محمد عبد القهار؛ روائي مصري متميز، هذه اول رواية أقرأها له. سراي نامه؛ رواية تغوص عميقا في مرحلة محددة في التاريخ العثماني الممتد لمئات السنين، انها تتحدث عن مرحلة السلطان أحمد الذي اشتهر في التاريخ بكونه أراد أن يخلّد ذاته عبر إنجازات كثيرة، أهمها بناؤه لجامع السلطان احمد كتحفة فنيّة معماريّة في اسطنبول في مواجهة آيا صوفيا التّحفة البيزنطية. السلطان احمد وجاريته الأشهر “كوسيم” التي أنجبت له عدد من اولاده الذين سيكونوا من سلاطين بني عثمان. الرواية تعتمد أسلوب السرد بلغة المتكلم لكل ممّن عاصر وشارك تلك المرحلة وكان مشاركا أو شاهدا عليها. مع بعض النصوص الصغيرة المعبّره ضمن السياق العام. تسير الرواية في تسلسل زمني يتابع الأحداث مع تبدّل في الشخصيات التي تتحدث متابعة ذاتها في السياق العام المتصاعد لبلورة الحدث الروائي وإيضاح تلك المرحلة التاريخية، والصراعات ضمن العائلة العثمانية الحاكمة، ودور الجواري والعبيد والائمّة وقيادات العسكر..الخ، والظروف التاريخية المحيطة، بداية الصراع بين الصفويين والعثمانيين، والصراع مع الغرب الأوروبي، كل ذلك مع الغوص عميقا في الذوات الانسانية للشخصيات كلها، في محاولة لفهم ومعرفة لماذا يتصرفون بهذا الشكل ؟ وكيف ؟، وعبر تكامل كل ذلك نكون قد دخلنا من بوابة الزمن الماضي وعشنا تلك المرحلة بكل خصوبتها وصراعاتها وسلبياتها وايجابياتها، الامال والالام وخرجنا في نهاية الرواية متشبعين منها، حاملين كثيرا من المعلومات والعبر.
تبدأ الرواية من اللحظات الاخيرة قبل موت السلطان احمد، الكل يتحرك في السرايا وينتظر ماذا سيحصل بعد ذلك؟، من سيكون السلطان الجديد؟. السلطان أحمد الذي كان قد ورث العرش عن أبيه، وله أخ يصغره مصطفى، كان أمام قانون محمد الفاتح الذي يقرر أن على السلطان الجديد أن يقتل كل إخوته الذكور، احتياطا لكي لا يطمع أحدهم بالسلطنة يؤدي لفتنة تقوّض سلطان آل عثمان، والد أحمد كان قد أصبح سلطانا وخرج من القصر جثمان تسعة عشر أخا قتلوا معززين مكرمين، خرجوا من باب السلام لقصر توبكابي مركز الحكم، احمد يحب أخاه مصطفى الصغير ويراه دائما أقرب ليكون ابنه، ومصطفى خائف أن ينفذ به الحكم السلطاني بالقتل ليكون سلطان أحمد دون منافس، لكن أحمد لا يقتل أخاه لكنه يحجزه في جزء من القصر، كنوع من الإقامة الجبرية، احمد ينجب من إحدى جواريه ابنيه عثمان ومحمد، ومن ثم ينجب من جاريته كوسيم بقية أولاده. مصطفى يعيش هاجس الخوف من القتل كل الوقت، المحيطين به ينظرون إليه على أنه مجنون، اما هو فيعيش في حالات تصوف ووجدانيات يرى نفسه في عوالم مختلفة عبر تجليات كثيرة، احتجازه أصبح أشبه بواحة صغيرة، يهرب من خلالها من مشاكل الحكم و دسائسه و مشكلاته، لكن مصطفى بالنسبة لأي سلطان قادم وجواريه وأولاده الذكور، منافس محتمل يجب الحذر منه دوما، مشكلته في أمه هاندان التي تعمل كل الوقت و تحيك الدسائس ليكون ابنها السلطان. احمد على فراش الموت عادت امّ مصطفى مجددا تحمسه ليكون السلطان الجديد فهو أكبر ذكور نسل سلاطين آل عثمان وحقه بالسلطنة لا ينافسه عليه احد، هناك اخويه عثمان ومحمد الذين بدأ يدخلان في سن النضج، وهناك كوسيم التي تعمل لحماية أولادها من القتل، وليكون كبيرهم مراد على صغر سنه السلطان ولو بعد حين. في القصر أحزاب وجماعات مصالح. في القصر هناك المستشارون على اختلاف مراتبهم، والمعلمين المتفرغين للامراء والذين يصبحون أقرب الناس إليهم، يصنعون عقولهم وطموحاتهم، و يشاركوهم التخطيط لمستقبلهم وفي صناعة الدسائس وممارستها. في القصر الحريم السلطاني جيش من الجواري والاهم منهم من تنجب من السلطان ومن تنجب ذكورا، في القصر أيضا جيوش من العبيد المخصيين الذين يصبحون مع القدم أدوات السلطة والعارفين بكل تفاصيل البيت السلطاني والمشاركين في دسائسه. حول السلطان يلتف قادة العسكر الانكشارية، وقادة الخيالة السباهية، وهناك شيخ الاسلام وقاضي القضاة وطبقة العلماء. الكل منخرط في الحكم ومرتب مساره ضمن تحالفات محدّدة مع وضد. مات السلطان احمد والجارية هاندان ام مصطفى تدخل على ابنها وتدفعه للتقدم للسلطنة، هو خائف ينتظر القتل، مسكون في تجلياته وأحلام اليقظة، ومع ذلك تسعى امّه ليكون سلطانا، ويتوج على عرش السلطنة، ويكتشف الكل اختلال مصطفى ويفشل بإقناع الناس والقوى المسيطرة على القصر بجدارته، فيتم اقصاءه عن السلطنة لجنونه عبر فتوى من شيخ الاسلام. ويأتي الى السلطنة أكبر أولاد احمد ابنه عثمان، شاب في مقتبل العمر في العقد الثاني، يأتي الى الحكم وهو ممتلئ بنماذج السلاطين الفاتحين جاء يحمل أمانيه بأن يعود لعصر الفتوح وخروج السلطان من قصره وحريمه وحياة الرفاهية والصراعات النسائية الخفية الى رحاب الفتوحات والحروب على كل الجبهات. كان همّ كوسيم ام اخوته الاخرين ان ينزاح مصطفى من طريق ابنائها للسلطنة، وان يلتزم عثمان بعدم تفعيل قانون قتل السلطان لاخوته، لذلك بدأت تحيك المكائد وتجمع حولها الخصيان المتنفذين وقيادات العسكر ورجال الدين. السلطان عثمان الجديد بدأ عصره بالاستجابة لواليه على البلاد المجاورة لبلاد فارس، التي كان قد استقل بها الشاه اسماعيل الصفوي، واعلن عدم تبعيته للدولة العثمانية، وكان قد اختار المذهب الشيعي، معليا شأن الفرس والشيعة، ومبررا الصراع مع العثمانيين، بأنه صراع الشيعة انصار اهل البيت ضد السنة النواصب، وأنه صراع الفرس في مواجهة الترك. جهز عثمان جيشا كبيرا، متحديا كل الظروف ورغما عن تمنّع قادة العسكر وخاض حربا ضد الصفويين، كانت له الغلبة فيها، لكنها لم تقض عليهم، انتهت المعركة وكل يعمل لحرب قادمة بين العثمانيين والصفويين. وما أن انتهت المعركة على جبهة فارس حتى جهّز عثمان نفسه وجيشه من أجل الحرب على جبهة النمسا، كانت معركة طاحنة وضع بها كل قواته، وتجمع جيش النمسا وهنغاريا لصد جيش عثمان، كاد ان ينتصر عثمان، لكن صراع قادة الجيوش واختلافاتهم جعلت الجيش مشتت، البعض هجم مع السلطان الذي كان على رأس جنده وتابع المعركة والبعض انسحب وادى ذلك للهزيمة. عاد عثمان إلى إسلامبول وقد توطد داخل نفسه قرار أن يقضي على الانكشارية، فقد أصبحوا دولة مسيطرة على الدولة، يفضلون حياة اللهو والدّعة ولا يتقبلون خوض الحرب، لقد اصبحوا جسما سرطانيا في السلطنة العثمانية ويجب استئصالها. كان قادة الانكشارية على علم بذلك وأعدوا العدة لمواجهة السلطان الغض عثمان، تدعمهم كوسيم التي وجدتها فرصة ينزاح خلالها عثمان من طريق أولادها، كذلك اختلاف الأمير محمد الأخ الشقيق مع عثمان حول صحة هذا الإجراء وامكانية تحققه، وأن ذلك قد يضر بالسلطان و بالسلطنة كلها، لم يعجب موقف محمد الذي يعتبر ولي العهد أخيه السلطان عثمان واختلفا، فقتل السلطان عثمان اخيه محمدا خوفا ان يتزعم حركة تمرد ضده، وهكذا بقي عثمان وحيدا وحصلت كوسيم على مغنم جديد وهو مقتل محمد وازاحته عن منافسة اولادها للوصول الى السلطنة، زادت دعمها لداود قائد الانكشارية ووعدته أن يصبح صدرا اعظم ان هو ساعدها بالقضاء على السلطان عثمان. كان الصراع بين عثمان والانكشارية أصبح علنيا، حاول عثمان أن يخرج الى مكة للحج كمبرر ليبعد عن اعدائه وأن يحضر مناصريه للقضاء على الانكشارية، لكن شيخ الإسلام افتى بمنع سفر السلطان وتحضر الانكشارية لمهاجمة قصر السلطان ومن ثم الوصول اليه وقتله. حصلت كسيم على مبتغاها بوصول السلطنة الى ابنها الأكبر مراد، لكنه صغير وهي الوصية الفعلية عليه، اننا امام افتتاح عصر السلطانة كوسيم التي استعانت ببعض القادة للتخلص من بعضهم الآخر، مثل داوود قائد الانكشارية الذي قتل السلطان عثمان، حيث بدأ يفكر لصالح نفسه وكان لا بد من قتله وقتل.
هنا تنتهي الرواية. وفي تحليلها نقول:
اننا امام رواية تستحضر التاريخ بروحه و ظروفه، البشر فيها حاضرين بذواتهم وظروفهم وآمالهم، الظرف العام المحيط بالدولة العثمانية الدولة الصفوية شرقا والدول الأوروبية غربا، تلافيف الصراعات في الدولة العثمانية بكل ما فيها من عراقة ومكائد، الحكم الذي أصبح سيد كل شيء، الشعب الذي أصبح وقود السلطة وعسكرها وجندها، الشخصيات مفهومه كل ضمن شروطه الذاتية، السلاطين وجنون الحكم، عثمان وحلمه باستمرار الغزو والفتوحات، معيدا أمجاد أجداده المؤسسين للسلطنة العثمانية، الجواري وعالمهم المغلق وتحولهن ليكنّ جزء من مكائد القصر وصنّاع له أيضا، العبيد المخصيين المتدرجين بسلم القوة والسطوة والعنف وطموحاتهم القاتلة، المعلمين الذين يحولون أبناء السلاطين أبناء حقيقيين لهم، وهم أباء بدائل عن السلطان المنشغل عنهم، كل معلّم ورسالته، من يعبد القوة، ومن يحمل رسالة الخير والعدل وضرورة تمثل السلطان القادم بها، قادة العسكر الطموحين، العسكر الذين تحولوا لمهنة لا تهتم إلا بمكاسبها وسطوتها. للكل حضور، وضمن هذه المعادلة وتفاعلاتها كانت السلطنة العثمانية تتحرك لتصنع تاريخها، ومن هذه المعطيات بدأت تتشكل بذور انهيار الدولة، حيث أن لكل حكم لا يركز على الصالح العام وحقوق جموع الناس وتحقيق حياتهم الافضل، وحيث يفكر بمصلحة أهل الحكم ويتم استغلال الناس والبطش بهم، لا بد حين اذن من سقوط الدولة مهما وصلت من توسع ومجد في زمان ماض. اقترن ذلك مع التطور العلمي للغرب الذي كان كل الوقت في السلطنة العثمانية عدوا له، وعندما تقدم الغرب الى مرحلة الانتقال ليصنع امبراطوريته عبر العالم، كانت الدولة العثمانية انحدرت الى مرحلة كانت نهايتها في مطلع القرن العشرين حيث تم تقاسم تركتها بين الدول الأوروبية المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى، و لندخل في عصر جديد ما زلنا نعيش نحن العرب في تبعياته، دول سايكس بيكو، وحكومات الاستبداد العربية التي حاول الشعب العربي بعد قرن على سقوط العثمانيين أن يصنعوا حريتهم ويبنوا دولة العدالة والديمقراطية ولم يتمكنوا للآن، والصراع مستمر.