خلال مدى زمني قصير نسبيًا، لا يتعدى ثمانية شهور، من هذا العام، فقدت حلب الشهباء ثلاثة من أبنائها البررة ورجالها الكبار الذين يجمعهم تاريخ طويل من النضال الوطني والقومي، فضلًا عن تفانيهم في سبيل مدينتهم العريقة حلب الشهباء التي كانت في التاريخ الحديث قلعة من قلاع الكفاح والنضال الوطني والعربي، حيث عاشوا فيها معظم سنوات حياتهم وأعمارهم.
كان أولهم القائد الفذ عبد المجيد منجونة الذي وافته المنية في 29 يناير/ كانون الثاني، ولحقه رفيق طريقه وصديقه المقرب عبد المجيد حمو الذي غادر دنيانا في 9 أيلول/ سبتمبر الماضي، كأنه لم يطق الحياة بعيدًا عن صديق عمره الأقرب إليه على كل الصعد الانسانية والسياسية والفكرية. وكان آخرهم المناضل الراحل نجيب ددم ثالث الإثنين خالدي الذكر الذي لحق برفيقيه فجر الأحد 04/ 10/2020 .
لقد مثل الثلاثة علامات فارقة في نضالهم وتفانيهم من أجل قضايانا الوطنية الكبرى التي آمنوا بها، وضحوا في سبيلها، وشكلوا معًا كتلة صلبة ذات وزن وأثر بالغ في تاريخ العمل الحزبي السياسي والوطني الديمقراطي في حلب أولًا، ثم اتسع دورهم وتأثيرهم الكبير إلى كامل الأفق الوطني السوري، كان هناك طبعًا آخرون كثر لا ينبغي لأحد تجاهلهم وإغفال تضحياتهم وأدوارهم منذ محمد مرشحة الى جلال حاج نجيب.. إلخ إلا أن الثلاثة الذين رحلوا في أوقات متقاربة تميزوا بدرجة عالية من الشراكة السياسية والانسانية، وتركوا بصمات لن تمحي من تاريخ الشهباء الحافل بالمآثر والمفاخر المشرفة، ففي السنوات التي سبقت اندلاع ثورة الحرية والكرامة المباركة 2011، كان الثلاثة أعضاء في المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، إضافة للمغيب قسريًا، أو المعتقل، منذ نهاية نوفمبر 2013 المناضل البارز (الحلبي أيضًا) رجاء الناصر، فشكلوا علامات مضيئة، ليس في تاريخ العمل الحزبي والوطني وحسب، بل في العمل القومي العربي، إذ كانوا أعضاء بارزين في المؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي الاسلامي، وفي المنظمة العربية لحقوق الإنسان، ومنظمات أخرى حقوقية وسياسية سورية وعربية، كالمؤتمر الناصري العام، و قبل ذلك وبعده في الجمعيات الخيرية في مدينة حلب، حيث كانت وصية وتوجيهات الراحل الكبير، وزعيم الحزب، الدكتور جمال الأتاسي، الانخراط في العمل الخيري ومنظماته الفاعلة، بما يمكن فلسفته ب(الهجرة إلى الجماهير).
وتجدر الإشارة الى أن آخر ما جميع بين الثلاثة هو الاعتقال الطويل في غياهب حافظ الأسد وزنازين أجهزته القمعية لمدد متفاوتة، خصوصًا عبد المجيد منجونة وراحلنا اليوم نجيب ددم.
بعد رحيل الدكتور جمال الأتاسي في أواخر آذار/ مارس عام 2000، ومع بدء الحراك السياسي فيما سمي بربيع دمشق، الذي غدر به نظام الأسد الابن، شكل الثلاثة لوبيًا متحركًا لا يهدأ ولا يتوقف، حيث كنا نجدهم في كل مكان، معًا، أو فرادى، أو بشكل ثنائي، في مظاهرات نصرة العراق وفلسطين، وفي إحياء المناسبات الوطنية كعيد الجلاء، وفي محاكمات النشطاء، وفي العمل النقابي، وفي المراكز الثقافية والمنتديات، وحتى منها التابع للنظام، يناقشون ويقارعون الحجة بالحجة، يجولون بين مدن سورية من أقصاها لأقصاها، من درعا والسويداء جنوبا، إلى دير الزور شرقا، والحسكة شمالا، ويطوفون بين عواصم العروبة المتعددة، من بغداد وبيروت، إلى القاهرة وتونس، بل ووطأت أقدامهم عواصم عالمية دفاعا عن قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية.
كانت مكاتبهم الخاصة، ومنازلهم، مشرعة الأبواب أمام الجميع للحوار وتبادل الرأي، والندوات السياسية للعامة والخاصة، في القضايا ذات الأولوية الوطنية، أو إحياء لمناسبات قومية كذكرى ثورة 23 يوليو/ تموز، وفي كل ذلك لم يبخلوا في تقديم الغالي والثمين، دفاعا عما آمنوا به، ونذروا أنفسهم له، على حساب حيواتهم الخاصة، وفي كل ذلك تعرضوا للكثير من المضايقات من أجهزة النظام الارهابية، يشهد على ذلك كل من عرفهم من القوى السياسية والشخصيات الوطنية العامة.
لقد تميز الرجال الثلاثة بالتزامات قيمية مبدئية ومناقبية رفيعة، سواء لجهة الاتزان والحكمة والاعتدال والواقعية، أو بالنظر لتواضعهم واستقامة سلوكياتهم ونبلها، أو لصلابة مواقفهم ووضوح رؤيتهم، الأمر الذي يحتم علينا القول بحق، وحيادية تامين، إن فقدان كل واحد منهم يمثل خسارة حقيقية وكبيرة، لا تعوض، للعمل العروبي، أو القومي، ولحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي، ثم للعمل الوطني الذي يعاني أزمة بنيوية عميقة، في وقت تحاول كل القوى الوطنية الثورية، التأسيس لوطن تعددي ديمقراطي جديد، يطوي عقودا من الاستبداد والفساد.
رحم الله النجيب نجيب ددم، والمجيدين، عبد المجيد منجونة وعبد المجيد حمو، ورحم الله من سبقهم ومن سيلحقهم من قامات العمل الوطني والعروبي، الذي خسرناهم في الفترة الأخيرة، المحامي جلال حاج نجيب والدكتور عبد الكريم المويل، وندعو الله أن يفرج عن رجاء الناصر، أبو طلال، وعبد العزيز الخير وكل القادة الوطنيين المعتقلين بلا وجه حق في زنازين السلطة الغاشمة سوى أنهم لم ينصاعوا لإرادة الطاغوت الذي وضع عبادته شرطا من شروط الانتماء للوطن.
لا يتسع هذا الحيز الضيق لذكر جميع المغيبين قسرا والشهداء والراحلين بسبب الطغيان والارهاب، خصوصا إذا خرجنا من النطاق الجغرافي لمدينة حلب إلى عموم الوطن السوري.
يبقى لي أن أقول بعد رحيل هؤلاء والفراغ الكبير الذي تركوه، أني مدين بالعرفان لهم، فقد تعلمت منهم الكثير واستفدت منهم أكثر، لمرافقتهم في مرحلة من مراحل حياتي، بين بدايات عام 2002 وأواسط 2008، وما زلت أشعر بالاعتزاز والفخر بمرافقتي لهم في مسيرة عمل لم يهدأ يوماً، أو ينقطع لحظة، وأتوقع منذ الآن أني فيما لو قدر لي العودة إلى حلب، ذات يوم، – أرجوه قريبا- سأشعر بوحشة قاسية في المدينة التي جمعتني بهم ومعهم في سنوات النضال المريرة، بسبب غياب من كانوا لي سندا وموئلا ، ولنا جميعا على المستوى الشخصي والوطني، فقد كان هؤلاء نقاط علام مضيئة في تضاريس المدينة التي ضاقت بأحلامنا.
إن العين لتدمع، والقلب ليحزن، ولكننا لا نقول إلا ما يرضي الله، ولا حول ول اقوة الا بالله العلي العظيم.
اللهم تغمد هؤلاء المجاهدين بواسع رحمتك، وأطل بأعمار من بقي من أخوة ورفاق قابضين على جمرات أحلامنا الكبيرة، اللهم وعوضنا عنهم خيرًا.
في الفم ماء …وفي البال أحلام وحكايات.
شكرا لكم على هذا المقال واتمنى لكم ولجميع الاخوة الصحة والسلامة في وطن حر وعزيز لا يسعني في هذه العجالة الا تقديم بطاقة الشكر والعرفان لجميع من واسانا ووقف معنا في هذا العام وانه لعام حزن شديد على فقدان الفرسان العروبيين الثلاثة وآخرين وانا لله وانا اليه راجعون