لجنة العدالة الخاصة بسورية توقع ببروفسور بريطاني موال لروسيا

ترجمة وتحرير ربى خدام الجامع

بقي أستاذ جامعي بريطاني يراسل رجلاً لا يعرف عنه سوى اسمه “إيفان” طيلة أشهر، وكان هذا الأستاذ يسعى للحصول على المساعدة لتشويه سمعة منظمة تسعى لمحاكمة مجرمي الحرب في سوريا، كما طلب من إيفان أن يتقصى أمر أكاديميين وصحفيين بريطانيين آخرين. وتكشف رسالة إلكترونية اطلعت عليها بي بي سي تلك الحرب المستمرة التي اندلعت قبل عقد من الزمان مع بداية النزاع في سوريا وذلك في مجال المعلومات والتضليل الإعلامي.

في صباح بارد من شهر كانون الأول، وردت رسالة من أستاذ في جامعة إدنبرة لبريد بيل ويلي عنوانها: “أسئلة لويليام ويلي”

وويلي هذا يدير منظمة تعمل على استخلاص الوثائق لتستخدم في المحاكمات المخصصة لجرائم الحرب، والتي تم الحصول عليها من أبنية تعود لحكومة نظام الأسد، بحسب ما يوضحه اسم الشخص المرسل.

أما الأستاذ بول ماكيغ فهو مدرس مختص بعلم الأوبئة من جامعة إدنبرة، سبق له أن تواصل مع منظمة ويلي غير الحكومية قبل أن يطرح أسئلة متشابهة حول تلك المنظمة، والتي تعرف باسم لجنة العدالة والمساءلة الدولية، وذلك من أجل تقرير نقدي كان يكتبه مع أستاذ جامعي من بريستول وأستاذ جامعي سبق له التدريس في شيفيلد.

وبما أن ويلي كان يعرف ما الذي فعله برأي ماكيغ الذي يرى بأن المنظمات غير الحكومية التي تحصل على تمويلها من الدول الغربية تعمل لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ولصالح جهاز الاستخبارات البريطاني بهدف تشويه صورة نظام بشار الأسد، لهذا تأكد بأن ذلك التقرير لابد وأن يتهم منظمة لجنة العدالة والمساءلة الدولية بتشويه الحقيقة فيما يتصل بالتعذيب والقتل الذي يمارس في سجون نظام الأسد.

فعلى مدار العقد المنصرم، قام المحققون السريون التابعون للجنة العدالة والمساءلة الدولية باستخلاص أكثر من 1.3 مليون وثيقة صادرة عن النظام البيروقراطي في سوريا الذي ينشغل ويهتم بالمعاملات الورقية إلى حد بعيد، حتى لو كانت تلك المعاملات الورقية تتصل بعمليات قتل وحشية تنفذ بحق أبناء جلدتهم. وقد تم الاحتفاظ بكل تلك المعاملات الورقية والوثائق في أرشيف محفوظات لدى مقر لجنة العدالة والمساءلة الدولية ضمن مكان سري في أوروبا.

بيد أنه تكرر في الرسالة الإلكترونية التي أرسلها ماكيغ لويلي بأنه يقوم مع زملائه بإجراء تحقيق حول لجنة العدالة والمساءلة الدولية، لكنه لم يطرح أي سؤال حول عمل تلك اللجنة، بل بدا وكأنه صب جل اهتمامه على الشركات المسجلة باسم ويلي.

ولهذا لم يرد ويلي على تلك الرسالة.

وبعد مرور عدة ساعات، وصلت رسالة غير متوقعة لماكيغ أيضاً، وكانت من مرسل مجهول كتب فيها: “لقد سمع مكتبنا في لندن البارحة أن لديكم بعض الأسئلة حول سوريا، ونعتقد بأننا بوسعنا مساعدتك في الوصول إلى الحقيقة”.

رد ماكيغ بسرعة على تلك الرسالة مرسلاً بعض الأسئلة التي كانت بمثابة اختبار لذلك الشخص الذي ظهر فجأة، حيث سأله إن كان قد اطلع على أمر الهجمات الكيماوية الملفقة في سوريا.

وتبين أنه اطلع بكل تأكيد على ذلك، حيث ألمح أنه وصل إلى كنز من المعلومات حول هذا الموضوع، فانتابت ماكيغ حماسة بالغة حيال هذا المصدر الجديد، وصار يتبادل معه الرسائل الإلكترونية لفترة امتدت لأكثر من ثلاثة أشهر.

في بداية الأمر كشف ماكيغ عن اهتمامه بلجنة العدالة والمساءلة الدولية، وبويلي بشكل خاص، فوصله الرد بأن ويلي كان أحد أعوان وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وبأنه عمل في السفارة الأميركية في العراق (وجزء من هذه المعلومة صحيح، وذلك لأن ويلي الذي يحمل الجنسية الكندية، قد تم قبوله للعمل في وزارة الدفاع الأميركية ليعمل على ملف محاكمة صدام حسين في العراق، لكنه ذكر بأنه لم يتعامل بحياته مع أي وكالة استخبارات).

بيد أن ماكيغ كان حريصاً كل الحرص بالرغم من كل هذا، حيث كتب: “إذا خرجنا بمعلومة مفادها بأن ويلي عميل لوكالة الاستخبارات المركزية، عندها لابد أن نتعرض للسخرية والاستهزاء من قبل الجميع لأننا سنبدو حينها كأصحاب نظرية المؤامرة الذين يخرجون بمزاعم قائمة على الكثير من الشطط وتفتقر إلى أي مصدر”.

عندها رد عليه الشخص الذي تواصل معه قائلاً: “إن زملائي يضحكون ضحكة العارف عندما تلوت ما كتبت لي على مسامعهم، فما نوع الأدلة التي تريدها لتحس بالارتياح وأنت تعلن عن هذه الحقيقة؟ لو كان بوسعنا أن نزودك بها دون أن يضر ذلك بمصادرنا لكنا فعلنا”.

وفي الوقت الذي كانت فيه الرسائل التي يرسلها ماكيغ تحمل توقيعه مع رابط ملفه الشخصي في جامعة إدنبرة، كان الشخص الذي يتواصل معه يرسل رسائله بلا توقيع في بداية الأمر، حيث كانت المفاتيح الوحيدة التي تدل على هويته هي تلك الأخطاء التي يرتكبها بين الفينة والأخرى باللغة الإنكليزية، فضلاً عن الإشارة إلى مقره في موسكو مرات عديدة.

بعد مرور فترة من الزمن على ذلك، بدأ يوقع رسائله باسم إيفان.

ويحكي ماكيغ كيف التزم بعدم إصدار أي حكم حيال من كان معه على الطرف الآخر من المراسلات، إذ إنه مثل أي صحفي أو أي مواطن محقق آخر، كان يزيد من معارفه من مختلف أنواع البشر وأنماطهم ممن لديهم معلومات ذات صلة بالموضوع الذي يبحث فيه، ويشمل ذلك مصادره المجهولة. كما ذكر بأنه يرى بأن القانون يبيح له بشكل كامل أن يقوم بهذا بوصفه مواطناً عادياً ليس على صلة بأسرار الدولة.

غير أن بعض المراسلات تناولت نظريات ماكيغ حول نشاطات لجنة العدالة والمساءلة الدولية، حيث شرح هذا الأكاديمي بأنه وزملاءه يعتبرون هذه اللجنة جزءاً من عملية الاتصالات الاستراتيجية أو ما يعرف بستراتكوم والتي تديرها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وجهاز الاستخبارات البريطاني لصالح دولتيهما اللتين عقدتا العزم على تغيير النظام في سوريا.

ويبدو من خلال تلك الرسائل الإلكترونية بأن ماكيغ اعتقد فعلاً أنه كان يخدم الناس عبر محاولته الكشف عن مؤامرة حيكت بهدف خداع عامة البشر.

لكنه طلب من إيفان معلومات شخصية حول ويلي، وحول امرأة يعتقد بأنه أقام علاقة معها، وسأله إن كان من عادته تناول الكوكايين أم لا، وكل تلك الأمور ليست لها أي علاقة بمصداقية الوثائق التي تحتفظ بها لجنة العدالة والمساءلة الدولية.

كما كان يكرر على الدوام الأسئلة التي تتصل بتمويل هذه المنظمة، وقد شرح بأن هدفه الأسمى من كل ذلك هو دفع الناس للتشكيك بالأدلة التي جمعتها تلك المنظمة، لكن هنالك سبل مختلفة للقيام بذلك، كما نوه هو، عندما قال: “أطلقنا عليه اسم تكتيك آل كابوني، إذ حتى لو لم نستطع تمريغهم بالوحل بسبب جرائم الحرب، قد نتمكن من الوصول إليهم عبر الاحتيال”.

ولهذا السبب ركز في الأسئلة التي وجهت لويلي على الشركات التي أقامها هذا الرجل.

اتهام لجنة العدالة والمساءلة الدولية بالاحتيال

ولقد اتهم المكتب الأوروبي لمكافحة الاحتيال (أولاف) لجنة العدالة والمساءلة الدولية بالاحتيال وتقديم حسابات غير نظامية، وذلك بناء على عقد وصلها من الاتحاد الأوروبي في عام 2013 قيمته 3 ملايين يورو. وماتزال المفوضية الأوروبية تنظر في التقرير الذي قدمه مكتب أولاف، إلا أن الناطق الرسمي للمفوضية، السيد بيتر ستانو ذكر لبي بي سي بأن التقرير لم يكن السبب وراء التشكيك بأهمية الأدلة التي جمعتها لجنة العدالة والمساءلة الدولية، حيث قال: “إن تحقيق مكتب أولاف يتصل بالفواتير الصادرة عن الجمعية، وليس بناء على المعلومات التي تم جمعها خلال فترة تنفيذ المشروع، إذ لا يوجد ما يشير إلى ظهور مخالفات تتصل بنواتج المشروع”.

غير أن فريق تمويل لجنة العدالة والمساءلة الدولية رفض مزاعم مكتب أولاف، وذكر بأنهم أرسلوا للمفوضية الأوروبية وثائقَ تثبت عدم صحة تلك المزاعم، كما ذكروا أنه ابتداء من عام 2013 حصلت هذه المنظمة على 70 منحة بلغ مجموع قيمتها 42 مليون يورو، وبأنها خضعت للمحاسبة القانونية 64 مرة من قبل مدققي حسابات قانونيين من خارجها، ولم يتوصل هؤلاء لأية نتائج سلبية.

بيد أن إيفان شجع الأستاذ الجامعي في تحقيقاته وأثنى على براعته، إذ كتب له ليقول: “ننوه إلى أن هذه الرسائل المتبادلة ستظل مصدر سعادة بالنسبة لمكتبنا. نشكركم مجدداً على عملكم المهم… كما نشكركم على مقاومة العمليات المعادية لروسيا التي تقوم بها المملكة المتحدة، فهذا يعني لنا الكثير”.

وقد ذكر بول ماكيغ بأن زميليه في التحقيق بأمر لجنة العدالة والمساءلة الدولية لم يطلعا على أي شيء يخص علاقته بإيفان، إلا أن المعلومات التي قام هذا الأستاذ بجمعها كانت مهمة بالنسبة للبحث المشترك الذي قاموا به. وقد أوضح دوافع زملائه بما يلي: “إن الهدف الأساسي لمجموعتنا الأكاديمية المصغرة يتلخص في تشجيع أعضاء البرلمان والمحامين والصحفيين على محاسبة الحكومة وذلك عبر طرح أسئلة تتصل بأنشطة ستراتكوم هذه والتي لم تقم بجر المملكة المتحدة إلى مواجهة مع دول أخرى فحسب، بل أيضاً تم استغلالها لتهميش وتشويه سمعة المعارضين في الداخل”.

ولم يمض وقت طويل قبل أن يبدأ إيفان بإعطاء توجيهات لماكيغ، حيث طلب منه معلومات، وأخذ يأمره بأن يتحدث إلى هذا، وألا يقترب من ذاك، إلا أن الأستاذ بدا وكأنه قد التزم ببعض تلك الطلبات وانصاع لها. وبعد مرور ستة أسابيع على تلك المراسلات، وافق الأستاذ ماكيغ على عدم الكتابة لأي من الموظفين العاملين لدى لجنة العدالة والمساءلة الدولية دون موافقة مسبقة من قبل إيفان، وهذا ما دفع البروفسور لأن يكتب له: “لن أتواصل مع أي أحد قبل أن أتحقق من ذلك معك”.

كما قام ماكيغ بإعادة توجيه رسائل إلكترونية وكذلك معلومات معينة لإيفان بناء على طلبه.

ويلي والاستخبارات الأميركية

ثم كتب البروفسور لإيفان لينقل له أخباراً مهمة، بعدما عثر على ما اعتبره أدلة مقنعة حول ارتباط ويلي بوكالة الاستخبارات المركزية كعميل لها خلال فترة وجوده في العراق. حيث ورد ذلك في كتاب لمحلل سابق عمل لدى وكالة الاستخبارات المركزية، واسمه جون نيكسون، والذي وصف الإحاطة التي قدمها لنائب الرئيس الأميركي ديك تشيني حول عملية استجواب صدام حسين في نيسان من العام 2008.

فكتب ماكيغ نقلاً عما ورد في كتاب نيكسون: “لقد توجه إلى مكتب تشيني بصحبة (بيل، المحلل لدى وكالة الاستخبارات المركزية الذي أتى خلفاً لي في بغداد)، وهذا لا يمكن أن يكون سوى ويلي، فما رأيك؟ لقد قام مجلس مراجعة المنشورات لدى وكالة الاستخبارات المركزية بتنقيح العديد من المقاطع الأخرى، لكن هذه الفقرة أفلتت منه”.

يبدو أنه لم يخطر ببال ماكيغ بأن هنالك أكثر من بيل واحد وجد في العراق خلال تلك الفترة، كما لم يخطر بباله أيضاً بأنه من المحتمل أن يكون نيكسون قد استخدم اسماً مستعاراً، إلا أن إيفان أعجب كثيراً بما قدمه له هذا البروفسور، حيث رد عليه بالقول: “إننا معجبون بكم وبعملكم لهذا السبب!! هذا مضحك، إذ لم نكن نعرف بأن الاجتماع جرى أمام العامة، بل اعتقدنا بأننا توصلنا لذلك السر!”

وهنا يبدو ماكيغ بأنه قد تحمس بعدما وصل إلى نقطة ما في بحثه، فعاد لمناقشة ما عرضه عليه إيفان من مال والذي يعادل 10 آلاف جنيه إسترليني، سبق له أن رفضها في بداية الأمر. ثم قال بأن ذلك قد يكون مفيداً في نهاية الأمر، وذلك حتى يتم رفع دعوى قانونية ضد بيل ويلي ولجنة العدالة والمساءلة الدولية لصالح الموظفين فيها، الذين تعرضوا “للخديعة عبر عملهم لدى منظمة تعتبر واجهة لوكالة الاستخبارات المركزية.. ولابد أن تكون تلك الدعوى مكلفة… لذا فإن ضح المال عبر تمويل قانوني يغطي التكاليف السابقة واللاحقة قد يساعد مكتبنا على المساهمة في هذا المجال. إلا أن مستوى الدعم المطلوب قد يكون أكبر بكثير من الرقم الذي حددته”.

ثم ألقى ماكيغ شبكته لمسافة أبعد من لجنة العدالة والمساءلة الدولية، وذلك عندما طلب من إيفان أن ينظر فيما سماه: “الشبكة البريطانية التي تضم منفذي وناشري الروايات والسرديات حول سوريا”، ويشمل ذلك شخصيات أكاديمية وصحفيين بريطانيين وقفوا ضد ما كتبه هذا الرجل عن سوريا. وهكذا أرسل ماكيغ قائمة طويلة تضم أسماء وعناوين بريد إلكتروني وطلب من إيفان الاستعانة بتلك المعلومات لمعرفة ما يربط بينها وبين من يقوم بتنسيقها.

وقد تضمن ما قاله ماكيغ لإيفان تلميحاً إلى أنه جاسوس روسي لديه مخاوف حيال أحد المنتجين لدى شبكة بي بي سي يقوم بتغطية الأخبار في سوريا، حيث كتب له يقول: “هل لدى مكتبكم أية معلومات حول هذا الشخص؟ إذ اتضح لنا بأنه تورط في إخراج وتدبير أحداث في سوريا منذ عام 2013”.

وهنا يبدو البروفسور غير مكترث حيال تقديم مزاعم من هذا النوع لمن يحتمل أن يكون عميلاً روسياً، والذي من الممكن أن يعرض ذلك المنتج للخطر.

بيد أن ماكيغ ذكر بأن كل المعلومات التي سربها لإيفان، ويشمل ذلك عناوين البريد الإلكتروني، كانت مفتوحة للعموم، وتحدث أيضاً عن الدور الذي لعبه هؤلاء الأفراد بوصفهم رواداً في مجال الاتصالات وذلك ضمن: “عمليات الاستخبارات التي قادتها المملكة المتحدة المرتبطة بالنزاع السوري” والتي ذكرت في وسائل الإعلام على نطاق واسع.

وقد ورد اسم كاتب هذه المادة ضمن قائمة ماكيغ التي تضم ناشري روايات وأخبار قاموا بالتنسيق مع الحكومة البريطانية حسب زعمه، ولهذا لم يتورع عن إخبار إيفان بما يفكر به تجاه كاتبة هذا المقال، حيث قال: “إننا نعرف الكثير عن كلوي هادجيماتيو، ونعتقد بأنها ليست سوى شخص خبيث نال الكثير من الإطراء جراء قيامها بأمور تتجاوز حدود اختصاصها”.

معلومات مهمة عن “اللجنة” قد تصل للأسد

بيد أن إيفان لم يكن عميلاً روسياً، بل لم يكن له وجود أصلاً، وذلك لأن فريقاً من موظفي لجنة العدالة والمساءلة الدولية كان يكتب رسائله الإلكترونية، بعدما اختار بيل ويلي أعضاء هذا الفريق على عجل حتى يكتشف كم المعلومات التي يعرفها ماكيغ عن منظمته.

ولهذا شعر ويلي بقلق شديد حيال احتمال قيام أحد الموظفين المطرودين من لجنة العدالة والمساءلة الدولية بالتقرب من ماكيغ وزملائه في البحث الذي يعدونه بهدف إطلاعه على مكان الأرشيف وأسماء الموظفين في تلك المنظمة.

هنالك ثلاثة موظفين فقط يعملون في هذه المنظمة نشروا أسماءهم للعامة لسبب وجيه برأي ويلي، لأنهم يمكن أن يتعرضوا لمضايقات أو أن تصلهم تهديدات، كما يمكن للعناصر المعادية أن تصل إلى نظم المنظمة بشكل أسهل إن كانوا يعرفون أسماء الموظفين فيها. ولدى نظام الأسد أسباب وجيهة تثير فيه الرغبة لتدمير أرشيف الوثائق برمته.

وفي سياق تلك المراسلات، ذكر ماكيغ بأن أحد الموظفين المطرودين تحدث إليه فعلاً، وعرض عليه معلومات وتفاصيل حول شريكة ويلي وأولاده.

وقد ذكر ماكيغ لبي بي سي أنه بالرغم من أنه خطط بالفعل للكشف عن مكان مكتب المنظمة، إلا أنه لم يكن يريد أن ينشر المزيد من المعلومات الشخصية للعامة.

غير أن ويلي لم يكن يدري بذلك، ففي تلك الأثناء كان يعرف جهات الاتصال القريبة من ماكيغ، ومن بينها المدونة البريطانية المقيمة في دمشق، فانيسا بيلي.

كانت بيلي تمجد بمحاسن جيش النظام وفضائل بشار الأسد وزوجته، وتنشر صوراً لها برفقة شخصيات من النظام أو قادة في جيشه على وسائل التواصل الاجتماعي.

ويحكي لنا ويلي بأنه خشي أن يقوم ماكيغ بإخبار بيلي حول أي معلومة يعرفها عنه، لتقوم هي بدورها بنقلها لنظام الأسد، ولهذا عليه ألا يجازف البتة، وهذا ما دفعه للتخطيط حالياً بنقل كامل أرشيف لجنة العدالة والمساءلة الدولية وكامل الكادر العامل لديها إلى مقر آخر، وكذلك فكر بتغيير مقر إقامة أسرته أيضاً.

أما الموظفة التي طردت من هذه المنظمة، فقد ذكرت بأنها لم تتقصد أن تساوم على أمان زملائها السابقين وعائلاتهم، كما أنها لا تصدق أنها فعلت بهم هذا.

مجموعة العمل من أجل سوريا والدعاية والإعلام

يذكر أن كلاً من ماكيغ وبيلي عضوان لدى مجموعة العمل من أجل سوريا والدعاية والإعلام، وهي مجموعة تضم: “باحثين مستقلين” وشخصيات أكاديمية معظمها تشاطر ماكيغ في رأيه حول وكالتي الاستخبارات الأميركية والبريطانية واستخدامهما لوسائل الإعلام لتصوير نظام الأسد وإظهاره بشكل سلبي، بهدف تقديم حجة ومبرر لتغيير النظام.

سبق لكاتبة هذه المادة أن تناقشت مع مجموعة العمل هذه في عمل آخر تتبع جيمس لو ميسورير في حياته ووفاته، وهو ضابط سابق في الجيش البريطاني، وأحد مؤسسي منظمة الخوذ البيضاء، وهي منظمة تضم مدنيين سوريين عاديين تم تدريبهم على أساليب إنقاذ الناجين من قصف الأبنية بمساعدة تمويل غربي. وقد تحولت الرسائل المتبادلة بين ماكيغ وإيفان موضوعاً للحلقة الثانية عشرة من المدونة الصوتية الخاصة بمؤلفة هذا العمل، والتي ستبث في السادس من نيسان المقبل.

إذ بفضل هذه المدونة الصوتية، تمكنت الكاتبة من الوصول إلى القائمة السوداء للصحفيين التي أعدها ماكيغ، حيث كتب يقول: “من خلال المدونات الصوتية لماي داي يتضح لك أنك تتعامل مع ضابط استخبارات بريطاني على ما يبدو”.

ومن المواضيع المهمة التي ناقشتها تلك المدونات الطريقة التي مولت من خلالها منظمة الخوذ البيضاء نفسها وسط معركة السيطرة على سردية الحرب في سوريا.

إذ إن كاميرات من ماركة غو-برو الأميركية الشهيرة التي علقوها بخوذهم قدمت لنا مقاطع فيديو أظهرت كيف تعرضت المناطق المدنية والمشافي والمدارس للقصف والاستهداف من قبل طائرات النظام والمقاتلات الحربية الروسية. وهذه الفيديوهات التي نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي وعرضت في الأخبار والتقارير والأفلام الوثائقية أذاعت من شهرة هذه المنظمة إلى جانب تقديم ملايين الأدلة حول جرائم الحرب ويشمل ذلك ما حدث عقب الهجمات الكيماوية.

ونتيجة لذلك، تعرض جيمس لو ميسورير وكذلك الخوذ البيضاء لهجوم من قبل الدولة الروسية والنظام الأسدي، حيث كالا كل أنواع التهم لتلك المنظمة، ابتداء من التعامل مع الجهاديين وصولاً إلى الإشراف على عمليات استئصال الأعضاء البشرية، وقد تبنى البعض في الدول الغربية هذه الأفكار وصدقها.

من أهم الأمور التي شغلت بال بول ماكيغ ما افترض أنه تمثيل لهجمات كيماوية، وهكذا، ومن خلال مجموعة العمل التي يتبع لها، كتب أوراقاً بحثية بالتعاون مع زملاء له، أورد فيها مثلاً بأن النظام السوري ليس بمسؤول عن الهجوم بغاز الكلور الذي تم في عام 2018 على مدينة دوما وفقاً لما خلص إليه فريق المفتشين التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، ولهذا طرح بدلاً من ذلك فكرة مفادها بأن هنالك أكثر من 40 ضحية يحتمل أنها قتلت عمداً في غرفة للغاز ضمن مجزرة دبرتها قوات الثوار بمساعدة الخوذ البيضاء عبر تطبيق خطة موسعة تهدف إلى خداع العالم وتضليله.

كانت تلك هي النظرية التي أجملها في حديث لمنظمة العمل في ويستمنستر خلال العام المنصرم حضره رئيس اللجنة الأمنية الاستخباراتية، النائب البرلماني المحافظ الدكتور جوليان لويس، بالرغم من أنه ذكر أنه وصل متأخراً ففاته القسم المتعلق بغرف الغاز.

ثم تبين بأن ماكيغ استعار فكرة غرفة الغاز من صيدلاني أميركي متقاعد هو دينيس أوبرايان الذي وصف في الورقة البحثية التي قدمها كيف أتته هذه الفكرة في منامه بعد تناوله لوجبة بيتزا بشرائح السمك، ثم إن الورقة البحثية التي قدمها أوبرايان مليئة بالافتراضات والتخمينات وتحليله قائم على حلم رآه وصور فوتوغرافية غير واضحة. أما المشروع الثاني الذي خطط له فهو ما سماه باليهود الجدد ويضم قائمة بأسماء “أصحاب الوسائل الإعلامية المشهورة ومشغليها ونجومها” ممن تربطهم صلات مع اليهود.

بيد أن ماكيغ ذكر أنه لا يعتقد بأن الآراء الشخصية التي تقدم بها أوبرايان تنفي الأدلة الدامغة التي أوردها في بحثه حول الفكرة القائلة بإن الهجمات الكيماوية قد تم تدبيرها بواسطة غرف الغاز. كما لم يذكر الأحلام التي حفزتها بيتزا شرائح السمك، غير أنه أكد على حياديته فيما يتصل بالنزاع السوري، وبأن هدفه هو فضح عمليات الاستخبارات السرية التي قامت برأيه: “بتقويض نظام الحكومة البرلمانية في بلادنا”.

ثم إن مجموعة العمل كررت ما ورد في سرديات روسية حول التضليل الإعلامي أيضاً، ففي تقرير كتبه ماكيغ مع ببير روبنسون وهو أستاذ سابق لدى جامعة شيفيلد، وديفيد ميلر الأستاذ في جامعة بريستول في عام 2018 حول لجنة العدالة والمساءلة الدولية، قاموا بنشر سلسلة من الأوراق البحثية حول هجمات سالزبيرغ، ذكروا فيها بأن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لديهما الدافع لقتل المعارض الروسي سيرغي سكريبال، لمنعه من الإدلاء بشهادته في قضية تشهير وطعن ضد كريستوفر ستيل ذلك الرجل الذي جمع مجلداً من ملفات تحوي معلومات مشينة تكشف عن التعاون الذي تم بين حملة ترامب وروسيا ضمن سباق الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016.

وبالرغم من أن الأدلة الموسعة التي توصلت إلها السلطات البريطانية تشير إلى تورط الحكومة الروسية في هذا السياق، إلى جانب تورط منفذي عمليات اغتيال يعتقد أنهما يتعاملان مع الجهات الأمنية الروسية، إلا أن مجموعة العمل قدمت فرضية مطولة تضم عوامل مختلفة تشكك بتورط روسيا بعمليات التسميم تلك.

أستاذان جامعيان وأستاذ جامعي سابق

في عمله اليومي يشغل البروفسور بول ماكيغ منصب عالم الأوبئة الوراثية وخلال العام المنصرم أخذ يكتب أوراقاً بحثية حول جائحة فيروس كورونا، إلى جانب توليه لمنصب استشاري الصحة العامة باسكوتلاندا. وفي تشرين الأول من عام 2020، أصبح مدافعاً عن إعلان بارينغتون العظيم، الذي يدعو لاستبدال عملية إغلاق البلاد بعزل الفئات المستضعفة، والسماح لباقي الشعب بتطوير عملية مناعة القطيع.

البروفسور ديفيد ميلر: وهو عالم اجتماع بجامعة بريستول، وصار اليوم يمثل قلب الخلاف الذي قام بالنسبة لتصريحاته حول إسرائيل والطلاب اليهود، إذ ظل يناقش منذ مدة طويلة ويتحدث عن وجود شبكة من المنظمات الصهيونية داخل المملكة المتحدة، تمولها إسرائيل وتسيطر عليها، وتعمل تلك المنظمات على تأليب الناس عبر نشر رهاب الإسلام/الإسلاموفوبيا. وقد أورد في تصريحاته الأخيرة زعمه بأن إسرائيل تحاول أن تفرض إرادتها على العالم بأسره.

الدكتور بيير روبنسون مؤسس مجموعة العمل على سوريا وعلى الدعاية والإعلام، وهو أستاذ جامعي متخصص في مجال السياسة والمجتمع والصحافة السياسية لدى جامعة شيفيلد حتى رحيله بشكل مفاجئ في عام 2019. وقبل رحيله حذر الطلاب من تصديق أي رواية حول الأخبار الملفقة، والتي ذكر أنها تصرف الانتباه عن الدعاية والأكاذيب التي تبثها وسائل الإعلام السائدة. ورأى روبنسون بأن الحكومة الأميركية يمكن أن تكون وراء هجمات 11 سبتمبر، وبأن فيروس كورونا قد تمت المبالغة بأمره للسيطرة على الشعب من خلال نشر الخوف.

بيد أن ماكيغ ذكر بأن تقرير مجموعة العمل ينتقد ما عرف حينها بالخط الرسمي، الذي يرى بأن روسيا وحدها هي من يمتلك الوسائل التقنية والدافع لتنفيذ هذا الهجوم. وأكد على أن أحداً لم يشر إلى الجهات الاستخباراتية الغربية ومسؤوليتها عن تلك الهجمة.

وفي عام 2019 كتبت مجموعة العمل ورقة بحثية اتهمت فيها جيمس لو ميسورير بالفساد والتورط في الهجمات الكيماوية في سوريا، ولكن بحلول عام 2020، أصبحت لجنة العدالة والمساءلة الدولية هدفاً لتلك المجموعة.

قضية ماري كولفن وأنور رسلان

فقد وصلت الأدلة التي جمعتها تلك المنظمة إلى قضايا مهمة رفعت أمام المحاكم مثل القضية التي رفعتها عائلة ماري كولفن في عام 2018 ضد النظام السوري، بما أن تلك الصحفية الأميركية كانت تعمل لدى ذا صنداي تايمز عندما قتلت في هجوم صاروخي على المركز الإعلامي الميداني في مدينة حمص التي كان الثوار يسيطرون عليها، وذلك في شهر شباط من العام 2012.

وقد تم الاستشهاد بوثائق تعود للجنة العدالة والمساءلة الدولية بشكل كبير عند النطق بالحكم، كونها تشير إلى مسؤولية حكومة نظام الأسد عن مقتل كولفن في هجوم مدفعي متعمد، وهكذا حصلت عائلة الصحفية على حكم بالتعويض عن الأضرار بقيمة 302 مليون دولار أميركي.

كما جمعت لجنة العدالة والمساءلة الدولية ما يقارب من 300 ألف وثيقة وغيرها من الأدلة حول جماعة تنظيم الدولة الإسلامية، وقد تم تقديم بعض تلك الأدلة في المحاكمات الناجحة التي أدانت اثنين من مقاتلي تنظيم الدولة في كل من ألمانيا وهولندا.

وتنشغل هذه المنظمة اليوم بمحاكمة جرائم الحرب التي ماتزال جارية في مدينة كوبلينز الألمانية، والتي تعتبر الأولى من نوعها، كونها رفعت ضد شخصية مرتبطة بالنظام الأسدي في دولة أوروبية. ففي قفص الاتهام، وقف ضابط سابق عمل لدى المخابرات العسكرية في سوريا، واسمه أنور رسلان، حيث اتهم بـ4000 عملية تعذيب، و58 عملية قتل واغتصاب وإكراه جنسي نفذت على مدار سنة ونصف فقط.

إذ طيلة 18 عاماً، كان أنور رسلان مسؤول عمليات التحقيق في أكثر فرع احتجاز سيئ الصيت في سوريا، ألا وهو الفرع 251 الذي يقع وسط دمشق، إذ يبدو من الخارج بناء حكومياً لا يميزه أي شيء عن غيره، فهنالك متجر لبيع الألبسة الرياضية قبالته، ومتجر آخر كبير في البناء الذي يليه، إلا أن من يخرج من هذا المبنى حياً، وتلك نعمة ما بعدها نعمة بكل تأكيد، يعتبر مولوداً من جديد، بسبب التعذيب المرير الذي يتعرض له هؤلاء في ذلك المكان.

يرى الصحفي كريستوف رويتر الذي يعمل لدى دير شبيغل والذي أجرى مقابلة مع رسلان قبل بضع سنوات من اعتقاله، بأن رسلان كان فخوراً بعمله وبنجاحه في انتزاع المعلومات.

ولكن عندما قامت الثورة في عام 2011، ذكر رسلان لرويتر بأنه أحس بالخزي من عمله، كونه يقوم بتعذيب الناس الذين كانت جريمتهم الوحيدة هي أنهم تم إلقاء القبض عليهم لخروجهم في مظاهرة، إذ لم يكن لديهم أية معلومات يمكن انتزاعها منهم.

وعن ذلك يقول رويتر: “لقد طعن ذلك كبرياءه وفخره بعمله، كما اعتبره إهانة للمعايير الأخلاقية لديه… ولم يتحمل فكرة التعذيب على الإطلاق، وكذلك الأمر بالنسبة لاحتمال قتل الأشخاص لديه، ممن لم يرتكبوا أي جرم نهائياً”.

وهكذا وبمساعدة الثوار ضمن المعارضة السورية الذين كانوا يريدون أن تحصل أكبر نسبة انشقاقات لرتب رفيعة عن النظام حتى يسهم ذلك في إضعافه، تمكن رسلان من الانشقاق والهرب إلى الأردن، وبحلول عام 2014 حصل على لجوء في ألمانيا، وبعد سنة على ذلك توجه نحو مخفر للشرطة في برلين ليبلغ عن تعقب ضباط استخبارات سوريين له، إلا أن الشرطة شككت في روايته، ويحق لها ذلك، فما كان منه إلا أن شرح لهم بأنه منشق عن النظام، وهذا ما أدى في نهاية الأمر إلى إلقاء القبض عليه في مطلع عام 2020.

وقد قدمت تلك المحاكمة لمحة مهمة حول ما يمارسه النظام الأسدي، وذلك بعدما أخذ شاهد تلو الآخر يعتلي المنصة ليصف التعذيب المروع الذي تعرض له، والذي يشمل الاغتصاب الممنهج للرجال والنساء على حد سواء.

غير أن رسلان أنكر كل التهم الموجهة إليه، كما أن دفاعه لم يأخذ مجراه بعد في تلك القضية. بعد ذلك تمت إدانة أحد من عملوا لدى المخابرات في سوريا، من ذوي الرتب المتدنية، حيث ساعد في عملية اعتقال المتظاهرين الذين تم تعذيبهم وقتلهم فيما بعد، وذلك في محكمة كوبلينز في شهر شباط الماضي، وحكم على ذلك الشخص بالسجن لمدة تجاوزت أربع سنوات، لذا في حال ثبتت إدانة رسلان، فإنه سيمضي بقية حياته خلف القضبان.

وهذا ما دفع ماكيغ ليخبر إيفان عن قلقه حيال الأدلة التي قدمتها لجنة العدالة والمساءلة الدولية في محاكمة كوبلينز، حيث شكك هو وزملاؤه الذين كتب معهم أوراقه البحثية بقيام لجنة العدالة والمساءلة الدولية بإنشاء برنامج اتصالات استراتيجية سري خاص بالحكومة البريطانية هدفه نشر أخبار ملفقة لتشويه سمعة حكومة نظام الأسد، إلى جانب احتمال الاستعانة بالوثائق التي جمعتها تلك المنظمة لجعل حكومة النظام تبدو وكأنها أكثر وحشية وشراً مما كانت عليه.

ومن الوثائق التي تقدمت بها لجنة العدالة والمساءلة الدولية لتلك المحكمة، وهدفها من وراء ذلك رسم صورة للمنظومة التي عمل رسلان ضمنها، كتاب وجهه مسؤول إلى أحد السجون يشتكي فيه من أساليب التعذيب المتبعة، والتي تشمل استخدام القوارير الزجاجية التي يتم إدخالها في شرج الضحية، ويذكّر المسؤول في هذا الكتاب العاملين في ذلك السجن باستخدام البروتوكولات التي تمت الموافقة عليها سابقاً خلال عمليات الاستجواب.

وثيقة من خلية الأزمة

وهنالك وثيقة مهمة أخرى بحوزة لجنة العدالة والمساءلة الدولية وهي عبارة عن محضر اجتماع يعود لعام 2011 لما عرف بخلية إدارة الأزمة المركزية، تلك اللجنة التي قام الوزراء في حكومة الأسد بتشكيلها، وتضم رؤساء الأفرع الأمنية وأقسام المخابرات والفروع العسكرية، فكانت هيئة رفيعة المستوى أشبه بحكومة حرب.

ويظهر أرشيف المحضر الذي بحوزة لجنة العدالة والمساءلة الدولية كيف أخذت خلية الأزمة تناقش وتعد قائمة رسمية بالأشخاص المستهدفين الذين يجب أن يتم اعتقالهم وحبسهم، ويشمل ذلك شخصيات شاركت في المظاهرات، أو مولتها، أو كل من شوه سمعة سوريا في تصريحات وردت ضمن وسائل الإعلام الأجنبية.

وقد ذكر بيل ويلي بأنه جمع أدلة تضم وثائق تظهر بأن القرار الذي خلصت إليه خلية الأزمة قد مر عبر تسلسل القيادة دون إضافة أية تعديلات ليصل إلى أفرع المخابرات والأمن، ما أضفى طابعاً تنظيمياً ورسمياً على آلاف عمليات الاعتقال التي أعقبت ذلك. يذكر أن بشار لم يكن موجوداً في ذلك الاجتماع بحد ذاته، إلا أن محضر الاجتماع الذي حصلت عليه لجنة العدالة والمساءلة الدولية قد تم رفعه إليه فقام بالتوقيع عليه بنفسه.

ويشرح ويلي ذلك بالقول: “من وجهة نظر قانونية، يعتبر ذلك مهماً للغاية، لأن هذه الوثيقة تضم أعضاء خلية الأزمة الذين قاموا باتخاذ هذا القرار”.

ويرى ويلي أنه من الواضح أن هذا القرار قد اتخذ بشكل مطلع للغاية إذ تم اعتقال متظاهرين عزل واحتجازهم في السجون حيث يمكن أن يتعرضوا للتعذيب وللقتل أيضاً، وبأن هذا القرار قد مر على كل المستويات ضمن تسلسل القيادة وصولاً إلى رأس النظام في سوريا.

وفي الرسائل الإلكترونية كتب ماكيغ لإيفان عن قلقه حيال مصداقية هذه الوثيقة التي تقدمت بها لجنة العدالة والمساءلة الدولية، وكذلك حول الأدلة التي قدمت للمحكمة من قبل منشق مجهول يحمل الاسم الحركي: قيصر.

فقد كان قيصر مصوراً فوتوغرافياً يعمل لدى الدولة ويقتصر عمله على توثيق جثث ضحايا التعذيب، لكنه انشق عن النظام في عام 2013، وحمل معه قرصاً صلباً يحتوي على 53275 صورة فوتوغرافية، تظهر فيها أكثر من ستة آلاف ضحية، لرجال ونساء وأطفال، وعليهم آثار تعذيب لا يمكن لعقل أن يتخيلها، وقد شمل ذلك سمل العيون لدى كثير من هؤلاء الضحايا.

ولقد عاين محققون مختصون بالطب الشرعي في أوروبا تلك الصور وقاموا بفحصها والتدقيق في البيانات الوصفية التي تحملها، وأعلنوا بأن تلك الصور صحيحة وأصلية. كما عثر فريق ويلي في سوريا على وثائق وردت فيها تفاصيل حول السجناء الذين ظهروا في صور قيصر وأماكن احتجازهم، حيث تم تصوير كل ضحية من تلك الضحايا ومعها رقم كتب على الجلد، أو علق على الجثة، وقد استخدمت الأرقام ذاتها لهؤلاء السجناء في الوثائق التي حصلت عليها لجنة العدالة والمساءلة الدولية.

يذكر أنه تم التعرف على أكثر من 700 ضحية من قبل ذويهم عبر الصور التي تم تصنيفها ونشرها على الشابكة حتى يتسنى للأهالي والأقارب البحث عن المفقودين من أحبائهم.

وعن ذلك يقول ستيفن راب وهو السفير الأميركي السابق لقضايا جرائم الحرب، وعضو في مجلس إدارة لجنة العدالة والمساءلة الدولة بإن الأدلة التي قدمها قيصر لا غبار عليها، حيث أعلن عن ذلك بالقول: “إنها أدلة دامغة راسخة، فقد حصلنا على أدلة ضد نظام الأسد أفضل من تلك التي حصلت عليها النيابة ضد النازيين قبلنا بجيلين. وذلك لأن الشيء الوحيد الذين لم يصل لأيديهم هو هذه الصور التي التقطت لكل ضحية من الضحايا مع بطاقة وضعت أمامهم ورد فيها اسم الفرع الذي قام بقتلهم… لذا ومن هذا المنطلق، عندما تلقي نظرة على صور قيصر، ستجد أنها تضيف إلى تلك الأدلة التي تعتبر أفضل من تلك التي قدمت في نورمبيرغ”.

ومع ذلك لم يقتنع ماكيغ بكل هذا على الإطلاق، فقد حللت مجموعة العمل صور قيصر، بحسب ما أورد في رسائله الإلكترونية، وقررت بأن الضحايا يحتمل أن يكونوا أسرى قد تم إعدامهم على يد مجموعات المعارضة. وحتى بعدما عرف بأن المحاكم في مختلف أصقاع أوروبا قررت أنه لابد من إخفاء هوية قيصر لحمايته، طالب ذلك الأكاديمي إيفان بإخباره من يكون قيصر، حيث سأله: “هل لديك المزيد من المعلومات حول هويته والجماعة السورية المعارضة التي ينتمي إليها؟”

وذكر ماكيغ بأن النظام يعرف من هو قيصر، ولهذا لا حاجة لحماية هويته وإخفائها. إلا أن هوية من يجمع الأدلة مثل قيصر، ومسؤولي النظام الذين وردت أسماؤهم في الوثائق التي جمعتها لجنة العدالة والمساءلة الدولية يجب أن تبقى سرية، بحسب رأي بيل ويلي حتى لا يصبح هؤلاء عرضة لعمليات انتقامية، ليس فقط من قبل نظام الأسد، بل من قبل عموم الناس أيضاً.

ثم روى لنا كيف تم اغتيال مسؤولين عراقيين أثناء محاكمة صدام حسين في العراق في عام 2005 بعدما تم بثها عبر التلفاز، وذلك بعد مرور أيام على ظهور اسميهما في الوثائق التي عرضت على شاشة في قاعة المحكمة.

وفي بعض الأحيان خلال مراسلاتهما، بدا ماكيغ وكأنه يتحدث بحرية غريبة إلى إيفان، إذ بعد مرور شهرين على تبادلهما للرسائل، ادعى هذا الأستاذ الجامعي بأن زميله في الكتابة بيير روبنسون، والمدونة فانيسا بيلي التي تقيم في دمشق يمكن الوصول إليهما عبر دبلوماسي روسي في جنيف وهو سيرغي كروتشيخ.

وقد حاولت بي بي سي التواصل مع ذلك الدبلوماسي للتعليق على الموضوع، لكنه لم يرد على طلبها، وكذلك فعلت فانيسا بيلي، التي ظلت تذكر على الدوام أنها مستقلة، وأن هدفها الوصول إلى الحقيقة بعيداً عن أي تحريض من قبل أي حكومة.

كما ذكر بيير روبنسون أنه مثل مثل أي باحث جيد، تواصل مع مسؤولين رفيعين لدى الحكومة وسياسيين وشخصيات في الجيش من عدة دول خلال عملية كتابته لبحثه.

صحفي رابتلي وهجوم دوما

هذا وقد تكرر إبداء ماكيغ لاستعداده لفضح عدد من الشخصيات الأكاديمية والصحفية البريطانية وتعريضها للتحقيق والبحث على يد رجل أوحى له بأنه عميل روسي، وذلك في بعض الرسائل الإلكترونية التي تبادلاها لاحقاً حول الشخصيات التي تتبوأ مراكز حساسة للغاية.

حيث لفت انتبه إيفان إلى صحفي يعمل لدى وسيلة إعلامية تمولها الدولة الروسية، وهي رابتلي، حيث كان هذا الصحفي يستعين بصحفيين محليين في دوما ليبحثوا في أمر الهجوم، وقد قام هذا الصحفي بنشر بعض المعلومات حول النتائج التي خلص إليها في عدد من الرسائل الإلكترونية التي أرسلها إلى ماكيغ وبيير روبنسون.

وهنا لاحت لهما فرصة ليثبتا بأن الهجوم على دوما كان ملفقاً، إلا أن الأمور لم تجر وفقاً لما تخيلاه، فقد وجدت رابتلي شاهداً ذكر بأن أولاده وزوجته قتلوا جميعاً في ذلك الهجوم الكيماوي.

عندها كتب ماكيغ لإيفان ليطلب منه أن يقوم بالتجسس على ذلك الصحفي الذي يعمل لدى رابتلي، حيث قال له: “أقترح أن يواصل مكتبكم مراقبة ما يفعله هو ومراسليه (إن كانوا موجودين أصلاً) دون أن يدري بأن أحداً قد أثار مخاوف تتصل به”.

كما قام ماكيغ بمشاركة إيفان بكامل المراسلات الإلكترونية مع رابتلي، فلو كان إيفان عميلاً حقيقياً، لأصبح بحوزته اليوم تفاصيل ومعلومات عن شاهد سوري لديه أدلة مخالفة لما ورد في الرواية الرسمية لبلاده.

في مطلع هذا الشهر، نشرت الحكومة البريطانية مراجعتها المتكاملة لسياستها الأمنية وسياسة الدفاع والتنمية والسياسة الخارجية ورد فيها ذكر روسيا 17 مرة بوصفها تمثل “التهديد الأكثر خطورة على أمننا”.

رد جامعة إدنبرة

وعندما طلب من جامعة إدنبرة التعليق على مراسلات ماكيغ مع إيفان أعلنت بأن حرية التعبير في القانون أمر مركزي بالنسبة لفكر أي جامعة، وبأنهم يسعون لتعزيز ثقافة تسمح بظهور هذا النوع من التعبير.

أما بول ماكيغ فقد رفض كل الدعوات التي وجهت له للظهور في أي مقابلة، لكنه ذكر عبر رسالة إلكترونية بأنه يعتبر نفسه ضحية لعملية معقدة تم الإيقاع به من خلالها، حيث قال: “أعتقد بأن الجهود التي بذلت في هذه العملية توضح بأني أصبحت مصدر قلق لفاعلين كبار في الدولة”.

وفي بيان نشر على الموقع الإلكتروني لمجموعة العمل هذه، كتب ماكيغ: “لقد نجح الأشخاص الموجودون على الطرف الآخر من هذا الفخ في الإيقاع بي ودفعي للكشف عن معلومات قدمها لي آخرون غير مخصصة للنشر، إلى جانب معلومات أخرى خضعت لعملية تزيين وتنميق. وهذا يعتبر فشلاً من قبلي ولهذا أعترف بمسؤوليتي عنه، كما أقدم اعتذاري لكل من يعنيهم الأمر”.

إلا أن هاميش دي بريتون-غوردون، مدير منظمة أطباء تحت النار غير الحكومية، والتي أطلقت حملات ضد الهجمات التي تستهدف المشافي في مناطق الحرب، ثارت ثائرته عندما أخبروه بأن ماكيغ أورد اسمه عدة مرات في رسائله التي وجهها إلى إيفان وبأنه وصفه بعميل معروف لدى جهاز الاستخبارات في بريطانيا، وهذا ما دفعه للرد قائلاً: “من المرجح أن هذا الشخص عرض حياة الكثير من الناس للخطر، ومن المحتمل أني واحد منهم”.

وقد أعلن دي بريتون-غوردون بأنه لم يسبق له أن تعامل مع أي جهة استخباراتية.

أما الدكتور محمد إدريس أحمد من جامعة ستيرلينغ، وهو أحد هؤلاء الذين طلب ماكيغ من إيفان جمع معلومات عنهم، فقد ذكر أن اكتشاف هذا الأمر لم يكن مفاجأة بالنسبة له، وذلك لأنه تعرض لهجوم من قبل مجموعة العمل هذه قبل هذا، ولذلك فإنه يتهمهم بنشر الشائعات حول تعامله مع وكالة الاستخبارات المركزية، هذا أولاً، وبعد ذلك بأنه عميل لدى جهاز الاستخبارات البريطانية.

في حين ذكر بيل ويلي بأنه اضطر لتنفيذ عملية الخداع التي امتدت لثلاثة أشهر لأنها كانت السبيل القانوني الوحيد أمامه والذي بوسعه أن يستخدمه حتى يعرف ما إذا كان هنالك أي فرع أمني يمكن أن يهدد الكادر العامل لديه أو الأرشيف الذي تحتفظ منظمته به، حيث قال: “لم تكن تلك عملية انتقام، بل إن ما دفعني للقيام بها هو خوفي على أمننا، ثم إن النتائج التي توصلنا إليها في نهاية الأمر تبرر تلك المخاوف… وبصرف النظر عن حماية مصادرنا والشهود لدينا وموظفينا، لابد لنا من حماية سمعتنا، لأنه في حال مرغت سمعتنا بالوحل، عندها سينقطع التمويل عنا، وفي حال توقف التمويل، لابد للعدالة أن تتضرر بشكل كبير”.

المصدر: بي بي سي /موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى