حواري مع الرئيس الراحل حول ايران والثورة الخمينية بمصاعب واختلافات خلال فترة طويلة ، وبمد وجزر ، ولم يكن سهلا اقناعه بكل وجهات نظري ، ولكنه كان يريد بالفعل التعمق في فهم التجربة الايرانية . وذات يوم اقترح عليّ أن يهيىء لي دعوة لزيارة ايران للاطلاع على تجربتهم من الداخل ، وتقييمها بموضوعية ، قبل أن نحكم عليها نهائيا. تحمست للفكرة . وبالفعل طلب منهم دعوتي كرئيس تحرير لمجلته ( البديل ) فوجهوا لي دعوة رسمية في فبراير 1985 ضمن احتفالاتهم بذكرى عودة الخميني الى ايران وانتصار الثورة . استغرقت الزيارة 15 يوما وكانت تجربة مفيدة ومثيرة حقا ، التقيت خلالها مع بقية الوفد المرافق بأركان القيادة من الخميني حتى منتظري ومشكيني وخلخالي وخامنئي.. إلخ . وفي هذه الزيارة اتضحت لي حقيقة المحتوى العنصري لنظام الخميني الطائفي المعادي للعرب أكثر مما كنت أقدر سابقا. وعدت من الزيارة وأنا أكثر رفضا للخمينية، وسياسة ايران وتوجهاتها العنصرية تجاه العرب . وعندما اجتمعت ببن بلة وضعت حصيلة الزيارة بين يديه ، فأخذ يتلفظ بكلمات قاسية تجاههم ، وقال لي اكتب بيانا باسمي عن الحرب العراقية – الايرانية ، وضمنه موقفا يندد باستمرار الحرب ويطالب بوقفها ، ويدعو ايران لحقن الدماء واحترام سيادة العراق وعدم تهديد البلاد العربية ، وكان هذا البيان الخطوة الأولى في طريق قطع العلاقة مع النظام الايراني والعودة للعروبة .

في عام 1990 كنت في زيارة للعراق للتضامن معها في مواجهة التهديدات الاسرائيلية والغربية ، قال لي مسؤول عراقي كبير : إننا نعرف أنك تؤثر على الرئيس بن بلة ، ونرجو أن تقنعه بزيارة بغداد ، لنعبر له عن حبنا وتقديرنا له ، ورغبتنا في تكريمه كرمز قومي عربي كبير . قلت له سأحاول ولا أضمن النتيجة لمعرفتي بتحفظاته على سياسة العراق ، ولكنني رغم ذلك نقلت الدعوة الى بن بلة ، فتحفظ عليها كما توقعت ، ولكنه طلب مني أن أرد عليهم ايجابيا وأنه سيفكر بالأمر . وعندما وقعت ازمة الخليج الثانية ، وبدأ سيناريو الحرب لتدمير العراق اتصل بي الرئيس بن بلة وقال لي أخبر اصدقائك العراقيين أنني قررت زيارة بغداد للتضامن معهم . ونقلت لهم الخبر فسعدوا به جدا ، ورتبوا لاستقباله بعد اسبوع ، وكانوا سعداء به ، رغم الهجمات الاعلامية الكثيرة التي كان يشنها عليهم طوال اعوام علاقته مع ايران !

وبالنسبة للملف الثاني: الموقف من نظام حافظ الاسد:

لم نكن أنا وهو نختلف على تقييم نظام الاسد ابدا. كان مثلي وأكثر في عدائه وكراهيته له، وعنده فكرة واضحة عن مساوئه وجرائمه، وسبق أن رفض وساطات عديدة ليلبي دعوتهم ويزور دمشق والالتقاء بحافظ الأسد، بعضها من أصدقاء لبنانيين، وإحداها عبر معمر القذافي، وثالثة من مسؤولين ايرانيين، واعتذر عنها جميعا. ولم أكن أنا بحاجة لبذل جهد استثنائي لإقناعه برفض الدعوات المتتالية له من نظام الاسد. والحقيقة أن جماعة الاخوان المسلمين في سورية قد أنشأت علاقة معه، وكان الشيخ عصام العطار المقيم في المانيا يزوره باستمرار، وساهموا في تصليب موقفه تجاه حافظ الاسد. وثمة حادث شخصي وقع له فحسم موقفه بشكل مطلق من نظام الاسد.

حكى لي أنه في فبراير 1982 كان ما زال مقيما في باريس ، ووقعت مذبحة حماة ، فدعاه بعض السوريين للمشاركة في تظاهرة احتجاجية نظموها في ساحة كونكورد بباريس للتنديد بما يحصل في حماة . قال لي إنه وصل المكان مبكرا، وقدمه السوريون الى رأس التظاهرة ، وبينما هم واقفون وصلت عدة سيارات تحمل لوحات ديبلوماسية فيها عدد من رجال الاستخبارات السورية يقودهم الملحق العسكري في السفارة السورية ، خرجوا من السيارات وبأيديهم ادوات حادة وقاطعة وسلاسل هاجموا المتظاهرين بها ، وكاد بن بلة أن يصاب لولا تدخل العناية الالهية ، وقيام بعض المتظاهرين بتطويقه ، ودفعه الى الخلف !

هذه الحادثة شكلت عرضا حيا لهمجية النظام السوري لا تفارق ذاكرته، إضافة الى أن الشيخ عصام العطار حكى له كيف اعتدوا على بيته في آخن وأصابوا زوجته عام 1980 .

اتصل بي ذات مرة وطلب مني الحضور اليه ، فذهبت فقال لي اتصلوا بي من دمشق ووجهوا لي دعوة شديدة الالحاح باسم حافظ الأسد لزيارة دمشق . ثم قال: ليست المرة الاولى ، فقد اتصلوا عدة مرات في السابق ، ووسطوا لي معمر القذافي ، وبعض الأصدقاء اللبنانيين ، فماذا أفعل ؟

أدركت أنه واقع تحت ضغوط كثيفة وانه يميل للموافقة، ويطلب رأيي كناصح مخلص. سألته هل تعرف يا سيدي مكانتك عند الشعب السوري أو لا تعرف؟ قال ليس بالضبط.

قلت له: والله لو إنك ذهبت الى دمشق في أوضاع طبيعية وبدون المرور عبر نظام الأسد لخرج الشعب السوري عن بكرة أبيه لاستقبالك لأنك أحمد بن بلة زعيم الثورة الجزائرية وصديق جمال عبد الناصر. أما إذا ذهبت الى سورية تلبية لدعوة من حافظ الأسد فأنا على يقين أنك ستخسر رصيدك ومكانتك عند الشعب السوري، فهل أنت مستعد لخسارة محبة السوريين؟؟!.

استمع بإنصات وسألني إلى هذا الحد لا يغفر لي زيارة سورية عن طريق الأسد ..؟؟ أجبته بكل تأكيد الى هذا الحد. انتقل للحديث في أمور أخرى عديدة، وجلسنا نتناول الغداء، ثم خرجنا نمشي في غابة كعادته، وعندما ركبنا السيارة وعدنا للمدينة، واوصلني الى الفندق، قال لي: أخ محمد اطمئن.. لن أذهب الى دمشق. فرحت وقلت له: الحمد لله، إن الله ألهمك الصواب.

 وبقي بن بلة يرفض زيارة الأسد.

الملف الثالث العلاقة مع الحركات السياسية القومية:

قمت بدور مهم في توثيق علاقات الرئيس بن بلة بالشخصيات القومية من عدة بلدان عربية، وكان هدفي تعزيز انتمائه للحركة الناصرية ، وإعادة دوره كشخصية قومية وناصرية لكي ارسخ صورته القومية بدلا من صورته التي نجح الايرانيون والاسلاميون الصاقها به بعد خروجه من السجن الى المنفى . وقمت بتحذيره من الوقوع في شباك وشراك الحركات الاسلامية ، لأنني لاحظت أنها كانت تنقل له صورا مزيفة عن التطورات السياسية ودورها فيها . فالاخوان السوريون مثلا كانوا يزعمون له أنهم ليسوا ضد القوميين وأنهم يطرحون برامج اصلاح قريبة من فلسفته الاشتراكية ، فنفيت ذلك ، وأوضحت له نهجهم الطائفي في سورية منذ السبعينيات ودورهم السلبي في غرس الصراع الطائفي مع السلطة .

 وفي عام 1989 قمت بمبادرة ناجحة لتعريف بن بلة وخالد جمال عبد الناصر ، ولم أجد بن بلة سعيدا بلقاء أحد ، كما لقيته عندما قدمت له الراحل خالد ، وعرض عليه كل اشكال الدعم والاسناد ، وكان يقول لي خالد هو ابن أخي ولا يمكنني التخلي عنه ، ولا بد أن أفي عبد الناصر جزءا من دينه لي بالوقوف مع خالد . وبالمقابل عرفني رحمه الله على زعيم الحركة التروتسكية ميخالي رابتس الذي زج بالتنظيم في القتال مع الثوار الجزائريين منذ بداية الثورة عام 1945 ورافقه الى الجزائر بعد النصر واصبح مستشارا له لشؤون الحركات الثورية ، وقال لي بن بلة عندما قدمني له : اطلب منه  كل ما تحتاج فهو يستطيع فعل كل شيء . وبالفعل ظل رابتس سنوات على صلة معي ودعاني لحضور مؤتمر الحركة في باريس عام 1986 .

رحم الله أحمد بن بلة . فهو شخصية وهبها الله كل مزايا ومواهب الزعامة المثالية جدا . لم أسجل عليه كذبة واحدة ، ولم أسمع منه كلمة سوء بحق أي شخص ، بما فيهم ألد خصومه ، وعلى راسهم هواري بومدين . كان اذا ذكره يقول رحمه الله ، وأبديت دهشتي ذات مرة ، لانه لا يهاجم من سجنه خمسة عشر عاما ، فقال لي : لا أسمح لنفسي أن أشتمه ، ليس من طبعي أن أشتم أحدا .

 كان متدينا باعتدال وبلا تطرف ، وكان عصريا وديمقراطيا ويساريا ، وفي نفس الوقت يميل للصوفية والسماحة ، وكان مستوعبا بعمق للثقافة الاوروبية بكل مدارسها التاريخية ويفهمها اكثر من غالبية الاوروبيين ، ولذلك كانوا يعاملونه باعتباره استاذا لهم وملهما ، وكان في العديد من الاحزاب والدول الاوروبية متأثرون به ، ويرون فيه مفكرا وملهما لهم ، وخاصة في سويسرا وفرنسا , وفي اسبانيا اجروا له ذات مرة استقبالا رسميا كرئيس دولة , مما أغضب النظام الجزائري غضبا شديدا .

كان بالغ التواضع والزهد والبساطة في حياته الخاصة، وفي سلوكه وملبسه وطعامه، حتى أنه كان يرفض فتح حساب مصرفي باسمه، أو شراء سيارة أو مسكن باسمه. كانت تصله مساعدات شهرية من أحد القادة العرب، فكان يسلمها فورا لأحد مساعديه ويطلب منه وضعها في البنك باسمه، وإذا اشترى سيارة طلب من أول صديق يقابله تسجيلها باسمه، ويرفض أن يتملك شيئا باسمه هو مطلقا!

آخر مرة قابلته في القاهرة عام 2005 وكان قد أقام فيها تعبيرا عن حبه لمصر وللشعب المصري. كان لقاء حارا وعاطفيا بيننا وغمرتنا السعادة ونحن جالسان بحضور زوجته الرائعة زهرة ، وابنته مهدية التي قالت لي : يا عمي إننا نحبك بسبب حب بابا لك .. كتابك الحواري معه هو أفضل الكتب التي قدمت بابا للعالم، وأعتقد أنه صار قديما ويحتاج تحديثا فلم لا تحدثه وتعيد الحوار مع بابا حول القضايا والتطورات الجديدة في العالم ..؟ . قلت لها أنا موافق فورا .. الأمر يتوقف على رغبة بابا .. ابتسم هو، وقال لا مانع عندي أيضا، هناك أشياء كثيرة يمكن اعادة النظر بها، خاصة الموقف من إيران.. ضحك بهدوء، وقال لي جهز نفسك لنكتب كتابا عن إيران في ضوء افلاس تجربتها وخيانتها للعرب في ضوء الحرب على العراق!، وأذهلتني ذاكرته وحضور وعيه!

ودعته على وعد اللقاء قريبا، ولكننا لم نلتق بعد ذلك أبدا. رحمه الله ورحم رفيقته المناضلة والكاتبة والفنانة التشكيلية والانسانة الرقيقة زهرة سلامي. فإن الحياة لا تجود كثيرا بزوجين بمثل رقيهما ورقتهما وسموهما.

بن بلة رجل مناضل صلب وقوي مخلوق من حجر صلب وفولاذ، يحمل على كاهله قرنا كاملا من النضال والقتال المسلح في الجبال والسجون ومع ذلك تحسبه شاعرا أو عازف بيانو من فرط لطفه ورقته ولطفه ودعته وهدوئه وابتسامته التي لا تفارق محياه، وكان جاهزا دائما لمعانقة المواطنين العرب والاوروبيين في الشارع، ولم يكن يرد طلبا لسائل حتى أنني عاتبته ذات مرة، قائلا له: هل نحن جمعية خيرية أو مشروع اعلامي وسياسي. كان كثيرا ما يتصل بي ليطلب مني دفع مبلغ لسيدة فقيرة أو لطالب فقير يدرس في باريس أو لمناضل سياسي في افريقيا أو في لبنان أو المغرب! مع أنه كان يمر احيانا بضائقة مالية ولا يتوفر له المال دائما.

كنت التقي به احيانا عشرة ايام متتالية، وكنت ألاحظ أنه يرتدي ذات البدلة. وكان يدعو شخصيات كبيرة الى العشاء في منزله، ولا يقدم لهم سوى طبق واحد من الطعام مع السلطة والماء فقط.. ولم يكن يظهر الفقر أو البخل، وكان يقول لي إنه لم يعرف اليأس في حياته ولا الخوف ولا الاكتئاب، بل كان مجبولا ومفطورا على الايمان بالله والقدر خيره وشره والتفاؤل والثقة بالناس حتى وهو في السجن!

وكنت كلما تعمقت معرفتي بشخصيته أتساءل بيني وبين نفسي كيف يحكم الجزائر فاسدون ولصوص ومستبدون مثل الشاذلي بن جديد وعبد العزيز بوتفليقة والجنرالات خالد نزار ومحمد العماري وتوفيق، بينما يرمى برجل كأحمد بن بلة في السجن خمسة عشر عاما وهو الذي عاش كل سنوات حياته مقاتلا من اجل استقلال بلاده ؟؟

المناضل المغربي الكبير محمد البصري رحمه الله قال لي مرة: لو حللت وفحصت كل خلية في كيان أحمد بن بلة وتكوينه لوجدتها معجونة بحب الجزائر والعروبة!

المصدر: المدار نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى