عبد الله مكسور كاتب سوري مغترب، ورواية أيام في بابا عمرو، هي أول عمل أقرؤه له، وهي جزء من ثلاثية تطال الثورة السورية، يليها عائد إلى حلب وطريق الآلام.
تبدو طريقة سرد الرواية وكأنها سيرة ذاتية للكاتب نفسه، تعتمد على البوح عن طريق تداعيات ما يعتمل داخل الكاتب بصفته الشخصية المحورية فيها. كما أنه يعتمد التسلسل في سرد الأحداث، وقد يقفز حسب التداعي بين حدث يعيشه في ذات اللحظة، وحدث يستعيده في ذهنه، ينتقل في روايته بطريقة شبكية في كل ما يخطر على باله، في تداعيات متتالية تشبه عمل الرسام الذي يعالج لوحته عبر ريشته والألوان والخطوط، تنمو اللوحة وتكتمل مع الانشغال بها اول بأول، لا تنتهي الرواية هنا في لحظة زمنية، بل يتركها مفتوحة على احداث قادمة في أجزاء الرواية القادمة.
تبدأ الرواية من الكاتب حيث يعيش في بلاد الغربة، من زمن بعيد. له أصحاب ناجي ابن بلده والنابلسي الفلسطيني، يتبادل معهم وجع الغربة والذكريات، يتناقشون دوما عن البلاد العربية التي تطرد أبناءها. النابلسي الذي تعيش فلسطين داخله، رغم كونها أصبحت محتلة بعضها من الكيان الصهيوني وبعضها الضفة والقطاع، وبعضها الفلسطينيين الموزعين في كل اقطاب الارض. الكاتب وناجي أبناء مدينة حماة، يستعيدون تاريخها ايام مجازر النظام في ثمانينات القرن العشرين، حين اراد القضاء على الإخوان المسلمين، فقضى على حي الكيلانية وعلى الكثير من اهلها، وسقط فيها الآلاف من الضحايا، يسترجعان القتل العشوائي المتعمد، وكيف عاش القليل من ناس احيائها ليحكوا شهاداتهم عن المجازر الوحشية. يتحدثون عن ذلك في الوقت الذي بدأ الربيع العربي في أوائل عام ٢٠١١م بتونس ثم انتقل لمصر وليبيا ووصلت شرارته الى سورية. يتحدث الكاتب مع ناجي وصحبه، هل نسي السوريين مجازر الثمانينات، وهل يستطيعوا كسر حاجز الخوف ويثوروا، يسكنهم الخوف من النظام الذي لن يتورع عن فعل اي شيء لكي يحافظ على السلطة ومكتسباتها له ولعصبته، هل ينتفض الناس والاهل والسوريين ضد هذا النظام؟.
للكاتب عدد من الروايات، كما أنه يفكر أن يكتب رواية يحكي فيها عن ثورة الشعب السوري، وقد يجمع بعض المواد ليصنع فيلما او افلاما وثائقية تقول ما حصل في سورية. قرر أن يعود الى سورية ليعيش التجربة بذاته ويجمع مواد روايته أو أعماله التوثيقية الاولى. يعلم أنه يخوض مغامرة كبيرة وقد يكون ضحية هذه التجربة، لكنه قرر أن يذهب الى الميدان ليتابع بنفسه. عاد إلى الأردن، له هناك أصدقاء وذكريات، كان دائما يعود الى سورية بزيارات متتالية، لم ينقطع عنها، له اهل واصدقاء وحبيبة لم يستطع أن يتزوجها، تزوجت غيره وأنجبت الاولاد. لكنها في ذاته تعيش دائما، له في كل أرض انثى يحبها، يعتقد أن قلبه بستان يسع النساء الكثيرات كما الورود، ولكل امرأة حضور ومعنى. المهم وصل إلى الأردن لم يسلم من اسئلة الأمن الاردني عن سبب الزيارة وخاصة انه صحفي، واستطاع المرور عندما أخبرهم أنه لن يعود الى سورية، بلده التي بدأت تنبذ أبناءها، وبدأوا ينزحون إلى مخيمات بنيت على عجل في الاردن، ودول جوار سورية والعالم كله. هروبا من القتل الذي بدأ يطالهم. لكنه جاء مغامرا بالعودة إلى سورية ليرى بعينيه، ويتأمل ما الذي يحصل، يجمع مادة روايته التي يود كتابتها وأفلامه التي يريد انجازها. وجد سيارة توصله الى دمشق، سائق يتحدث عن عصابات مسلحة وإرهاب ونظام يواجههم بما يستحقوا، هو صامت، السائق لا يؤمن جانبه، أغلبهم مخبرون عند الامن. في الحدود، سأله المسؤول الأمني لماذا جاء؟، وتوقف عند كونه صحفي، وتم التحقيق معه، وبعد أخذ ورد وانتظار، جاء قرار المراجع الامنية بالسماح له بالدخول إلى سورية.
من الحدود إلى الداخل، بدأ يلفت نظره القرى التي هجرها أهلها، والبلاد الخاوية، هنا مظاهر حرب. بدأت تستوقفه الحواجز الامنية والعسكرية، في احداها سأله الجندي عن هويته، أخبره أن لديه جواز سفر، وأنه لا يحمل هوية، أُنزل من الحافلة، واقتيد إلى ضابط، عامله بقسوة، وصادر جواز سفره كمرته واغراضه، احتجزه عنده مع غيره ممن تم توقيفهم على الحاجز. وهكذا وجد نفسه يساق الى أحد الفروع الامنية في حمص، عاش كل اهوال الاعتقالات التعسفية للناشطين، اعدادهم الكبيرة، المعاملة الوحشية والقاسية، إلى درجة قتل أحد المحتجزين قبل الوصول الى الفرع الأمني لمجرد احتجاج بسيط، أعداد الموقوفين كبيرة في الزنازين الامنية، حياة تشبه الجحيم.
بعد وقت من التوقيف يكتشفوا أنه معتقل بالخطأ، يخرج وفي ذمته أمانة يجب أن يتصل بأخ أحد المعتقلين الناشطين، الذي قتل تحت التعذيب أمامه، يقرر الذهاب إليهم في بابا عمرو ليلتقي باخ الناشط ويخبره بما حصل مع أخاه. يصل الى بابا عمرو، يلتقي بالناشطين، يرتابوا منه في البداية فالاختراقات الامنية للناشطين من قبل النظام كثيرة، لكنهم يثقون به اخيرا، عايش نشاطهم الإعلامي والتظاهر وبعض التجهيز العسكري الذي بدأ يتشكل، لمواجهة عنف النظام ووحشيته العسكرية. واكب الضربات الامنية، والقصف، والقنص الذي يستهدفهم كل الوقت، سمع منهم مبررات ثورتهم، أغلبهم من الجيل الشاب وكل له مبرر شخصي وعام للثورة، المظلومية، الاستبداد، القمع، الانتقام الشخصي من النظام لما فعله من مجازر وقتل في كل مكان. عايش هناك الكثير من المآسي. اجتياح الجيش للحي الذي يتواجدون فيه، هرب الناس، اختبأوا في أحد الملاجئ، ثم مغادرتهم الملجأ عندما هدأ القصف وهروبهم خوفا من المداهمة. احتماء الفتيات بالملجأ ثانية حيث لم يتمكنوا من الهروب خارج الحي. اجتاح الجيش المنطقة، بعساكره ودباباته، وصلوا للملجأ حيث الفتياة وجدوهنّ غنائم، اغتصبوا الفتيات المختبئات في الملجأ جميعا، كان صاحبنا مختبئا، شاهد كل شيء، قتل في نفسه احسيس كثيرة، ستعيش الفتيات حياة المأساة بعد الاغتصاب. ساعد في إنقاذ إحداهن، ضربها أحد الجنود حيث حاولت ضربه انتقاما لاغتصابها، لكنها لم تمت، حملها ونقلها للمستشفى الميداني بمساعدة الناشطين، تابع نشاط الطاقم الطبي بإمكانيات المتواضعة لإنقاذ ما يمكن انقاذه للمصابين الكثر.
بعد ذلك غادر صاحبنا بابا عمر الى حماة مجددا، يريد الوصول إلى اهله في بلده طيبة الامام بجوار حماه. مرة اخرى يقع صاحبنا ضحية اعتقال امني آخر، يكتشف أن اعتقاله الاول كان بديلا عن آخر تم دفع فدية من اهله عنه، وهذا يكشف الارتزاق بقتل الشعب وباعتقال الناس، وحتى بإطلاق سراحهم. الارتزاق بالتشبيح على بيوت هرب اهلها خوفا من الموت تاركين كل شيء خلفهم، وسلبها كل ما يمكن سلبه. هكذا اطلق النظام عصابته المسماة جيش وأمن لتقتل وتعتقل وتشرد الناس، وتدمر بيوتهم فوق رؤسهم. ويتركوها خراب، ويعيشوا مشردين في بلاد العالم.
صاحبنا يعتقل ليعترف أنه الاخر الذي قبض عليه باسمه، خاصة أن جواز سفره ووثائقه قد اتلفت. لكنه أخيرا يتم التأكد من شخصيته الحقيقية، ويطلق سراحه، ويتوجه الى حماة، التي يستعيدها من ذاكرته بحميمية قاسية، هنا كانت الكيلانية التي دمرت فوق رؤوس اهلها في ثمانينات القرن الماضي ايام الصراع بين النظام والإخوان المسلمين، وكيف اعلن النظام الحرب على الشعب السوري وصنع مجازر في حماة وغيرها راح ضحيتها عشرات الالاف. التقى شباب حماة من المتظاهرين والناشطين، إنهم يعيشوا اندفاعة الثورة، ويتظاهرون وينشدون هتافاتهم وما تفتقت به قريحتهم ضد النظام المستبد القاتل، يستحضر صاحبنا القاشوش منشد الثورة، وكيف تم الانتقام منه قتلوه وانتزعوا حنجرته التي صدحت: يالله ارحل يا بشار…. كانت حماه تغلي وشبابها متهئين لأيام طويلة من الاستعداد للأستمرار بالتظاهر والثورة، لعلهم يعيدون كتابة تاريخ جديد لمدينتهم المكلومة.
من حماه توجه صاحبنا الى بلدته طيبة الامام، وصل الى هناك بصحبة بعض الناشطين، بعد تجاوز الكثير من الحواجز الامنية والعسكرية. التحق بعائلته واخوته الذين كانوا من ناشطي التظاهر والثورة، عايش اجتياحا على البلدة، وكيف اختبأ في بئر المنزل، وكيف استطاعت أمه انقاذ اخويه من اعتقال حتمي. الاعتقال يعني الحبس والغياب والقتل للناشطين في اغلب الاحيان. بقي صاحبنا وقتا عند اهله ثم جاءه اتصال يطلبه أن يغادر ويعود من حيث اتى.
هنا تنهي الرواية بكلمة يتبع…
وفي الحديث عن الرواية اود التأكيد أن الجانب الشخصي الذاتي مع الواقع العام المعاش، منسوج من قبل الكاتب بحرفية رائعة جعلتنا نعيش الثورة وما يدور في نفسه وحياته، ممتزجا، صانعا فرادة التجربة وعمقها بصفتها ذاتا انسانية تتحدث عن نفسها، فلا تسلسل زمني خطي، بل ذات تسبح في فضاء الذاكرة واستحضار كل ما يراود النفس لتبدع صيغة متقنة عن الحياة المعاشة خارج ذات الكاتب وداخله بذات القوة وذات العمق والتناغم. يحضر الكاتب “الانسان” بصفته كذلك اولا، انسان له كيانه الوجودي النفسي المعرفي الوجداني الاجتماعي. صاحبنا يحب، والمرأة حاضرة كحبيبة كل الوقت في كل الامكنة، بما فيها الزوجة الفلسطينية المسيحية، بلفتة ذكية لتجاوزه الذاتي لحواجز الأديان في اختيار الشريك. الحب الذي يراه يانعا في نفسه دوما، فما الانسان دون الحب المعاش ؟!، او الذي يتغلغل عميقا في الذاكرة، والمستحضر دوما كغابة عطر وواحة في صحراء الحياة. يحضر التاريخ المعاش، فلا يوجد انسان سوري دون أن يكون له ندبة نفسية حياتية وجودية من مظلومية ما مع النظام المستبد السوري، قبل الثورة، وفي اثنائها للآن.يستعيد صاحبنا مدينته حماة وما اصابها في أهلها وعمرانها من قتل ودمار. لا شيء يذهب للنسيان، حاضر بالعمق، وقودا ومبررا للثورة التي حصلت. وعن الغربة يحدثنا صاحبنا، حتى في الغربة يلتم الغرباء على بعضهم ليتحدثوا عن اوجاع الوطن الكبير جامع العرب وجامع اوجاعهم ومعاناتهم. يأسرني هذا الانتقال من حدث الى حدث، من مشاعر معاشة الى اخرى بانسيابية ومهارة، كما النحلة تنتقل من زهرة لاخرى بعشوائية لكنها لتجني عسلا متنوعا رائع المذاق جميل الرائحة، يجدد للحياة معناها.
كما اني اعيد التأكيد أن الرواية ابدعت في ابلاغنا عن واقع الثورة والتظاهر وعمقه في الشباب واستعدادهم للتضحية وكيف تحدوا المستحيل واسقطوا جدار الصمت والخوف و دفعوا الثمن الاغلى؛ فقدان الحياة و الحرية. كما أدخلنا في عمق النظام حتى غرفة نوم الرئيس وكيف يستطيع أن يكون قاتلا لشعبه ويعيش حياة سوية مع زوجته واطفاله، الى اي درجة هذا الانفصام النفسي والسلوكي الاجرامي. كذلك عند الاجهزة الامنية والعسكرية، الذين تصرفوا بوحشية منقطعة النظير، كيف يقتلون في اقبية الامن او الشوارع ويعيشون حياتهم العادية والحميمية مع اهلهم ومن حولهم. عن غريزة العبيد وتنفيذ الأمر يتحدث، وعن عقيدة التجييش ضد الاخر المحكوم المستعبد واستباحته انسانيا وهدر كرامته وحياته. عن القطيع المستفيد من خلق الدمار والقتل دون أي حساب لما سيؤول اليه هذا الفعل الوحشي، وأنه سيحاسب عليه كل المجرمين، ولو بعد حين. والناس الذين انقسموا بين ثائر سلمي ومسلح وصامت خائف، وبعض الانتهازيين الذين يبيعون اهلهم للشيطان. الشعب الذي قتل واعتقل وتهجر، والبلاد التي دمرت. هكذا فعل النظام لمواجهة الثورة. للحديث صلة مع اجزاء الرواية الاخرى.