هناك أساليب عديدة استطاع الانسان من خلالها أن يعبر عما يدور بداخله، منها الكتابة ومنها الشعر وبعضهم النحت ويبقى الرسم هو الأسلوب الأكثر صعوبة حيث يتطلب من الفنان التحكم بالعمليات الكيمائية لمزج الألوان وثباتها من ثم دراسة علم المورفولوجيا ليتمكن أيضا من اظهار أحاسيس وتفاعلات الانسان لأن لغة الجسد لها دور بنقل ما يدور بداخل الانسان، نضيف الى ذلك السيطرة الكاملة على الضوء والظل، حيث من خلالهما يظهر أدق التفاصيل للإنسان وهذا ما أبدع به الفنان الهولندي بلوحته الشهيرة (أرميا).
كانت لعبة رمبرانت المفضّلة الضوء والظل حيث كان شغوفا على نحو خاص، كان قادراً على تصوير المشاعر الداخلية للناس من خلال الجوّ العام والملامح الشخصية.
أحد السمات التي تظهر كثيرا في لوحات هذا الفنّان العظيم هو تجسيده للفيلسوف المستغرق في التأمّل والعزلة.
في هذه اللوحة رسم رامبرانت النبيّ العبراني ارميا الذي تذكر كتب التاريخ أنه تنبّأ بتدمير أورشليم عاصمة مملكة يهوذا وقد استطاع أن يقوم بساقط عبر ريشته فمزج الفن والتاريخ والأساطير الدينة وخاصة لذاك العصر الذي كان يعتبر به ملتزماً دينياً وأظهر كيف تحققت
نبوءته عندما احتلّ البابليّون بقيادة نبوخذ نصّر عاصمة مملكة اليهود الجنوبية في العام 586 قبل الميلاد ثم قاموا بتدمير المدينة والهيكل قتل أعداد كبيرة من الناس ونفي العديد من وجهاء المدينة وسكّانها أسرى وسبايا إلى بابل.
كان ارميا يحذّر قومه اليهود من أن يحلّ بهم العذاب الوشيك نتيجة انغماسهم في الذنوب والمعاصي وبعدهم عن الله وعبادتهم الأصنام.
وعندما تواترت أنباء اقتراب الغزو البابلي تزعّم ارميا الفريق الذي كان يدعو إلى عدم مقاومة قوّات نبوخذ نصّر التي كانت متفوّقة عددا وعدّة، وذلك حفاظا على أرواح الناس وتجنّبا لما هو أسوأ وفقاً لما كانت تسرده لهم المراجع الدينية والمعززة بكبار فلاسفة العصر .
كان ارميا يرفض فكرة كانت رائجة في زمانه وهي أن اورشليم والهيكل يتمتّعان بقوى سحرية خفيّة نظرا لقداستهما، وأن الله – لهذا السبب – قادر على أن يحميهما من الهدم والانتهاك.
لكن الملك والكهّان وجزءا كبيرا من الشعب صمّموا على المقاومة واعتبروا موقف ارميا وأتباعه انهزاميا ووصموهم بالخيانة العظمى. ثم وضع رهن الاعتقال وبقي هناك إلى أن دمّر البابليّون المدينة بالكامل.
قضى أرميا بقيّة حياته باكيا أسفا على دمار اورشليم واستعباد شعبه، وألّف في ما بعد كتابا عن تلك الحادثة أسماه “سفر الأحزان”.
في العصر الذي عاش فيه ارميا كان العبرانيون منقسمين إلى مملكتين – إسرائيل في الجنوب ويهوذا في الشمال – وكانت المملكتان مجرّد حجرين صغيرين على رقعة صراعات الامبراطوريات الكبرى التي كانت تتنافس في ما بينها آنذاك من أجل المزيد من التوسّع والنفوذ.
في هذه اللوحة نرى ارميا مسندا رأسه إلى يده علامة الحزن الشديد، بينما يتّكئ مرفقه على مؤلف ضخم ُكتب عليه بأحرف صغيرة الإنجيل.
في خلفية المشهد بناء أسطواني الشكل يرجّح أنه معبد سليمان ، المكان شبه مظلم إلا من الوهج المنبعث من مباني المدينة المحترقة مسببة انغمار وجه الرجل في الحزن.
واضح أن أرميا اختار أن يلوذ بهذه المنطقة الصخرية المنعزلة كي ينفّس عن أحزانه فيما المدينة تحترق خلفه ، وهو هنا لا يبدي أيّ إحساس بالذهول أو الصدمة ربّما لأنه سبق وأن رأى ذات هذا المشهد مرّات عديدة في المنام.
الألوان الداكنة التي استخدمها رمبرانت بكثافة في رسم عناصر وتفاصيل هذه اللوحة تعزّز الشعور بفداحة الكارثة وعمق المعاناة والألم الدفين المرتسم على ملامح الرجل ، أما إذا نظرنا لإجمالي اللوحة التي رغم اللون الداكن المسيطر فنجد كيف من جرائه استطاع أن يظهر ما يريده بلعبة بسيطة ظل وضوء حتى دخل بأدق تفاصح الحزن واليأس على وجه أرميا وبالواقع هنا تكمن قوة الفنان الذي أوصل رسالته وما يكمن بداخله من تأثير بقصة هذا النبي والتراجيديا التي عاشها والتصوير الخلفي لإحتراق المدينة التي أبرزها بإشعاع لوني مع بعض اللعب بالريشة لترمز لحريق يأكل الأخضر واليابس وليبين أن النبوءة قد تحققت ونزل غضب الرب عليهم لخروجهم عن طاعته .
بتلك اللوحة نستطيع أن نقول أن علم الجمال والفن هو إلهام وتفكير من القلب والعقل معاً وليس مجرد تذوق فحسب بل تفسير وتحليل وتقويم لهذا التذوق كي تتناقله الأجيال ويحفظه التاريخ.