مَنْ الذي أطلق عليها لقب كوكب الشرق؟
في العام 1931 ذهبت أم كلثوم لتغني في فلسطين، في حيفا تحديدًا (كانت عربية خالصة) غنت في مقهى الشرق، فانتشت سيدة حيفاوية فصاحت:” أنت كوكب الشرق”.
ومن يومها أصبح للقلب شهرة الاسم (فتأمل قصة العروبة في حياة الست).
قبل أشهر نشرت الهيئة العامة لقصور الثقافة النسخة المصرية من رواية ” النبيذة ” للعراقية الكبيرة إنعام كجه جي، والذين طالعوا الرواية يعرفون أن أبطالها الرئيسون ثلاثة، هم الإيرانية تاج الملوك، والعراقية وديان الملاح، والفلسطيني منصور البادي، ولكن تلك قراءة متعجلة، فهناك بطل رابع هو صوت أم كلثوم.
تقول البطلة العراقية: لن أعرف رجلًا لا يعرف أم كلثوم، ولن أتزوج برجل لا يحب أم كلثوم.
أما البطلة الإيرانية التي تعيش بالعراق وتعمل بالصحافة فقد أجرت حوارًا مع أم كلثوم، ثم كتبت وصفًا تفصيليا لحفلتها بالعراق في العام 1946.
تقول تاج الملوك ما ملخصه: هبطت طائرة خاصة
في مطار “الحبانية” نزلت منها أم كلثوم التي لبت دعوة لتغني في حفل عيد ميلاد ملك العراق فيصل الثاني.
غنت كوكب الشرق فسكر العراقيون بصوتها، كانت الإذاعة العراقية تنقل الحفل على الهواء، أرادت الست مداعبتهم فغنت يا ليلة العيد وفي ختامها غنت:
“يا دجلة ميتك عنبر
وزرعك على العراق نوّر
يعيش فيصل ويتهنى
ونحيي له ليالي العيد”.
بعد الحفل مباشرة قال الأمير عبد الإله الوصي على العرش العراقي: “لو أني وزعت على كل عراقي هدية ذهبية لما استطعت أن أدخل السرور على قلبه كما فعلت الليلة أم كلثوم”.
ثم قال توفيق السويدي -أحد رؤساء الوزارات العراقية -لأم كلثوم: “يا آنسة من حقنا أن نقبض عليك الليلة بتهمة سرقة قلوبنا”.
وقبل أن تعود كوكب الشرق إلى القاهرة عدل العراقيون قوانينهم لكي يتم منحها وسام الرافدين، أعلى وسام عراقي، ولم يكن يمنح إلا للرجال وها هو يتشرف بأن يزين عنق فلاحة مصرية.
العراق ليس كغيره، العراق ليس بلدًا والسلام، العراق ليس عابرًا، العراق كما قال شاعر صديق: إنه البلد الذي علمنا أوزان الشعر وعلمنا كيف نرفع الفاعل وننصب المفعول.
وعندما يصبح صوت أم كلثوم بطلًا من أبطال رواية عراقية فهذا يلقي على الكلثوميين مسئولية البحث عن عبقرية هذه السيدة الفلاحة المصرية التي جمعت كل العرب من موريتانيا غربًا إلى البحرين والعراق شرقًا، ومن سوريا شمالًا إلى السودان جنوبًا، كل العرب هم صوت أم كلثوم وأم كلثوم هى صوت كل العرب.
ثمانية حكام
في العام 2010 طرح الكاتب الأستاذ سعيد الشحات
الطبعة الأولى من كتابه” أم كلثوم وحكام مصر”
ثم طرح نسخة مزيدة ومنقحة من الكتاب ذاته وصلتني قبل أسابيع، وليته تمهل وقرأ رواية إنعام، ولكن هذا من تمني المستحيل فكتابه يسبق كتاب الأستاذة إنعام بعشر سنوات.
سأطمئن نفسي بأن كتاب الشحات هو الجزء الأول من قصة أم كلثوم مع حكام عصرها من عرب مصر أو عرب الجزيرة أو عرب الشام أو عرب الأطلسي.
في مستهل كتابه يبحث الأستاذ الشحات عن تاريخ ميلاد قاطع لأم كلثوم، ولكن بحثه لم يصل لليقين الذي يريده، فقد وجد أربعة جوازات سفر، وكل جواز مثبت به تاريخ ميلاد مختلف!
ولكن التواريخ تبدأ من عام 1898 وهو أقدم التواريخ وما يميل الشحات لتصديقه وتنتهي بتاريخ 1908، وهو تاريخ مشكوك في صحته.
فائدة البحث عن تاريخ الميلاد ستظهر في قائمة الحكام الذين عاصرتهم أم كلثوم، وهم، عباس حلمي الثاني، السلطان حسين كامل، الملك فؤاد الأول، الملك فاروق الأول أحمد فؤاد ابن الملك فاروق الرئيس محمد نجيب، الرئيس جمال عبد الناصر، الرئيس أنور السادات.
هؤلاء الثمانية عاصرتهم أم كلثوم من طفولتها حتى رحيلها، وكان الشحات مهتمًا، ومعه كل الحق بالنظر إلى وجودها في عهود فؤاد وفاروق وناصر والسادات.
بدايات الصعود
في عهد الملك فؤاد الأول بلغ صوت أم كلثوم تمام نضجه، ولكن في مجال الشهرة كانت تحبو نحو قمة تتربع عليها منيرة المهدية، وكان جلالة الملك لا يعرف العربية ولذا لم يظهر اهتمامًا بغناء أم كلثوم أو غيرها وهذا على خلاف ما كان عليه والده الخديوي إسماعيل الذي كان محبًا لعبده الحامولي بل ومتبنيًا لمشروعه الغنائي والموسيقي.
بعد رحيل فؤاد تربع على عرش البلاد الملك فاروق الأول، وفي سنوات حكمه أصبحت أم كلثوم هي المطربة الأولى.
يفتح الشحات قوسًا افتراضيًا لكي يحلل بداخله أسباب الصعود الكلثومي، يهمنا منه الآن وهنا أن أم كلثوم كانت واعية ولو بفطرتها لطبيعة علاقة الفن بالسلطة، لا تقترب فتحترق ولا تبتعد فتنسى، بل قد تُحارب.
غنت أم كلثوم لفاروق كما غنى غيرها، وللحق فإن فاروقًا كان محبوبًا في فترة حكمه الأولى وكانت المواليد تتسمى باسمه للإعراب عن المحبة والتقدير، ولكن جرت في النهر مياه كثيرة أدت إلى قيام حكومة الوفد برئاسة النحاس باشا بفرض ما يشبه الحصار على فاروق، وذلك بعد حادثة 4 فبراير وحصار المحتل الإنجليزي للقصر الملكي بالدبابات، هنا لجأ فاروق إلى الاحتماء بجماهيرية أم كلثوم فقد ظهر فجأة في حفلها المقام بالنادي الأهلي فجاملته هي وبدلت كلمتين من كلمات أغنيتها الخالدة يا ليلة العيد وذكرت اسمه في الأغنية
كانت أغنية يا ليلة العيد وهي من تأليف رامي والحان السنباطي من أغنيات فيلم ” دنانير” وفي الفيلم تغني أم كلثوم لهارون الرشيد ولجعفر البرمكي فتقول
يا دجلة ميتك عنبر
وزرعك في الغيطان نور
يعيش هارون يعيش جعفر
ونحيلهم ليالي العيد.
أمام الملك غنت ” يعيش فاروق ويتهنى .. ونحيي له ليالي العيد”
تلك اللفتة من أم كلثوم جعلت فاروق ينعم عليها بوسام الكمال.
انقلاب البرجوازية
لم يمر الوسام مرور الكرام، فقد أغضب منحه لأم كلثوم أميرات القصر وسيدات المجتمع اللاتي سبق لهن الحصول على الوسام، بل غضبت النساء اللاتي لم يحصلن على الوسام، ولكنهن يحلمن به فأم كلثوم في نظرهن لا تتجاوز كونها مطربة قادمة من الفلاحين.
كانت معركة ملتهبة، ولم تساند سيدة أم كلثوم سوى أم المصريين السيدة صفية زغلول.
من ناحيته لم يكن الملك مدركًا أن أم كلثوم تسعى خلف فنها فقط ولا تحلم بأي دور إضافي، ولذا غضب منها أشد الغضب عندما شاهد صورة لها وهي تجالس زينب الوكيل زوجة عدوه مصطفى النحاس.
وقد حاول رجال القصر إقناع الملك بأن أم كلثوم فنانة وليست من موظفات القصر بحيث تقاطع من يقاطعه القصر وتصالح من يصالحه ولكن الملك ظل على غضبه.
ما يؤكده الشحات أن انتماء أم كلثوم كان هناك في منطقة قصية عن الاهتمام الملكي.
حفل للثوار
عرفت أم كلثوم ثوار ثورة يوليو قبل ظهورهم بأربع سنوات كاملة، وقدمت لهم كل ما تستطيع من دعم!
في العام 1948 كانت حرب فلسطين الأولى، وكان ابن شقيقة أم كلثوم من ضباط الجيش، فكان وجوده سببًا إضافيًا لاهتمام أم كلثوم بمجريات الحرب، ثم حدث حصار الفالوجة، واجتمع المحاصرون ليطلبوا مطالب تخص عمليات القتال من العاصمة، ولكن مطالبهم لم تجد أذنًا صاغية، فقرروا أن يطلبوا من أم كلثوم أن تغني لهم أغنية ” غلبت أصالح في روحي “
فكتبوا بذلك لحيد باشا الذي نقل رسالتهم إليها، فقامت بتلبية مطلب المحاصرين وغنت الأغنية في حفل عام.
كان عبد الناصر هو صاحب اقتراح الرسالة لأم كلثوم، وكان رفاقهم متشككين في استجابتها ولكن عبد الناصر كان واثقًا بتلبيتها لمطلبهم، وعندما غنت صاح في رفاقه” قلت لكم ستغني، لأنها بنت جدعة”.
وعندما عاد المحاصرون إلى حضن الوطن قفزت أم كلثوم قفزة خرافية في إعلان انتمائها لهؤلاء، فقد قامت بتوجيه الدعوة للضباط والجنود لحضور حفل شاي في بيتها، ووجهت الدعوة لحيد باشا أيضَا، اعتذر الباشا وقال” لا أرى ضرورة لحضور الضباط والجنود”، ولكن أم كلثوم أصرت على حفلها، وبالفعل جاء الضباط وعلى رأسهم السيد طه وهو المشهور باسم الضبع الأسود، وكان من بين الحضور جمال عبد الناصر، وكان هذا هو اللقاء الأول بين أم كلثوم وعبد الناصر.
المخاطرة الكبرى
في فترات الانتقال والثورات يلجأ كثيرون إلى الإمساك بالعصا من منتصفها، فلا أحد يعرف اتجاه الريح، ثم عنما تستقر السفن يعلنون عن مبايعتهم للقبطان الناجح!
أم كلثوم لم تكن من هؤلاء.
يبرع الأستاذ الشحات في تسجيل تلك اللحظات معتمدًا على شهادات حية موثقة أدلى بها مختلف الأطراف.
كانت أم كلثوم تصطاف في الإسكندرية، وأبلغها ابن شقيقتها بخبر ثورة يوليو، فقررت العودة إلى القاهرة فورًا، وتلك مخاطرة لا شك فيها لمن كانت في مكانتها، فقد تفشل الثورة، فيتم التنكيل بكل داعميها.
ولكن أم كلثوم لم تلتفت لتلك المخاطرة، فعندما قابلها الوزراء في المطار سألوها: لماذا تعودين الآن إلى القاهرة؟
فما كان منها إلا أن ردت: بل لماذا تعودون أنتم؟
هبطت الطائرة في القاهرة ولم تذهب أم كلثوم إلى بيتها، لقد ذهبت لدعم الثورة، توجهت إلى مقر الجيش بكوبري القبة، وهناك رأت عبد الناصر للمرة الثانية.
إن لم تكن القصة قصة انتماء لكانت أم كلثوم قد اكتفت بتلك المخاطرة، فهي تدعم ثورة في يومها الأول ولا أحد يعلم مصيرها.
وبعد ذلك الدعم غنت فورًا من كلمات رامي ” مصر التي في خاطري”
هذا الموقف سيربط بينها وبين عبد الناصر إلى الأبد.
يسجل الشحات كيف أصبحت علاقتها به علاقة عائلية، فهو يزورها في بيتها وهي تزوره في بيته وتصادق زوجته وتحتضن أولاده في قلب أزمة العداون الثلاثي.
ثم عندما رحل كانت هي في موسكو لإقامة حفل، ولكنها فضت حفلها فقد مات ابنها البكر، فلم تصبح ثاكلة بل أصبحت يتيمة، فقد كان يلعب في حياتها الدورين معًا دور الابن البكر ودور الأب الحامي.
ثم ستصفو أيام الشحات لكي يطلع علينا بالقصة كاملة على امتداد وطننا العرب الكبير الذي كانت أم كلثوم صوته المعبر الموحد.
المصدر: صوت الأمة