لم تكن الثورة السورية وليدة فعل قوى سياسية واجتماعية منظمّة، بل ردّة فعل شعبية على غطرسة رجال السلطة واستهتارهم بكرامة المواطنين وحقوقهم؛ وغضب واحتقان عميقين زرعتهما سياساتٌ مديدةٌ من الإذلال والقهر الممنهج اتبعها النظام في تعامله مع المواطنين. وهذا جعلها من دون رأسٍ يقود ويوجه وخطةٍ ترشد وتصوّب، ما سمح لقوى سياسية منظمّة معارضة من خارج صفوف الثوار بالقفز إلى مقعد القيادة والتحدّث باسم الثورة والادّعاء بتمثيل الثوار الذين وجدوا أنفسهم تابعين لشخصيات وأطر منظمة، ليسوا على تواصل مسبق معها، وليسوا على احتكاكٍ مباشر بها، أو تعاون وتنسيق في الساحات والميادين؛ لكنهم استسلموا للموقف، بحكم الضرورة، وعلى أمل أن يملأ هؤلاء فراغ القيادة، ويعزّزوا الثورة بخبراتهم وقدراتهم، ما رتّب نشوء حالة هجينة: جماهير تحرّكها العفوية والارتجال وأطر سياسية منظمة تتحرك بمعزل عنها ومن دون محاولة التأثير فيها وتوجيهها وترشيد خطاها؛ ما أسّس لمعادلة تفاضلية بينهما، حيث فقد الحراك الشعبي استقلاليته وقراره، وفقدت الأطر، مع مرور الوقت، وزنها ومكانتها السياسية، في ضوء عدم التقدّم على طريق تحقيق أهداف الثورة سياسيا، وخسارة الحراك الثوري معاركه ومواقعه.
قاد عدم وجود قيادة ذاتية للثورة، وعدم تفاعل القيادة السياسية في الخارج مع الثوار، إلى تكرّس حراك ثوري محلي بقوى وخطط محلية؛ فغدت الثورة ثوراتٍ تلتقي على تطلعات عامة، لا تجمعها خطة واحدة أو قرار واحد، تتضامن بالبيانات والتصريحات الإعلامية، وتتسابق على الموارد وتتصارع على الدعم الخارجي، فتضعف بعضها وتقلّص هامش تحرّكها وفرص انتصارها. وهذا قاد إلى خسارته “الحراك الثوري” معارك متتالية، وفقدانه السيطرة على مساحاتٍ شاسعة، كان قد استولى عليها في مرحلة الصراع بينه وبين النظام، بعد تحوّل الصرع إلى صراعٍ على سورية بانخراط قوى عربية وإقليمية ودولية وازنة فيه، وحصول النظام على دعم كبير، سياسي وعسكري ومالي، من إيران وأذرعها المذهبية ومن روسيا، ما أفقد القيادة السياسية للثورة في الخارج أوراق قوتها ووزنها، وكشفها للتأثيرات العربية والإقليمية والدولية، وحوّلها إلى تابع ضعيف للدول الداعمة، وحوّل أطرها إلى ساحة صراع لهذه الدول، تجسّد في تبادل المواقع القيادية وتدويرها، وفي الرضوخ للضغوط الخارجية والتلاعب الدولي.
لم تقف أخطاء القيادة السياسية عند عدم انخراطها في تفاعلٍ مباشر مع الثوار؛ وذلك ببقائها خارج ساحات الصراع وميادينه، حتى عندما كانت ساحاتٌ وميادين كثيرة تحت سيطرة الثوار وفصائل المعارضة المسلحة، بل زادت الطين بلة بانعزالها عن المواطنين، وحواضن الثورة الذين أجبروا على ترك قراهم وبلداتهم ومدنهم تحت ضغط القصف الوحشي، وبمختلف صنوف الأسلحة، الرشاشات الثقيلة والهاونات والراجمات والصواريخ والطائرات والبراميل المتفجرة والغازات السامة، والحصار والتجويع وقطع الماء والكهرباء والأدوية، في مواقع نزوحهم وهجرتهم؛ ليس لمواساتهم ومد يد العون لهم، وهذا أضعف الإيمان، بل ولتنظيمهم وتحويلهم إلى قوة فاعلة في معارك الثورة السياسية والإعلامية، للتأثير على مواقف الدول والمنظمات الأممية والرأي العام الدولي. ما انعكس سلبا على معنويات النازحين والمهجّرين، وتسبب بقطيعةٍ نفسيةٍ بينهم وبين القيادة السياسية، ترتب عليها انعدام الثقة وتوقع أي إيجابية يمكن أن تأتي عن طريقها. وهذا زاد في ضعف القيادة ومكانتها الوطنية ووزنها لدى القوى العربية والإقليمية والدولية.
وكانت نقطة ضعف القيادة السياسية الصارخة على هذا الصعيد، صعيد علاقتها بالثورة والثوار والحواضن الشعبية، احتفاظها برؤاها وتقديراتها السياسية والاجتماعية السابقة والتمسك بها، من دون اعتبار للبيئة السياسية والاجتماعية التي ترتبت على انطلاق الثورة والمشاركة الشعبية الواسعة غير المنظمة فيها، حيث بقي الشيوعي شيوعيا والقومي قوميا والإخواني إخوانيا. وحاول كل حزبٍ أو صاحب موقف من الشخصيات الوطنية توصيف الموقف، بما يؤكّد صحة منطلقه الفكري وموقفه السياسي، وكأن شيئا لم يحدُث في واقعنا المحلي والعربي والإقليمي والدولي، وكأن تغير المناخ السياسي والاجتماعي لا يستدعي تغييرا في الفكر والممارسة والتعاطي مع المتغيرات بأفكار ومواقف وخطط معدّلة أو جديدة، استجابة للواقع الجديد، فالتمسّك بأفكار ومواقف قديمة، قد تكون منطقيةً في ظروف أخرى، جزء هام من مسبّبات تعثرها وتخبطها وترهلها.
أما على صعيد تحرّك القيادة السياسية لتمثيل الثورة السورية لدى المحافل العربية والإقليمية والدولية، فكان خطأها، يمكن القول فشلها، أكبر، وضرره على الثورة أخطر من أخطائها سالفة الذكر، فقد اعتمدت في تحرّكها على قراءات وتقديرات تقليدية مرتبطة بخلفياتها القديمة، أو تقديرات سطحية، تتوقع حماية دولية على خلفية الشائع من شعارات وإعلانات عن قيم حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني الذي يحمي الشعوب من حكامها وجلاديها؛ في تجاهلٍ تام للقواعد والأعراف السياسية التي تحكم سياسات الدول والأنظمة المرتبطة بتحقيق مصالح الدول، أولا وأخيرا، وأسبقية المنفعة على القيم، والارتكاز على مؤسّساتٍ تقدّر وتوجه، ما يجعل رأي المسؤول، الرئيس أو الوزير أو المدير، محكوما بالمصلحة والمؤسسة، على الضد من السائد في الدول العربية وسورية، حيث لا دور فعليا للمؤسسة، والذي برز في تقديرات القيادة السياسية بشأن سياسة الإدارة الأميركية الجديدة إزاء الملف السوري، من خلال معلوماتها عن الشخصيات التي عينها الرئيس الأميركي الجديد، جوزيف بايدن، في البيت الأبيض والوزارة، في تعارض تام مع القواعد السياسية الأميركية، حيث الرئيس هو صاحب القرار في السياستين، الداخلية والخارجية، وقراراته تستند إلى تقديراتٍ مدروسةٍ بعناية، فحسابات الدول العظمى والكبيرة كونية، وتدخل فيها عمليات مساومات ومقايضات وربط ملفات ولجوء إلى المناورة بالتأجيل والتسويف والتمنع، والمراوحة في المكان لاستنزاف الطرف الآخر، وإرهاقه ودفعه نحو التسليم بالحلول والصيغ المطلوبة، ما يعني أنها متحرّكة متغيرة وفق المصالح والمنافع والظروف والتطورات. ودور مؤسسات البيت الأبيض والحكومة وشخوصها تقديم معطياتٍ وتقديرات موقف واقتراحات للرئيس، كي يأخذ قراره بعد الاطلاع على هذه المعطيات والتقديرات، وربطها بممكنات تحقيق الأهداف والمصالح الأميركية، ما يجعل دور موظفي الإدارة وقناعاتهم الشخصية ثانويا وغير مؤثر، ما لم ينجحوا في إقناع الرئيس بها.
وهذا يجعل مهمة القيادة السياسية للثورة وأطرها دقيقةً ومعقدة، بدءا من الفهم قبل الحكم، والفهم يستدعي أن تتقمّص دور صاحب الموقف أو القرار، وتفكر فيه من زاويته هو أولا، ومصالح بلاده، ثم تنظر في انعكاسه على الثورة، ومدى تأثيره على أهدافها ومصالحها، وتحكم عليه قبولا أو رفضا أو تحفظا، بما ينسجم مع أهداف الثورة وتطلعات السوريين، والسعي إلى إقناع الدول بأهمية هذه الأهداف والتطلعات وانعكاسها الايجابي على مصالحهم وبناء تقاطع مصالح مع كل منها يخدم الطرفين لدفعها إلى الانخراط في حلٍّ يلبي تطلعات المواطنين السوريين، ويحقق مطالبهم في الحرية والكرامة، عبر إقامة نظام يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، في ظل الدستور وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية. وهذا يستدعي عملا مؤسّسيا منسقا تقوم به أطر متفاهمة ومتعاونة، وهو ما لم تنجح القيادة السياسية في توفيره، حيث سادت الفردية والعصبوية والاختلافات والتندّر، فغلب على مواقفها وتقديراتها النمطية أو الغريزية التي كثيرا ما اتسمت بالقطعية والحدة، ما ضيّع عليها فرص التأثير على مواقف قوى سورية وعربية وإقليمية ودولية.
يستدعي إكمال المشوار، وقد دخلت ثورتنا المجيدة عامها الحادي عشر، إجراء مراجعة دقيقة وموضوعية للثورة، وأطرها السياسية والعسكرية، تقوم بها المؤسسات بمشاركة القوى السياسية والاجتماعية والمثقفين السياسيين، بعقد ندوات مفتوحة واجتماعات نخبوية، والاستعانة بخبرات عربية وصديقة، لإيجاد مخرج من حالة الركاكة والمراوحة في المكان، وفتح طريق للتقدم إلى الأمام في العملية السياسية، تطبيقا لقرار مجلس الأمن 2254 ومرتكزه بيان جنيف 1 الصادر في العام 2012.
المصدر: العربي الجديد