نكسة علم الاقتصاد أم إقطاع شرقي في سورية

مسلم طالاس

يحار كثير من الاقتصاديين وطلبة الاقتصاد الذين يحصلون على الحد الأدنى من المعرفة الاقتصادية في مسألة إمكانية تطبيق مفاهيم وأدوات تحليل علم الاقتصاد على الحالة السورية، ويشعرون بكثير من التناقض والاغتراب بين ما تعلموه وبين الواقع السوري، ويصل كثيرون إلى اليأس في إمكانية استخدام التحليل الاقتصادي لفهم الفعالية المعاشية السورية.
وعلى سبيل المثال، قد تجد شركات لا تعرف الربح لكنها تستمر لسنوات وتتوسع في الاستخدام والاستثمار، وقد تجد شخصا يتحول إلى مستثمر كبير بين ليلة وضحاها. ونتيجة لعجز أدوات علم الاقتصاد عن تحليل الاقتصاد السوري فقد وصل الأمر خلال السنوات الماضية للمطالبة من قبل كثير من الأصوات بإغلاق أقسام الاقتصاد في كليات الاقتصاد (تشمل كلية الاقتصاد عدة أقسام إلى جانب علم الاقتصاد مثل المحاسبة والإدارة والتسويق….) لعدم وجود الإقبال عليها وعدم جدواها.
وهنا التساؤل يطرح لماذا هذا الفشل الذريع لعلم الاقتصاد في سوريا؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن نوضح رؤية مبسطة لما يعنيه علم الاقتصاد.
لكل علم موضوعه الخاص. هو ظاهرة اجتماعية أو طبيعية. مثلا موضوع الفيزياء هو ظاهرة حركة الأجسام، وعلم الاجتماع ظاهرة الاجتماع البشري، والكيمياء ظاهرة تفاعل المواد…..إلخ. ينطبق هذا الأمر على علم الاقتصاد. ببساطة يدرس علم الاقتصاد الظاهرة الاقتصادية. والمسألة الجوهرية في الظاهرة الاقتصادية هي المشكلة الاقتصادية. لكن الظاهرة الاقتصادية ليست فقط المشكلة الاقتصادية وإنما هي المشكلة الاقتصادية والآليات الاقتصادية التي تستخدم لها. رافقت المشكلة الاقتصادية البشرية منذ وجودها وتتمثل في أن الحاجات البشرية (على مستوى الأفراد والجماعات) هي غير متناهية ومتطورة باستمرار بينما الموارد المتاحة للاستخدام في تلبية تلك الحاجات محدودة جدا. وهذا ما يطرح ضرورة عقلنة استخدام تلك الموارد المحدودة لتلبية الحاجات غير المحدودة يظهر منطق ما يرتب أولويات الحاجات التي يجب تلبيتها وكيفية ذلك، ويوجه الفعاليات المعاشية: الإنتاج والتبادل والتوزيع والاستهلاك. يكمن في جوهر المنطق الذي يوجه الفعاليات المعاشية ثلاثة أسئلة جوهرية هي: ماذا ننتج (كم ننتج ونوعه)؟ وكيف ننتج (مستوى تقنيات الإنتاج الفنية والإدارية)؟ ولمن ننتج (من سيحصل على حصيلة العملية الإنتاجية أي التوزيع بين فئات المجتمع)؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة يتم بثلاث طرق، ينتج عنها ثلاث نظم معاشية (تسمى تجاوزا نظما اقتصادية).
الطريقة الأولى وهي ذات طابع اجتماعي، وتسمى الطريقة التقليدية، أي ننتج بكميات وكيفية آبائنا وأجدادنا ونوزع بطريقتهم. على سبيل المثال الفلاح يرث الفلاحة من والده ويسير على نهجه، وحصة زعيم العشيرة من الناتج كذلك الأمر تحدد حسب التقاليد..إلخ. وهنا ليس هناك أي خصوصية للظاهرة الاقتصادية بل تتبع التقاليد الاجتماعية.
الطريقة الثانية: وهي ذات طابع سياسي، وتسمى الطريقة الأوامرية، حيث إن هناك جهات مركزية في الدولة (هيئات تخطيط على سبيل المثال) هي التي تصدر الأوامر بما سينتج؟ وكيف؟ وطريقة توزيع الناتج في المجتمع. ونجد هنا أيضاً أنه ليس هناك تبلور للظاهرة الاقتصادية بل تتبع منطق السلطة المركزية وأوامرها.
الطريقة الثالثة: هي ذات طابع اقتصادي، باعتبارها تشير إلى آلية منفصلة عن التقاليد الاجتماعية والأوامر السلطوية في الإجابة على الأسئلة، وهنا نشير إلى آلية السوق. حيث إن التفاعل بين العرض والطلب وما ينتج عنه من تقلبات في الأسعار هو الذي يحدد ما الذي سينتج وكيف ولمن. وهذه الآلية هي إشارة لتبلور الظاهرة اقتصادية بمنطقها (الاقتصادي الخاص) في حل المشكلة الاقتصادية. ونظام السوق هو النظام الذي يمكن تسميته بدقة بأنه نظام اقتصادي.
في الواقع قد نجد بعض التداخل بين هذه النظم لكن هوية النظام تتحدد على أساس ما يغلب عليه من سمات، بمعنى يمكن أن نجد في نظام السوق بعض الفعاليات التي تسير بمنطق التقاليد أو الأوامر السلطوية، لكن الغالبية الساحقة من الأنشطة يسيرها منطق السوق. وقد نجد نظاماً أوامرياً فيه بعض الفعاليات الخاضعة لمنطقة السوق أو التقاليد.
إن علم الاقتصاد مرتبط بظاهرة الاقتصاد، وظاهرة الاقتصاد تبلورت مع سيطرة منطق السوق على الفعاليات المعاشية (أي لدينا مشكلة اقتصادية ومنهجية اقتصادية خاصة في حلها هي آلية السوق). ورغم أنه لا يمكن أن نحدد توقيتاً زمنياً محدداً لتبلور الظاهرة لكن القرن الثامن عشر هو قرن حاسم في هذا المجال، وهو القرن الذي شهد في منتصفه صدور كتاب مؤسس علم الاقتصاد آدم سميث “ثروة الأمم”. إن كانت هذه رؤيتنا لعلم الاقتصاد، هذا يعني إنه يمكن استخدام علم الاقتصاد في دراسة وفهم الظاهرة الاقتصادية، أي أنه يمكن أن يستخدم لدراسة الفعالية المعاشية للمجتمع عندما تتبلور كاقتصاد، أي بتحديد أكبر عندما يكون السوق هو الضابط الأساسي للفعاليات المعاشية. بغير ذلك لن يكون هناك مادة اقتصادية يمكن أن يعمل عليها علم الاقتصاد.
نعود للحالة السورية وفشل علم الاقتصاد في التعامل معها ونقول بأننا يجب أن نطرح سؤالاً مهماً هو هل هناك ظاهرة اقتصادية في سوريا، أي هل الفعالية المعاشية للمجتمع السوري محكومة بمنطق السوق؟
بالنسبة للدولة السورية التي أسست في عشرينات القرن الماضي فإنها ورثت مخلفات الإقطاع الشرقي (العثماني)، حيث الدولة هي المالك الأساسي لوسيلة الإنتاج الأساسية (الأرض) وتوزعها لرجالاتها للتصرف بها حسب ولائهم وخدماتهم، وذلك لم يكن يعني التملك تماماً، بل إن السلطان كثيراً ما كانت تعيد مصادرة تلك الممتلكات. قام الانتداب الفرنسي بإدخال بعض التحديث الرأسمالي (السوق) إلى سوريا. بعد الاستقلال عاشت سوريا بدرجة كبيرة على إرث التحديث الفرنسي تقريبا لغاية انقلاب البعث عام 1963، وبعد ذلك بدأ الانتكاس ثانية إلى منطق الإقطاع الشرقي حيث بدأت الدولة تتملك وسائل الإنتاج الأساسية بالتدريج، التي أصبحت الآن هي الأرض ورأس المال، ولاحقاً وجدت طرق مختلفة ومحدثة نوعاً ما لمنحها فرص الاستفادة لرجالاتها ومواليها.
أزعم أن الفعالية المعاشية السورية تدار بمنطق الإقطاع الشرقي، الذي أدخلت عليه بعض مظاهر التحديث والعصرنة، من دون الانتقاص من الجوهر. هذا الجوهر هو أن الفعالية المعاشية تدار بمنطق السلطة (أي استمرارية السلطة وتقويتها) وأوامرها. وفعاليات قطاع الدولة تدار بهذا المنطق. وما وجد من القطاع الخاص، فإن وجوده واستمراريته وربحيته منحة من السلطة السياسية يمكن مصادرتها عند اللزوم، أي عند التناقض مع استمرارية وقوة السلطة.
على أساس الخلفية السابقة يمكن أن نفهم سر الفشل الذريع لعلم الاقتصاد في فهم الفعالية المعاشية في سوريا. الأمر يشبه أن نستخدم الطب البشري في دراسة المشكلات الصحية للحيوانات، بالتأكيد ستكون النتائج مخيبة جدا.
وختاما هل نلغي علم الاقتصاد؟ بالتأكيد لا المشكلة ليست في علم الاقتصاد بل شذوذ الحالة السورية والحالة الشبيهة والنتائج الكارثية على معيشة الناس. من الضروري الدعوة لإعادة (أو إدخال) الاقتصاد إلى الفعالية المعاشية السورية، أي لا بد من أعادة (إدخال) السوق وفصل الفعاليات المعاشية عن السلطة السياسية بأقصى درجة ممكنة.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى