30 آذار “مارس”: جمال الأتاسي

حبيب عيسى

          لن نتحدث عن جمال الأتاسي الذي تحده الحدود الشخصية، لرجل ولد يوم كذا.. وتوفي يوم كذا … وعمل وناضل كذا … وإنما أردنا الحديث عنه نموذجاً لجيل من المناضلين العرب، تماهى عندهم الخاص، بالعام … الشخصي، بالموضوعي.. الأنا، بالآخر … الوطني، بالقومي، بالإنساني … إلى درجة تكاد الأنا متواصلة مع الآخر تنقل إليه، وتعبّ منه، والوطني، والقومي، يحلق بحرية الإنسان، إلى الشامل الإنساني … إنها السمة الأساسية لذلك الجيل من المناضلين العرب على مختلف مشاربهم، وأفكارهم، ورؤاهم … اعتقدوا مبكرا أن أمتهم على أبواب عصر من النهوض، والتنوير، واعتقد، كل واحد منهم، أنه المعني بذلك، وان المسؤولية ملقاة على عاتقه … لهذا عليه أن يكون: المفكر، والمنظرّ، والفيلسوف، والحركي، والكادر، والمقاتل، والفدائي، والاقتصادي، والاجتماعي، والمصلح، والإمام، والقائد، والقدوة، وزوربا اليوناني ( بل العربي ) في الوقت ذاته …

       كانوا جيلاً لا يتردد في الاقتحام، يمضي في التجربة إلى آخرها، وعندما يحس بالخطأ لا يتردد في التراجع، لكن ليبحث، وعلى الفور عن مسلك جديد للتقدم … المهم، بالنسبة إليهم، كان التوقف عن الحركة ممنوع، وأن الانسحاب من المعركة عار، يجب أن تحاول … وتحاول … مهما كانت الظروف …

       بالنسبة إليهم، كنا جيل قليل الصبر، سريع العطب، وعندما كنا نواجههم باللاجدوى … كانت الإجابة جاهزة، وأي جدوى من الانزواء والعزلة …؟ … والذين مازالوا على قيد الحياة من ذلك الجيل .. مازالوا يحملون تلك السمات بإصرار عجيب …

        سأذكر مثالين عن شخصيتين “أمد الله بعمريهما” من المفترض أنهما ينتميان إلى “إيديولوجيتين متناقضتين”، لكن تجمعهما سمات مشتركة تخطت الحدود الإيديولوجية، كانا يؤنسان وحدتي بعد رحيل جمال الأتاسي قبل أن يغادرا البلاد:

  • المناضل رياض الترك الذي لا يزال يتحرك على قدمين رغم الأهوال التي تعرض لها، كان يحمل حقيبة أوراقه بيد، ولفافة تبغه باليد الأخرى، يكاد ظهره ينوء عن حمل رأسه، لا يكل، ولا يمل، ولا يتوقف …كنت ما أن ألتقي به، وقبل انتهاء السلام يبادر بنظرة من التحدي والاستنكار، ثم مبادراً: كيف لم تحضر كذا …؟، كيف تغيب عن كذا…؟، لماذا انسحبت من إعلان دمشق …؟ ألم تسمع ما قال فلان …؟ لماذا لم ترد …؟ لماذا…؟ ولماذا …؟، إنه ابن العم … ومهما كان الجواب مقنعاً… كنت ألمح في عينيه ، أنه غير مقتنع …ومهما حاولت أن أبرر عزلتي يجيب العزلة ليست هي الحل … العمل عنده هو الحل …؟
  • نعم ، العمل هو الحل …لكن أي عمل يا بن العم..؟ ووفق أي أسس؟، وبأي منهج …؟ بأية وسائل ..؟ .. وباتجاه أية أهداف ..؟!

   وسرعان ما كان يأتي الجواب، يحمله صوت متهدج فيه عمق التاريخ ، وآفاق المستقبل : هناك عمل، ما، يمكن القيام به .. في كل الظروف ..! ، هنا أجد نفسي عاجزاً عن الكلام ، أستسلم لرغبة جامحة في ضمه إلى صدري مستذكراً جمال الأتاسي الذي كان يواجهني بذات الأسئلة … ويحاصرني بالموقف المحرج ذاته … مع بعض الاختلاف بالأسماء … لماذا انسحبت من الاتحاد الاشتراكي …؟ لماذا انسحبت من اللجنة الفلانية …؟ لماذا انسحبت، وتتهرب من لقاءات التجمع الوطني الديمقراطي …؟ لماذا، ولماذا … ولماذا ..؟ ،

  • الشيخ الجليل جودت سعيد الذي ما أن يغادر صومعته في الجزء غير المحتل صهيونياً من الجولان متوجهاً إلى دمشق لعله يواكب مواكب التحرير العربية في طريق العودة… حتى يتصل بي ليواجهني بقراراته الحاسمة: لا مستقبل للإنسانية إلا بإلغاء هذا النظام العالمي المشوه العنصري الذي يعطي حق الفيتو … يجب أن نجهر بالحق، يجب أن نعمل… إن هؤلاء الذين يدافعون عن حقوق الإنسان وحرية الإنسان وكرامة الإنسان هم المؤمنون هم المسلمون أياً كانوا وفي أي مكان وجدوا… يجب أن نعمل، يجب أن … لكن يا شيخنا ألا ترى أنهم سحبوا البساط من تحت أقدامنا ألا ترى أن الصراخ بالباطل قد عمّ وانتشر حتى لم يعد لصوت الحق مكاناً، وعندما تصبح كل الطرق المتاحة كلها تؤدي إلى الباطل ألا يكون الصمت والعزلة هي الخيار الصائب؟ ويكون الجواب: لا… دائماً هناك طريق إلى الحق علينا أن نمتلك المعرفة والمقدرة على سلوكه… ثم يغادر عائداً إلى صومعته… وعندما تضيق عن ضبط شعاع أفكاره يعود… وهكذا… إلى أن غادر…

الآن بت وحيداً، الحاضر تتقاسمه الأشباح والفيروسات تنشر الأوبئة في كل اتجاه، والمستقبل مجهول ترسمه ذات الأشباح، والفيروسات، ونحن لا حول لنا… ، ولم يبق لي إلا حديث الذكريات …

        ويوم 30 آذار “مارس” له مكانة خاصة فمنذ أكثر من خمسة عقود أعلن جمال عبد الناصر “بيان 30 آذار – مارس” محملاً بوعد الانتقال إلى نظام الحريات العامة والديمقراطية بعد إزالة آثار العدوان، ومنذ أكثر من ثلاثة عقود انطلق أطفال الحجارة في فلسطين العربية يواجهون الصهاينة ليحمل 30 آذار “يوم الأرض العربية”، ومنذ أكثر من عقدين من الزمان وفي 30 آذار – مارس غادرنا عصمت سيف الدولة قبل أن يتحقق حلمه بميلاد التنظيم القومي الحامل لمشروع الأمة في بسط سيادتها على وطنها، ومنذ عقدين من الزمان وفي 30 آذار غادرنا جمال الأتاسي، والسؤال الملح الذي يشغله: ما العمل؟ للخروج من المحنة…

( 2 )

   هكذا أريد أن أعيش ذلك اليوم 30 آذار – مارس – ليأخذني بعيداً عما أنا فيه إلى تلك الذكريات وما حملته من آلام وأحلام …

     وهكذا حملتني تلك الأحلام إلى ذلك اللقاء الذي لم يكن يخطر لي على الإطلاق، انه سيكون اللقاء الأخير مع جمال الأتاسي، لكن كل شيء في ذلك المساء بدا غير عادي ، لقد أصر أن يكون اللقاء في بيته ، وأن نكون وحيدين .. ثم، ورغم الأحداث الساخنة التي تستحق النقاش ، بدأ حديثاً مستفيضاً يروي على مسامعي قصة رحلته الشاقة إلى العراق عام 1941 للانضمام إلى ثورة رشيد كيلاني ، الرحلة، ومخاطرها ، رفاق الطريق ، والشخوص المعاصرة لتلك الأحداث .. ثم كيف فشلت الثورة ، ورحلة العودة ، ومخاطرها ، لم يترك لي أية فرصة لمقاطعته ، كأنه كان يريد أن يترك لي وصفاً دقيقاً للحالة التي كانت راهنة ، وكأنه كان لا يريد لذلك الحديث أن ينتهي، يريد أن يعيشه من جديد، ، وعندما كاد الديك أن يصيح، كما يقولون في قريتنا، إيذاناً بانبلاج الفجر ، وقفت، مشفقاً، كي أنسحب ، وما كدت أجد نفسي، وحيداً في الطريق إلى بيتي، حتى باتت الهواجس، والأفكار، تحاصرني من كل اتجاه .. وتطرح عشرات الأسئلة المصيرية .. لماذا لم تثمر تلك الجهود النضالية الهائلة التي قامت بها قامات شامخة، في شتى أرجاء الأمة، مشروعاً، حضارياً، نهضوياً، تنويرياً، متكاملاً، قادراً على الانتصار ، ووضع الأمة على سكة التطور، والنماء، والحرية، والعدالة، والأنسنة ..؟ كيف يمكن للأمة أن لا تجني ما زرعه فيها رجال عظام كعبد الرحمن الكواكبي ، وعبد الله النديم ، وجمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، وساطع الحصري، ومالك بن نبي، وحتى الذين قاتلوا بالرصاص، من، احمد عرابي ، وعمر المختار، ومجمل شهداء عام 1916 في بيروت ودمشق ، وعبد القادر الجزائري ، وعبد الكريم الخطابي ، وابن صالح ، والمهدي ، إلى صالح العلي ، وعز الدين القسام ، وسلطان الأطرش ، والقاوقجي، وهنانو، ورشيد كيلاني … فإن مواقفهم ، وأدبهم، وأشعارهم، كانت بمستوى الرصاص الذي أطلقوه ، وربما أقوى ، وصولاً إلى جيل زكي الأرسوزي ،ورياض الترك، وعصمت سيف الدولة، وفرج الله الحلو، ونديم البيطار، ومطاع الصفدي، وعبد الله الريماوي، وعبدالله عبد الدايم، وعبد الهادي عباس، ومحمود أمين العالم، وطه حسين، والعقاد، ونجيب محفوظ، وخالد بكداش، وانطون سعادة ، وأكرم الحوراني ، ورموز الكتلة الوطنية ، ورموز حزب الشعب ، ومصطفى السباعي، وعصام العطار، وميشيل عفلق ، وصلاح البيطار، وجمال الأتاسي ، وعبد الكريم زهور، وسامي الدروبي ، وياسين الحافظ، والياس مرقص، وجورج حبش ، وجهاد ضاحي، ووهيب الغانم ، ومحمد الخير ،والمهدي بن بركة، والياس فرح، وسعدون حمادة ، وعبد الكريم أحمد ، وعبد الهادي ناصف ، وكمال الدين رفعت ، ومحمد عودة ، وإلى عشرات الأسماء المنتشرة بين المحيط، والخليج، والتي نحتاج إلى مصنفات لتعدادها ..؟! كيف يمكن أن يضيع ذلك كله ؟… كيف يمكن لذلك المخزون الهائل من النضال، والتضحيات، أن يتحول إلى وضع إشكالي؟ كيف يمكن للأمة أن تهدر هذا كله ؟، وان تترك هذا الميراث العظيم من العطاء، والتضحية، والفداء، والإبداع، والنهوض، والتنوير، يضيع في ساحات من الصراع والفتن ..؟

أعرف أن وضع تلك الأسماء بجوار بعضها البعض قد يغضب الكثيرين … لكنني، على يقين عززته التجارب المرة، أن الآخر المختلف هو الحد الثاني في عملية التطور ، وبالتالي فإن المختلف القوي يكون مصدر قوة ، وان قوة مجتمع، ما ، تكون حصيلة مجموع قوى فصائله، ومؤسساته، وأحزابه ،ربما كانت المشكلة أننا ورثنا العمل السياسي بدلالة العمل المذهبي، حيث لا خيار، إما تقديس مطلق وإما تكفير مطلق….، على أية حال ذلك حديث يطول ، فقط أردت القول ، أن جمال الأتاسي، كان قد أدرك في وقت مبكر أهمية الحوار ، والتحالف ، بين مختلف الاتجاهات الفكرية، والسياسية، داخل المجتمع ، فالاتحاد الاشتراكي العربي كان في الأساس عام 1964 ، عبارة عن تحالف بين فصائل وحدوية عديدة من وحدويين اشتراكيين ، وقوميين عرب ، وجبهة عربية متحدة و … بغض النظر عن، من انسحب ، ومن انشق بعد ذلك ، كما أن الجبهة الوطنية التي سعى لتحقيقها بعد هزيمة 1967 ، ودفع حريته ثمناً لها ضمت طيفاً واسعاً من القوى، والفصائل السياسية ، والجبهة الوطنية التقدمية التي سعى لإقامتها ، وشارك بتأسيسها بعد عام 1970 ضمت فصائل وأحزاب عديدة ، وعندما لم يتمكن من بنائها وفق الأسس التي كان يراها سليمة لم يتردد بالانسحاب منها ، لكن للسعي على الفور لجمع القوى، والفصائل السياسية، في التجمع الوطني الديمقراطي ، وعلى الصعيد القومي كان من المؤسسين للمؤتمر القومي العربي ، ثم للمؤتمر القومي الإسلامي .. باختصار شديد كانت قناعته بأن استئناف مسيرة النهوض، والتنوير في الوطن العربي، يتطلب مشاركة واسعة من مختلف القوى والفصائل في المجتمع، وأن الاختلاف لا يفسد للود قضية …

( 3 )

قال جمال الأتاسي مع صديقه سامي البارودي في تقديم كتاب موريس دوفرجيه ( مدخل إلى علم السياسة ) :” إن دوفرجيه يريد الاشتراكية الديمقراطية ، ولأنه يريد الاشتراكية نراه يفضح النظام الرأسمالي ، ويعريه ، ويكشف عن عقمه ، وعن ظلمه ، كما ولأنه يريد الديمقراطية نراه يتمنى على النظم الاشتراكية أن توفر للمواطنين ما يصبون إليه من حرية … ثم يضيفان : .. أما بعد، فليس يهمنا كثيراً ، حين نترجم هذا الكتاب أن تكون آراؤه متفقة وآراؤنا … حسبنا أن يعرف الذين يتكلمون عن الاشتراكية في الأقطار العربية ، أن الاشتراكية لن تؤتى ثمراتها من غير وحدة هذه الأقطار العربية … حسب هذا الكتاب أن يساعدنا على أن ندرك إدراكاً واضحاً أن لا اشتراكية مثمرة في ظل التجزئة ، وأن الاشتراكية والوحدة مترابطتان ، وان زواجهما هو الذي يلد الحرية …”

في ظل الجمهورية العربية المتحدة ، حاصرت الأجهزة جمال الأتاسي ، وضيقت الخناق على صحيفته الجماهير التي كان يرأس تحريرها فكتب مقالته الشهيرة ( الصمت موقف ) ، كانت المرة الأولى، والأخيرة في حياته التي يكتفي فيها بالصمت، كموقف ، ذلك أنها دولة الوحدة حجر أساس الحلم ، يدعوا إلى تصويب المسار وإلى مزيد من الخطوات الوحدوية لكن الانفصال جريمة لا يقربها إلا المجرمون، ثم ما أن وقع انفصال الإقليم الشمالي، حتى انطلق حركياً، وفكرياً ، وبكل ما يملك، مناضلاً لإعادة الجمهورية العربية المتحدة … فكتب في تلك الدورية التي كان يكتبها تحت عنوان ( في الفكر السياسي ) مع لفيف من رفاقه يقول : ” إن التحرك الجماهيري الثوري الذي يمتد اليوم من الجزائر إلى بغداد ، متجاوزاً الفواصل والحدود ، ليوحد القوى الثورية العربية حول شعارات وأهداف واحدة ، مبشراً بيوم قريب تلتقي فيه هذه القوى الثورية ، في تنظيم موحد وفي مشروع مشترك للعمل والنضال ، كان حصيلة معارك وتجارب لم تخل من كثير من العثرات والنكسات فمن خلال النضال الطويل الشاق … تفتح وعي كتل جماهيرية واسعة على وحدة مصالحها ووحدة مصائرها وأهدافها ، ليتجاوز النضال الشعبي إطاره الوطني الإقليمي ، ويأخذ مجراه التاريخي كحركة تحرر كلي تنشد لاستكمال الوجود القومي للأمة العربية وتستهدف التحرر الإنساني الكامل … إن الاتجاه الثوري العربي استطاع أن يتقدم في وجه جميع أعدائه ، وأن يسجل نصره الكبير في إقامة وحدة مصر وسورية، متحدياً مخططات الرجعية والاستعمار ، وكان لابد لهذا النصر ككل انتصار ثوري حقيقي من أن يتجاوز إطاره المحدد ، ومن أن يعطي ثماره على صعيد الوطن العربي كله ، فقامت ثورة 14 تموز 1958 في العراق ، وأخذت ثورة الجزائر تقترب من النصر ، وأخذت ريح الثورة تعصف في جميع أرجاء المجتمعات العربية لتزعزع عروش الرجعية وقواعد الاستعمار في كل مكان ..(نلاحظ هنا كم كانت الأحلام تبدو قريبة)…

أين كانت المشكلة إذن ، ومن أين بدأ الانكسار ..؟ يقول جمال الأتاسي : ” لكن تلك الانتصارات الأولية لم تستطع أن تعزز بقاءها واستمرارها بشكل حاسم  فالحركة الشعبية الثورية ، تقدمت ولكنها لم تجهز على أعدائها ، وبخاصة على أولئك الانتهازيين والمتآمرين الذين ظلوا يدبون في أوصالها ، والقيادات السياسية لتلك الحركة كانت في أكثرها ، دون مستوى مهماتها فهي لم تستطع أن تبلور ذلك النضج الثوري للجماهير ، في حركة ثورية قائدة ، أو في إيديولوجية واضحة تخط أمامها طريقاً واضحة للعمل والنضال ، فتعثرت تجربة وحدة مصر وسورية في تناقضات وأخطاء كثيرة ، مما أحاط مصيرها وطريقها بكثير من الشكوك .. وأخذت الحركة الثورية في الأقطار العربية تواجه أعدائها منفردة مشتتة القوى …”

لكن جمال الأتاسي لا يقف عند تحليل ما جرى ، وإنما يبث روح المواجهة بعد ضربة الانفصال التي يصفها بأنها كانت اخطر مؤامرة استعمارية رجعية فيقول : “اليوم وبعد أن تعزز الاتجاه العربي والاشتراكي ، ثورة الجزائر ، ثورة اليمن ، ثورة العراق … ندرك بعمق أن الحركة الثورية العربية ، الحركة الاشتراكية الوحدوية هي الحركة الظافرة في الوطن العربي ، وأنها وحدها الحركة المنسجمة مع مجرى التاريخ … إن نضج الوعي الجماهيري ، وإن هذا التفاعل المباشر بين القوى الثورية في الوطن العربي هو الذي استطاع أن يتجاوز نكسة الانفصال ، ليحقق تلك الانتصارات الرائعة للحركة الثورية العربية … والوضع الرسمي الانفصالي القائم في سورية ما هو إلا ستارة واهية .. تتحرك وراءها قاعدة شعبية ثورية كبيرة أصبحت تعي طريقها وأهدافها وأخذت توحد قواها واتجاهاتها في ساحة المعركة الدائرة ضد قوى الانفصال، وهي لابد أن تفرض إرادتها في وقت قريب ..”

إن جمال الأتاسي يعبر بهذا الموقف عن الرأي العام الذي كان يتعاظم كل يوم في تلك الأيام بأن عودة العربية المتحدة يمكن توقعها في أقرب وقت.

( 4 )

       يقول جمال الأتاسي : ” لقد نفذت مؤامرة الانفصال التي كان بعض خيوطها مكشوفاً منذ البداية ، لكنها باغتت الشعب ، ووقف أمامها حائراً وكأنما هو مغلول ، فلم يبادر بقواه المنظمة للدفاع عن وحدة كيان الدولة التي أقامها ، لتبقى ولتنمو وتتجاوز نفسها نحو وحدة اكبر وأشمل فأخطاء الحكام وأساليب الأجهزة البوليسية والإدارية لهذا الحكم كانت قد فككت تلك القوى ، فقامت تتخبط على غير هدى …” ثم يتابع فيقول : ” إذن، فنحن نستطيع أن نضع بين العوامل الأساسية التي هيأت الجو لمؤامرة الانفصال ، أخطاء الحكم أيام الوحدة ، ولكننا نخدع أنفسنا ونخدع شعبنا ، إذا نحن لم ننظر إلى ضربة الانفصال في مقوماتها الحقيقية وفي عواملها المختلفة ، وإذا نحن لم نقرر بشكل صريح وواضح أنها مؤامرة تحالفت فيها القوى الرجعية، والاستعمار لتوجيه ضربة للاتجاه الوحدوي التقدمي في الوطن العربي، عن طريق الإجهاز على كيان أول دولة موحدة أقامها العرب في تاريخهم الحديث …إن القوى الرجعية التي أخذت تصرخ بعد الانفصال بشعارات كاذبة عن الديمقراطية، والحرية، ومحاربة الديكتاتورية، والاستبداد، هي ذاتها التي كانت أيام الوحدة تضغط على الحكم ، وتشجعه على التسلط، والاستبداد ، وتغريه بضرب القوى الشعبية التقدمية، ثم ما لبثت أن انقلبت ضد ذلك الحكم ، لا لما فيه من قسر واستبداد، بل لما فيه من احتمالات اشتراكية ، ولأنه أخذ يهدد تهديداً صريحاً مصالحها الاستغلالية …”

       وإذا كان موقف القوى الرجعية من الوحدة والانفصال مفهوماً من لدن جمال الأتاسي، فإن موقف ما يسمى اليسار كان غريباً … يتساءل جمال الأتاسي فيقول: ” … يحق لنا، هنا، أن نسأل أولئك الذين يقولون بالبنى الفوقية الملحقة بالبنيان الاقتصادي للمجتمع، الذين يقولون بالمنطق الديالكتيكي والصراع الطبقي ، كيف يبررون لأنفسهم التنكر لهذا المنطق عندما يحللون تجربة الوحدة، وعملية الانفصال ..؟ لقد ساروا في حملة التهويش وإثارة الانفعالات السطحية التي كانت من مآخذهم الأولى على حكم الوحدة ، وهم قد أغرقوا الشعب في متاهات الدعايات والتهويش بدلاً من أن يفتحوا وعيه على طبيعة الصراع العميق القائم في المجتمع ، والذين يدعون اليسارية وتمثيل اليسار ، نريد أن نسألهم أين أصبح اليسار خلال عهد الانفصال ..؟ .. وهذه الشعارات التي يرفعها اليوم العمال والفلاحون في غالبيتهم الساحقة ، أو ليست دليلاً كافياً على أن الذين يدعون تمثيل اليسار في هذا البلد قد أصبحوا هم أنفسهم من التكوينات الفوقية المعزولة عن الشعب ، العاجزة عن التجاوب معه وعن أن تكون القدوة التي يقتدي بها ، والوعي الذي يستنير بهديه ؟ بل لقد أصبحوا فوق ذلك ، أداة تضليل للشعب ، تحاول صرفه عن معركته الحقيقية ضد الرجعية والرأسمالية والاستعمار إلى معارك جانبية مصطنعة ، وتطلب منه أن يتوحد في صف أعدائه ومستغليه ، تحت شعارات مرحلية لا يرى فيها الشعب غير الاصطناع والتلفيق … نستطيع أن نجزم أن الانفصال لم يكن معركة كسبتها الديمقراطية ضد الديكتاتورية ، ولم يكن معركة كسبتها الحرية ضد الاستبداد ، كما تحاول بعض الدعايات تصويرها ، بل هي معركة كسبها الانفصال ضد الوحدة … وظلت الحرية وعداً ، يتآمر عليها الذين ينادون بها ، ولكن حادث الانفصال، وما تلاه من أوضاع كان كشفاً ثميناً للشعب ، لقد عرفه بشكل تجريبي ..،  المخاطر الكبرى التي يحملها الحكم الفردي ، وكل حكم لا تكون ضمانته الشعب نفسه بقواه الواعية المنظمة …إن معركة الوحدة والانفصال هي أعمق من القضايا المباشرة التي تدور من حولها هذه المعركة …”

إن جمال الأتاسي كان نموذجاً لذلك الجيل العربي المتمرد الذي يعبر عن موقفه بشجاعة ووضوح ، فرغم نزوعه الاشتراكي الواضح إلا انه لا يقبل الأمور على عواهنها .. فيقول : ” نحن نشهد في هذا العصر ، رغم كل ذلك الميراث الضخم في التفكير الاشتراكي نظماً استبدادية وفردية بل ونظماً متخلفة ، تسمي نفسها اشتراكية ، أو تقول بأنها تعمل لنحو من الديمقراطية .. فهل تسخر الاشتراكية كما سخرت الديمقراطية من قبل لتكون أداة ديماغوجية في الدعاية والتضليل ..؟! ” أهمية هذا الكلام هو أن يقوله جمال الأتاسي في فترة مبكرة مع بداية عقد الستينات من القرن المنصرم، ثم يقدم قراءة مبكرة للاتحاد السوفيتي فيقول : ” النظام السوفيتي يستند إلى نظرية تقول بأكبر مشروع عالمي لتحرير الإنسان، ظهر حتى الآن ، ورغم استناده إلى حزب وطني كبير كان يقود بالفعل طبقة شعبية، وعمالية واسعة ، ورغم اغتنائه من تجارب طويلة في النضال الفكري، والسياسي، والعمالي في روسيا نفسها، وفي أوروبا كلها ، فهو لأنه لم يضع حرية الإنسان موضع التكوين والبناء منذ البداية بل جعلها مشروعاَ مؤجلاً ، وبرر لنفسه إتباع مختلف الوسائل ليسيطر حكم فردي يستند إلى طبقة بيروقراطية وأسلوب استبدادي وبوليسي ، وما لبث هذا الحكم أن انخرط في طريق من التطبيق الاشتراكي نسي فيه الهدف الأصلي للاشتراكية ، هذا الهدف يرمي إلى خلق الشروط التي تحقق الحرية الكلية للإنسان ، وكاد هذا النظام أن يشوه وجه الإنسان … وأصبح الإنسان بذاته وسيلة ، وأصبحت النظرية هي أيضاً وسيلة وأداة ، وأصبح تقديس الفرد واستمرار سلطة الفرد هما القضية وهما طابع الحكم … وقد نجد له اليوم تبريراً في أنه استطاع إنشاء دولة قوية عظيمة ، ولكن هل هناك اليوم من حكم استبدادي أو استغلالي إلا ويجد لنفسه التبريرات ؟ فأمام التذرع بمخاطر الغزو الاستعماري الرأسمالي يتذرع الجانب الآخر بمخاطر الغزو الشيوعي والإرهاب الشيوعي … إن الديمقراطية ( أي حكم الشعب بالشعب ومن اجل الشعب ) ، وأن الاشتراكية ( أي تحقق الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والمشاركة الجماعية في الثروات والعمل ) ليستا وعوداً ومثلاً ، إن للديمقراطية، وللاشتراكية، شروطاً لابد من أن تتحقق في كل عمل ديمقراطي، واشتراكي، وفي كل حركة ديمقراطية اشتراكية منذ بدايتها، وفي كل خطوة تخطوها .. فالاشتراكية لا يمكن أن تكون إلا ديمقراطية إذا انسجمت مع نفسها ونشأتها وأهدافها …”

       إن جمال الأتاسي لا يكتفي بذلك وإنما ينتقل بعد ذلك للبحث في الضمانات لتحصين التجربة من الأخطاء والخطايا …

  ( 5 )

إن جمال الأتاسي لم يكف عن المحاولة في ظل أحلك الظروف بدءاً من أربعينات القرن المنصرم، فقد اقترب من الكتلة الوطنية ثم كان ضمن المجموعة الأساسية التي ضمت زكي الأرسوزي، وميشيل عفلق، وصلاح البيطار، وآخرين للحوار حول قيام تنظيم قومي وتطوير صيغة ( عصبة العمل القومي ) ، ثم ساهم بتأسيس رابطة للطلاب العرب في جامعة دمشق، ثم ساهم في اللجنة التحضيرية للمؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي الاشتراكي ، ثم عضواً في القيادة القطرية للحزب وعضواً في مكتبه السياسي حتى حل الحزب نفسه بقيام الجمهورية العربية المتحدة .. لكنه لم يعد إلى الحزب بعد الانفصال بل سعى لتشكيل تياراً وحدوياً لإعادة الوحدة واستقال من الحكومة التي تشكلت بعد 8 آذار ( مارس ) 1963 بعد تعثر إعادة الجمهورية العربية المتحدة، وأسس الاتحاد الاشتراكي العربي الذي يضم كافة الفصائل الوحدوية وهكذا …

       يذكر جمال الأتاسي أنه وفي عام 1954 حدث اجتماع في بيروت ضمه إلى جانب ميشيل عفلق وصلاح بيطار وكمال جنبلاط ، وكان اللقاء لتقييم الوضع في مصر بعد إبعاد محمد نجيب حيث اقترح كل من ميشيل عفلق وكمال جنبلاط إرسال برقية مشتركة باسم حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب التقدمي الاشتراكي، إلى جمال عبد الناصر آملين فيها أن ينص دستور مصر الذي يجري إعداده على الانتماء القومي العربي لمصر وعلى الالتزام بقضية الوحدة العربية … يقول جمال الأتاسي … لكن جمال عبد الناصر كان سباقاً إلى ذلك فقد خرج الدستور وهو ينص على أن مصر جزء لا يتجزأ من الأمة العربية …قبل أن تصل البرقية…….

       إن جمال الأتاسي لم يتردد في كشف ما يراه خطأ … فنراه يقول : ” قد تكون إحدى ثغرات جيلنا والتي كنا نغفلها ..أن العقلية السائدة هي العقلية النخبوية ، فهذا القصور يتمثل في التصور الصوري للمسألة : فما دمنا نمتلك الوعي ونمسك بالحقيقة ونخلص للقضية فإن الشعب سوف يندفع وراءنا … ولم ندرك أن الشعب لن يفعل ذلك إلا إذا ارتبطت به الطليعة ارتباطاً عضوياً .. إن الجماهير في الوحدة والانفصال تحركت عضوياً … بينما القيادات الوحدوية بمعزل عنها كانت أسيرة عقليتها النخبوية …” .

       ويضيف : ” لقد كانت المشكلة بالنسبة لنا منذ البداية هي كيفية صياغة حركة تستوعب التفاعل بين زعامة تاريخية تستقطب الجماهير، وبين عملية تأطيرها واستيعاب وجدانها ، إن هذه الجماهير كانت عيونها معلقة على القاهرة ودولة عبد الناصر، وكانت هذه الدولة غير ثورية – صراعات بين الأجهزة ، عقلية عسكرية تريد أن تسيطر ، قوى قديمة الخ …– وكانت قيادة عبد الناصر الثورية لا يمكنها أن تكشف كل شيء أمام الجماهير إلا في حينه … و مثلما غاب الوسيط – التنظيم  الثوري– بين القائد، وشعبه في مصر … مثلما كانت المشكلة، أفدح، هنا في سورية .. لغياب هذا الوسيط ولتواجد القيادات، هنا، وهناك التي تركب الموجة، وتدعي الانتماء لفكرة، وثورة ناصر … أتت النكسة ثم رحل عنا جمال عبد الناصر، وأصبحت المعاناة واضحة بصورة أفدح، وأحس الشعب بالضياع … وراحت القيادات الناصرية، بدلاً من سد فراغ الزعيم بقيادة طليعية ثورية، تتحدث عن المخلص المنقذ … وتعددت المراهنات .. واغفل الحل النضالي.. والارتباط بالجماهير وبناء التنظيم.. “

 

إن جمال الأتاسي لم يكف عن الحديث المتعلق بالمستقبل وبالتغيير   فيقول: ” في ظل غياب عبد الناصر .. لا يمكن سد هذا الفراغ الكبير إلا بقيادة قوى طليعية … جيل ثوري متماسك، له هدف، وإطار ناظم ، ولهذا، فإن الجيل الذي نشأ بعد النكسة، وبعد حركة الردة، ونشعر به يتحرك في أرجاء الوطن العربي منوط به هذا الدور ..إنه جيل يتحدى اليأس أيضاً، لأننا رجعنا لمواقع ما قبل الثورة ،وإن كان ذلك بصيغة أخرى ، فالإقليمية عادت، والمصالح الضيقة برزت … ويعاد صياغة نمط جديد من الرأسمالية ينهب الداخل، ويصب في الخارج .. مستعمرين من داخلنا بسيطرة واستبداد النظم، ومن الخارج بالتبعية الثقافية والاقتصادية ، هذا الجيل الجديد، مطالب بتحدي اليأس، وهو يحمل إرادة التغيير ، ودور جيلنا أن ننقل إليه الوعي بتجربتنا … وننير له حقائق المرحلة التي عاصرناها مع عبد الناصر بسلبياتها كما نراها نحن، لا كما تراها قوى الردة .. وإيجابياتها العظيمة دون ان نلوي الحقائق أو ندعي ما لم يكن ، علينا أن نعطي تجربتنا، ونتواصل مع هذا الجيل الجديد لأن الإنسان الثوري، لا تنطبق عليه هذه التسمية إلا إذا كان في تواصل ذاتي مع نفسه ، وفي تواصل مع الأجيال التالية .. أن ينقل تجربته ومعاناته للجيل الذي يأتي من بعده … إن هذا الجيل الجديد مطالب بالثورة.. فالوضع الراهن لا يمكن أن يتغير، بمجرد إصلاحات، وتعديلات في هذا الواقع العربي أو ذاك … بل بحاجة إلى ثورة جذرية … وهناك الشعب الذي أعطى من قبل ويمكنه أن يعود ويعطي من جديد …

       أما بعد، فإن الحديث عن جمال الأتاسي لا ينتهي، وبالتالي لابد من اتخاذ قرار تعسفي بوقفه … ولو كان ذلك إلى حين … وصباح الياسمين يا دمشق …!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى