في ظل انقسام خطِر على هوية سورية وانتمائها، تحلّ ذكرى الوحدة السورية- المصرية (22شباط/ فبراير 1958) التي شكلت في مرحلة من تاريخ سورية المعاصر انعطافة كبيرة نحو تحقيق “الحلم القومي” في الدولة/ الأمة، مثلما شكّل الانفصال -في ما بعد أيضًا- انعطافة لا تقل أهمية أو مفصلية عن الوحدة ذاتها. هذا الانقسام الذي يأخذ اليوم شكل صراع عنيف في مواضع كثيرة، يشير -بوضوح وجلاء- إلى فشل النخب السياسية -بألوانها واتجاهاتها- في إنجاز مشروع الدولة الوطنية، دولة الكل الاجتماعي، بحكم أولويات وأهداف تلك المراحل، ومن ثم؛ المنحى الاستبدادي الذي غلب على طابع الدولة؛ ليجعل منها إقطاعية قروسطية، تقف سدًا منيعًا أمام إنجاز أي تحول حقيقي مفيد.
سيعود السوريون في هذا العام (ككل عام) لتناول الحدث التاريخي، بحسب مرجعياتهم الفكرية والإيديولوجية، بين دفاع عنها وتبجيل لها، وبين هجوم عليها وعدّها مقدمة للاستبداد، الذي نرى نتائجه اليوم خرابًا للوطن السوري، وتهتكًا للنسيج الاجتماعي، وهناك قليلون سيتناولونها في إطارها التاريخي الموضوعي، بما لها وعليها، وبما يفيد حاضرنا ومستقبلنا، وما يجعلنا نتجاوز عثرات الماضي وأخطاءه.
بين الأمس واليوم حدثت تحولات خطرة وعميقة في بنية كيان الوطن السوري، والمحيط العربي، وكشفت السيرورة التاريخية، والتطور البشري، خللًا كبيرًا في العقائد والأفكار، تستدعي التوقف عندها ومناقشتها بوعي وتبصر للأخطار المحدقة التي تتهدد الكيان بالتقسيم والتشظي. فإذا كانت الوحدة فشلت بالمحافظة على ذاتها، وهنا ليس مجال بحث الأسباب، فان الوحدويين فشلوا أيضًا في الدفاع عن كياناتهم القطرية، والعمل على ترسيخ دعائم مشروع وطني صلب، يأخذ في الحسبان قضايا ومفهومات أكثر إلحاحًا وأولوية وضرورة، مثل المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهم الذين لم يعترفوا بـ “القطرية” وحدودها أصلًا.
وإذا كانت الثورة السورية فتحت الأبواب واسعة للنقاش في كل قضايانا، وأسقطت المقدس والممنوع عن الخوض فيه، فإن قضية الانتماء والهوية التي تجري مناقشتها -اليوم- بخلفية الموقف من نظام (الأمة العربية الواحدة)، وماجرّه على البلاد والعباد، ستعلي من شأن هويات قاتلة ومدمرة، لن تحفظ الكيان/ الوطن، ولن تؤسس لمستقبل يحلم به السوريون، بل على العكس من ذلك تمامًا، ستقضي على أي حلم بسورية في حدودها الجغرافية الحالية.
يخطئ الوحدويون، وغير الوحدويين، حين يتناولون الوحدة والعروبة بدلالات الإيديولوجية، فيدافعون عنها أو يذمونها وفق مقاييسهم ومخيلاتهم وتصوراتهم المسبقة، فيعطون المبرر للآخرين، فمثلما لا يصح الدفاع عن أخطاء تلك التجربة، لا ينبغي أن تتخذ ذريعة للانفكاك عن المحيط أو الإقليم، وروابط أو صلات سابقة بقرون للوحدة، وظهور البعث، أو الناصرية، وكل الإيديولوجيات الأخرى، التي طبعت المنطقة بثقافتها وسياساتها، منذ ظهورها مع مرحلة الاستقلال عن الاستعمار الكولونيالي المباشر، في النصف الأول من القرن الماضي. إضافة إلى أن الربط بين الوحدة والاستبداد لا أساس معرفيًا له، فليس بالضرورة أن تكون صيغة الوحدة مؤسسة على الاستبداد، ولا يمكن أن تكون ممرًا إجباريًا إلى الديمقراطية، فلكل منهما مساره وقوانينه، وإن كان ما هو مطروح اليوم من نقاش بين السوريين عن هوية منفصلة وخاصة ومنعزلة عن محيطها، فمن المبكر جدًا الحديث عنها، وتحديد قسماتها وملامحها.
الهوية مسألة معقدة وعملية تاريخية، وهي حصيلة تضافر عوامل تشترك فيها اللغة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، وهي هنا لا تخضع للتبدل والتحول برغبة أو إرادة فريق من الناس، أو مكون ما خارج إرادة المجموع وقوانين الاجتماع السياسي.
على المدافعين اليوم عن الوحدة وتجربتها، كما على خصومها، أن يكفوا عن ربطها وزجها في صراع الهوية المحتدم، فهي أسمى وأعلى قيمة من صراعات السياسة والحكم. لا يفيد السوريين اليوم الانقسام حول الوحدة وشخص زعيمها، فهي مرحلة انتهت بما لها وعليها، ولن تعود، أو لا يمكن استعادتها من منطق التاريخ وحركته والمتغيرات العالمية الهائلة، ولعله من المفيد والواقعي بلورة صيغ وطنية جامعة، وحسم مسألة الانتماء والهوية وفق مستجدات الواقع وما كشفه من أمراض وعلل خبيثة، ولا يشكل ذلك انتكاسة في أحلام أجيال متلاحقة آمنت بالوحدة وناضلت في سبيلها، بقدر ما يمثل مراجعة تاريخية لا بد منها والأخذ بصيغ مختلفة ومغايرة، للنهوض والتقدم بوصفهما من ضرورات عالم اليوم.
سيبقى السوريون في انقسامهم الحالي إلى أن تحسم رؤاهم عن أي سورية يريدون، وبأي مستقبل يحلمون؟ الخصومة المصطنعة اليوم بين الهوية السورية والهوية العربية، تتطلب جرأة في تناولها وحلولًا عميقة لفك الاشتباك الحاصل بين التاريخ والمستقبل، وإعادة رسم الواقع مثلما هو دون طمس ثقافات وخصوصيات محلية، أو تزييف بنى ومكونات.!
المصدر: جيرون