الخطر الصهيوني ما يزال المعضلة الكبرى

حسن النيفي

لئن أدرك السوريون أن مواجهة المرحلة الراهنة بكل تشعبّاتها وصعوباتها بحاجة إلى مزيد من العزيمة والعمل الدؤوب والصبر، فإنّ هذا الإدراك يغدو أكثر تعقيداً حين يصبح مسار المواجهة مقروناً بمعضلة موازية، بل ربما تكون هي الأكثر خطورةً، وأعني بذلك العدوان الإسرائيلي الذي لم يكن في يوم ما، يجسّد خطراً عارضاً، بل كان، ولم يزل، يجسّد إحدى الجذور الأساسية، ليس للمشكلة السورية فحسب بل للمنطقة العربية برمتها.

ولعلها ليست مصادفةً أن يكون الكيان الصهيوني أحد أبرز الداعمين لاستمرار بشار الأسد في السلطة طوال سنوات الثورة، كما لم يكن نظام الأسد قبل الثورة يجسّد أي تهديد لأمن إسرائيل وفقاً للقادة الصهاينة أنفسهم، ولكن ما إنْ اندحر حتى استيقظت كل مخاوف إسرائيل وبات أمنها عرضةً للاختراق، وتحت هذه الذريعة استباحت البلاد السورية بعدوان مستمر جواً وبراً، بما في ذلك توغّلها في العمق السوري والاعتداء على أرواح وممتلكات المواطنين، متجاوزةً بذلك جميع العهود والتفاهمات المصدّقة أممياً ودولياً.

وحيال هذا العدوان المستمر، يتساءل كثيرون: ماذا تريد إسرائيل من سوريا الوليدة؟ إنْ كان الهاجس الإسرائيلي أمنياً، فمجمل القرائن المنطقية تؤكّد أنّ سوريا بحالتها الراهنة، وكذلك على المدى المنظور، لا يمكن لها أن تشكّل أي تهديد لا لإسرائيل ولا لسواها من دول الجوار، فضلاً عن أن القيادة السورية الجديدة (منذ وصولها إلى السلطة في 8-12-2024) حرصت على تصدير موقف واضح وصريح يؤكّد التزامها بجميع الاتفاقيات والعهود السابقة، كما أكدت رغبة واضحة بعدم التصعيد، وأبدت في السياق استعدادها بإعادة النظر في التفاهمات الأمنية السابقة بما يضمن وقف أي تصعيد بين الطرفين، إلّا أن جميع تلك المساعي -أو (التطمينات)- لم تحل دون استمرار العدوان.

تدمير البنية العسكرية لسوريا وتقسيمها إلى دويلات وكيانات عرقية وطائفية، ثم تحويلها إلى ما يشبه أشلاء دولة، ليس إلّا تجسيداً عملياً لمفهوم ( الاستئصال) الذي يمارسه الصهاينة مع المحيط العربي..

واقع الحال يؤكّد أن المشكلة الأمنية لدى إسرائيل لا تكمن في وجود خطر حقيقي يهدد كيانها، ولا كذلك في استشعارها بأخطار مستقبلية محتملة، بل المشكلة الجوهرية قائمة في التصورات الصهيونية لمفهوم الأمن، تلك التصورات المنبثقة أصلاً عن النزعة العنصرية ذاتها التي تأسّس عليها هذا الكيان الغاصب، فأنْ تحيا إسرائيل وتحوز على مقوّمات البقاء، فهذا يستدعي بالضرورة زوال الآخر أو سحقه، إنها نزعة الاستئصال ذاتها التي مارسها الصهاينة حين عملوا على استئصال شعب فلسطين واغتصاب أرضه، وهي النزعة ذاتها التي لا تتيح للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة القبول بأي حل عادل لقضية فلسطين.

ولعل الترجمة الحقيقية لبواعث إسرائيل في عدوانها لم يخفها قادة ومسؤولون في حكومة نتنياهو حتى قبل سقوط نظام الأسد، فتدمير البنية العسكرية لسوريا وتقسيمها إلى دويلات وكيانات عرقية وطائفية، ثم تحويلها إلى ما يشبه أشلاء دولة، ليس إلّا تجسيداً عملياً لمفهوم ( الاستئصال) الذي يمارسه الصهاينة مع المحيط العربي.

الحكومة السورية وخيارات المواجهة

في سياق موازٍ وسعياً لتحاشي العدوان الإسرائيلي أو لتحييده، تبدي الحكومة السورية الحالية مرونة واضحة، ليس مع الدعوات إلى إجراء تفاهمات أمنية مع حكومة نتنياهو فحسب، بل حيال أفكار ومشاريع تذهب باتجاه تفاهمات دائمة مع إسرائيل أيضاً، وذلك وفقاً لمصادر عدة تتحدث عن اتصالات مباشرة –سورية إسرائيلية- بهذا الصدد.

وربما فسّر كثيرون، إيجابية الموقف الأميركي حيال رفع العقوبات عن حكومة دمشق ودفء العلاقة المتنامي بينها وبين اشنطن، على أنّ ثمنه المباشر سيكون بانضمام سوريا إلى (اتفاقات ابراهام)، التي لم يخف الرئيس ترمب دعوته للرئيس السوري بالانضمام إليها.

وبعيداً عن التفاصيل الدقيقة لما يُقال، أو لما يحصل بدقة، سواء في الخفاء أو العلن، بين إسرائيل والحكومة السورية، وبعيداً عن مدى حيازة الحكومة على مقوّمات الشروع بهكذا خطوة مصيرية، فإن السؤال الذي يبدو أكثر وجاهةً: هل السعي إلى إقامة تفاهمات أمنية جديدة، حتى لو استدعى ذلك إعادة النظر في اتفاقية (فك الاشتباك 1974)، سيضع حدّاً للعدوان الصهيوني المستمر على البلاد السورية؟

أم أن العدوان ما هو إلّا ضغوطات تمارسها حكومة نتنياهو، مستغلِّةً هشاشة الدولة السورية وحالتها الراهنة، لدفعها إلى توقيع اتفاقية صلح دائم وفقاً للشروط الإسرائيلية؟ وبالتالي ما هي وسائل الردع التي تملكها الحكومة السورية في مواجهة إسرائيل في الوقت الراهن؟

ما هو في غاية الوضوح أن تعاطي القيادة السورية الجديدة حيال المواجهة مع إسرائيل، وفي ظل موازين القوى الراهنة، يتجه نحو مسارين متوازيين، يتمثل الأول بعودة سوريا إلى حاضنتها العربية، بما يعني ذلك ربط مسالة أمنها واستقرارها بأمن واستقرار المنطقة، عبر إقامة علاقات متوازنة تراعي المصالح المشتركة، ويتجلى المسار الثاني بالتوجه نحو المجتمع الدولي، وتحديداً (أميركا وأوروبا)، والعمل على تعزيز القناعة لديها بأنّ التحوّل الذي شهدته سوريا هو قطيعة جذرية مع محور إيران ونظام الأسد ومشتقاتهما في المنطقة، قطيعة مع سياسات تصدير الإرهاب والكبتاغون وإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار وكل أشكال الشر، والذهاب نحو سياسة أكثر تماهياً واستجابة لمفهوم الأمن المستدام والاستقرار والتنمية المجتمعية والاقتصادية.

ولعل هذا المسعى قد حقق نتائج ملموسة ومباشرة تجسّدت بقرار رفع العقوبات من جانب أميركا وأوروبا، كما تجسّدت بانفتاح ودعم عربي-خليجي على وجه التحديد، فضلاً عن إقبال دولي على الاستثمار الاقتصادي في سوريا، موازاة مع نتائج ذات صلة بالتمهيد للاعتراف الرسمي بالحكومة الحالية، كإزالة (هيئة تحرير الشام واسم الرئيس أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطّاب من قوائم الإرهاب)، ولكن هل يمكن لهذه المنجزات التي حققتها السلطة بجدارة أن تجسّد الحصانة الكافية ضدّ الخطر الوجودي الإسرائيلي سواء في الوقت الحاضر أو في المستقبل؟

مجمل البلدان التي تخرج من حالة حرب تصل بها إلى حدّ الإنهاك، كالحالة السورية، إنما تبدأ مسار تعافيها بإعادة بناء بنيتها وأنساقها الداخلية أولاً، إذ ثمة استحقاقات لا يمكن تجاوزها، مثل: الوحدة الوطنية، العدالة الانتقالية، السلم الأهلي، أمن وسلامة المواطن، توفير الحدّ الأدنى من الخدمات الأساسية..

إسرائيل تسارع قبل غيرها بالإجابة مؤكّدة أن استهدافها لسوريا لن يكون عبر العدوان العسكري المباشر فحسب، بل عبر اختراقات أخرى جهر بها قادة ومسؤولون صهاينة، لقد قالوا سنقسّم سوريا إلى كيانات تحت مسمّيات عرقية ودينية بصفتها جماعات مضهطَدَة، كما قالوا إنّ “الحكومة السورية الراهنة هي حكومة متطرفة من لون ديني جهادي واحد”، وهذه الادّعاءات ليست مجرّد تهديدات، بل ظهرت لها تداعيات ملموسة على الأرض.

ما لا يمكن نكرانه أن البلاد السورية ما تزال مليئة ببؤر التوتّر، وأن مساحات الاحتقان العرقي والطائفي التي أورثتها سنوات الحرب ما تزال قابلة للاتساع إن لم نقل للاشتعال، خاصة في ظل تباطؤ التعاطي الجدّي والفاعل من جانب الحكومة، فضلاً عن التعاطي الشكلي مع مجمل الاستحقاقات الوطنية الأخرى، من مؤتمر الحوار الوطني إلى الإعلان الدستوري إلى انتخابات البرلمان المرتقب.

ما هو مؤكّد، وما أثبتته التجارب، أن مجمل البلدان التي تخرج من حالة حرب تصل بها إلى حدّ الإنهاك، كالحالة السورية، إنما تبدأ مسار تعافيها بإعادة بناء بنيتها وانساقها الداخلية أولاً، إذ ثمة استحقاقات لا يمكن تجاوزها، مثل: الوحدة الوطنية، العدالة الانتقالية، السلم الأهلي، أمن وسلامة المواطن، توفير الحدّ الأدنى من الخدمات الأساسية، تعزيز الثقة بين المكونات والجماعات، ذلك أن إنضاج هذا المسار الداخلي هو النواة التي يمنح الدولة تماسكها، بل هو البناء الذي يتيح لها أن تؤسس عليه تطلعاتها الأخرى، وما أثبتته الوقائع والتجارب التاريخية أيضاً أن مصدر قوّة الدولة حيال أي خطر وجودي خارجي هو صلابة تماسكها الداخلي بما فيه الشعب، الذي تستمد منه شرعية وجود سلطتها.

المصدر: تلفزيون سوريا

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى