الوطنية السورية المنجدلة بالعروبة

رأي الملتقى

يجري الحديث اليوم كثيرًا وتباعًا عن مفهوم الوطنية السورية، وتُمسك فيه غير جهة، وغير مجموعة أفراد أو نخب، ويُفتح باب الوطنية السورية على مصراعيه، في محاولة حثيثة للوقوف على مفهوم واضح ومحدد للوطنية السورية، وهو موضوع طبيعي وضروري، ففي زمن الحروب والاحتراب، وفي زمن الثورات والانتفاضات الشعبية الكبرى، تحدث هزات سياسية ومفهومية عنيفة وكثيرة، تفترض بالضرورة تلمس المسألة الوطنية من جديد، وقد يكون ذلك على أسس جديدة متجددة، تستفيد من الهزات الكبرى وردات الفعل المتوالية، خاصة في حالة متحركة كالحالة السورية، حيث التدخلات الاقليمية والدولية الكبيرة والكثيرة، وحيث المشاريع الوطنية وغير الوطنية، وكذلك الصياغات والطروحات الفكرية النظرية التي تتخارج، أو تتداخل مع المعطيات الداخلية الوطنية، وتلاقح جملة المتغيرات الحاصلة، ضمن مآلات قد تكون مغردة خارج السرب، أو أنها قادرة على الانجدال في الآن السوري بحد ذاته، بفهم موضوعي وذاتي للسياقات الوطنية بكليتها.
لكن أية وطنية يريدها السوريون اليوم، وأي حركة نظرية فكرية يتوخاها الواقع السوري، وأي عمق يريده المجتمع السوري، كي يتمكن فعلًا لا قولًا الخروج من عنق الزجاجة، ومن ثم إعادة صياغة ملاذاته المبتغاة، دون أن يؤثر ذلك بحق على أنساقه المجتمعية، وعلى اشتغاله الحثيث على إنتاج أو إعادة إنتاج العقد الوطني السوري الجامع الذي يلبي كل التطلعات، ولا يستثني أحدًا من تكوينات الواقع السكاني السوري، بأثنياته المتعددة وطوائفه، وكل مايلوذ به ويحتويه من طيف واسع وكبير وسع هذا الوطن السوري.
أية وطنية يريدها الشعب السوري المنجدل أساسًا بانتمائه للعروبة والإسلام، حاضرًا وتاريخًا، وبنية سكانية، وهوية وطنية طالما نتحت من معين إرث حضاري عربي إسلامي، لا يتفارق معها، ولا وجود له بدونها، وصولاً إلى ماهية جديدة للتداخل الموضوعي بين ثنائية الوطني والقومي، بوعي مطابق، لا يخرج من الوطنية السورية، دون أن يعيها ويعي مكانته فيها، كما أنه يستوعب بعمق اشتباكه المصيري والموضوعي مع كيانية المنطقة برمتها، الغارقة والمتجذرة في التاريخ، والواصلة بوعي إلى البعد الحضاري بجذوره العربية التي يصعب الخروج منها أو عليها، دون تخطي واقع السوريين المتعدد، والذي يضم بين جوانحه تاريخًا وحاضرًا ومستقبلاً كل تلك المتعددات القومية والاثنية والطائفية.
كل ذلك دون أن يؤثر هذا المعطى على حيثية أن الشعب السوري واحد، مهما تعددت أثنياته وقومياته، وهو جميعًا ينجدل موضوعيًا في المحيط الإقليمي العربي، من منطلق أنه لم يكن يومًا في مجموعه إلا جزءً من نسيج هذا الواقع السوري المتعدد والمتشكل عبر التاريخ الحديث والقديم، فكانت على هذا الصعيد وفيه القضية الكردية قضية سورية بامتياز، كما وصفها الراحل الكبير جمال الأتاسي في كتاباته عن هذه القضية في غير مكان.
باتت المسألة الوطنية السورية اليوم والحديث عنها ضرورة حيواتية للسوريين بكليتهم، لكن مع الالتفات جديًا إلى مسألة وماهية انجدالها مصيريًا وحضاريًا بالانتماء للعروبة والتمفصل جوانيتهـا والعمل وفق معطيات الارتباط المصيري بين الوطنية السورية الصاعدة والمتجددة وبين العروبة بوصفها العمق الحضاري والسياسي الموضوعي للكل السوري بشموليته، ولمجمل الديمغرافيا السورية المتشكلة عبر التاريخ الحديث والقديم.
وإذا كان هناك اليوم من مازال يحاول أن يستغل مسألة انشغال السوريين في إعادة التركيز على الوطنية السورية، وإعادة إنتاجها، ليمرر مشاريعه الذاتية، التي لاتتساوق مع واقع السوريين الحقيقي، ومن ثم يحاول القطيعة أو محاولة القطيعة مع الانتماء العروبي، ضمن اشتغال محموم لاستغلال المجريات الوطنية، وجرها نحو هذا المآل، فإننا نقول لهم، أنه لايمكنهم ذلك، وهم يمسكون بقبضة ريح ليس إلا، فتمفصل السوريين مع عروبتهم لا فكاك منه، وهو ليس ليس خيارًا سياسيًا بقدر ماهو مصير ومآل مشترك جاء وتكون عبر التاريخانية التي لامسها الراحل إلياس مرقص، وأمسكت بها الكثير من نخب الشعب السوري في العصر الحديث، وبالتالي فإن الوطنية السورية التي نبغيها اليوم هي تلك الوطنية صاحبة الأولوية والأهمية، لكنها في نفس الآن هي الوطنية السورية المنتمية إلى عروبتها، دون السماح بأن تنالها أية تخرصات هنا أو هناك، ولن يستطيع كل الذين أصابهم اليأس، أو الذين استغلوا الواقع، لينبشوا في مشاريعهم التي كانت مخبأة إلى لحظة زمنية ظنوا أنها قد أصبحت مواتية ظرفًا وواقعًا، فأخرجوها من مخبئها، في عملية جراحية قيصرية، محاولين إعادة إنعاشها إن استطاعوا.
لابد إذن، وحسب الكثير ممن يعون الواقع السوري من وطنية سورية خارجة من رحم الواقع السوري وتطابق تشكل المجتمع، لا تقفز فوقه لتتخيله وفق قناعات أيديولوجية، وطنية تكسر الجماعات ليس بإنكارها، وإنما بجرها لتشكيل وعي لسوريا، يتعدد ويتناقض، ويتحول لمختبر، للتوصل لتسوية تضع تصورا للبلاد، تراعي الجماعات فيها وتلحظ حقوق الأفراد.بدون أن تخرج من تاريخها ولا حاضرها العربي العروبي المنتمي لأمة شئنا أم أبينا وعينا ذلك أم لم نعيه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى