يحمل مخيم اليرموك جنوبي العاصمة السورية دمشق رمزية كبيرة لدى مجمل الفلسطينيين بوصفه “عاصمة الشتات الفلسطيني”. وعلى غرار بقية المخيمات، ومجمل الوجود الفلسطيني في سورية، تعرض المخيم لمحنة كبيرة خلال الحرب السورية، اشتملت على تدميره بشكل كلي تقريباً، وتشريد سكانه. وهو ما ينطبق على الوجود الفلسطيني كله في سورية، الذي بات مهدداً بالتصفية إلى حد بعيد.
وبعد صدور المخطط التنظيمي نهاية يونيو/حزيران الماضي، تقدم من تبقى من أهالي اليرموك في سورية بآلاف الاعتراضات على هذا المخطط الذي يهدد بحرمان نحو 60 في المائة من سكان المخيم من ممتلكاتهم وحقهم في العودة إليه، بزعم أن مناطقهم متضررة كلياً، ولا يمكن إعادة بنائها، كما لا يمكن التعويض عليهم لأن الأرض التي بنوا أماكن سكنهم عليها تعود لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، وليست ملكيتهم الشخصية.
مخطط تنظيمي
ويتضمن المخطط التنظيمي الذي يعترض عليه الأهالي تشييد أبراج بارتفاع 13 طابقاً، إضافة إلى كتل سكنية من مبانٍ بطوابق عدة، من دون منح سكان المنطقة المشمولة في التنظيم بدائل سكنية، بل أسهماً تنظيمية وفق المرسوم التشريعي رقم 2 لعام 1982، وفقاً لإعلان مديرية الدراسات الفنية في محافظة دمشق في 7 يوليو/تموز الماضي. وتتحجّج المديرية بأن الأرض، من الناحية القانونية، مِلك لوكالة اللاجئين الفلسطينيين والأهالي لا يملكون فيها سوى المباني فقط، أما العقارات التي بنيت في المخيّم بشكل مخالف، وفي حال تهدمها، فلن يسمح ببنائها بشكل مخالف، وسيطبّق عليها التنظيم.
ومن المقرر أن تبتّ لجنة مكوّنة في غالبيتها من مندوبين عن السلطات السورية المختلفة، مقابل مندوب واحد عن الأهالي، في الاعتراضات المقدمة من الأهالي الفلسطينيين والسوريين على المخطط الذي صدر عن محافظة دمشق في 25 يونيو/حزيران الماضي، لمنطقتي مخيم اليرموك والقابون. ولم يصدر بعد أي قرار بشأن مصير هذه الاعتراضات، غير أن مدير الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية أنور عبد الهادي المقيم في دمشق، أشاد في تصريح نقلته في 25 أغسطس/آب الماضي صحيفة “الوطن” القريبة من النظام، بـ”الدور الهام الذي تقوم به محافظة دمشق لإعادة بناء وترميم مخيم اليرموك، وحرصها على المحافظة على ممتلكات أهالي المخيم من سوريين وفلسطينيين، من خلال إعادة النظر بمخطط شركة الدراسات للمخيم”. وأضاف: “إننا على ثقة أن الحكومة السورية ومحافظة دمشق لن تعتمد أي مخطط تنظيمي جديد يضر بأهالي المخيم من سوريين وفلسطينيين، تنفيذاً لتوجيهات الرئيس السوري بشار الأسد الذي وجه منذ تحرير مخيم اليرموك من الإرهاب، بالعمل على إعادة أهله إليه”.
وفي تعليق له على تصريحات عبد الهادي، رأى صحافي فلسطيني مقيم في دمشق طلب عدم ذكر اسمه أن هذا الكلام “مجرد تطمينات كاذبة تفتقد أية مصداقية”. وأضاف في حديثٍ لـ”العربي الجديد” أن “عبد الهادي يعرف قبل غيره أنه لو كانت سلطات النظام السوري تنوي إعادة سكان المخيم، لما قامت بتدميره بشكل متعمد وتهجير سكانه، ومن ثم نهب كل ما سلم من التدمير من ممتلكات الأهالي بطريقة منظمة وبمشاركة قوات عسكرية نظامية”. واعتبر أن السلطات لا تنوي السماح بعودة المخيم إلى وضعه السابق، لا من ناحية كونه يضم أكبر تجمع لفلسطينيي الشتات، ولا من ناحية الاستقلالية الإدارية النسبية للمخيم، والذي كانت تتشارك في إدارته وزارة الإدارة المحلية مع وكالة “أونروا” والمجتمع المحلي في المخيم. وقد أُلحق المخيم بمحافظة دمشق التي باتت تعتبره مجرد حي من أحيائها، ويحق لها “إعادة تنظيمه” وفق رؤيتها، من دون النظر إلى الرمزية السياسية والمعنوية للمخيم في الهوية الوطنية الفلسطينية المعاصرة.
الفلسطينيون في سورية
قبل اندلاع الثورة في سورية عام 2011، كانت الإحصائيات الصادرة عن “أونروا”، تشير إلى أن عدد اللاجئين الفلسطينيين في سورية، يزيد عن نصف مليون شخص، يتوزعون على ست محافظات، لكن الكتلة الأكبر منهم كانت في دمشق، تحديداً في مخيم اليرموك الذي كان يقطنه قبل 2011 نحو 160 ألف فلسطيني. وقد وصل الفلسطينيون إلى سورية على دفعات، كانت الأكبر مع قيام إسرائيل عام 1948، وبلغ عدد الدفعة الأولى آنذاك 85 ألف شخص، قبل أن تصل موجات أقل حجماً في الأعوام 1956 و1967 و1970. وتوزع هؤلاء على تسعة مخيمات رسمية للاجئين الفلسطينيين معترف بها من قبل “أونروا”، إضافة إلى ثلاثة مخيمات أخرى غير رسمية.
مع انطلاق الثورة السورية في 2011، استُدرج المخيم إلى المواجهات بين النظام والمعارضة أواخر عام 2012، بعد أن ظل خلال الفترة السابقة، مقصداً للكثير من النازحين عن المناطق المجاورة جراء المعارك فيها. وكانت النقطة الأبرز في محنة المخيم في تاريخ 16 ديسمبر/كانون الأول 2012، حين قصفت طائرة تابعة للنظام السوري مسجد عبد القادر الحسيني ومدرسة الفالوجة وسط المخيم، ما أسفر عن مجزرة راح ضحيتها 150 مدنياً بين قتيل وجريح. بعدها شهد المخيم أكبر موجة نزوح للأهالي، ترافقت مع انتشار شائعات تفيد بعزم قوات النظام على اقتحامه، فخرج آلاف الفلسطينيين والسوريين منه، غير أن آلافا آخرين ظلوا داخله. ومع بداية عام 2013، بدأ النظام يضيق على هؤلاء من خلال فرض حصار جزئي في البداية، ثم كلي، مع قطع سبل الحياة عنه من ماء وكهرباء ومواد غذائية وطبية، ما أدى إلى وفاة نحو 200 شخص من الجوع والمرض.
والمرحلة الثانية من خطط النظام لتصفية المخيم، كما يقول مراقبون، هي تمكين عناصر تنظيم “داعش” من الوصول إليه والسيطرة على معظم مساحته مع حلول ربيع 2015. وأدى ذلك إلى نزوح آلاف السكان إلى البلدات المجاورة، ولم يبق في المخيم سوى بضع مئات العائلات، قبل أن يبدأ النظام السوري عملية عسكرية واسعة بدعم جوي روسي في ربيع 2018 اشتملت على قصف جوي ومدفعي وصاروخي مكثف. استمرت العملية لنحو شهرين من دون مبرر عسكري، وكان الهدف تدمير المخيم بحجة محاربة “داعش”.
وذكر مراقبون أن عناصر التنظيم كانوا محدودي العدد والتسليح، ولا ينتشرون في كل المخيم، ولم تكن قوات النظام عاجزة عن اجتياح المنطقة العسكرية من دون تدميرها بشكل شبه كلي. وأدت هذه الحملة إلى تدمير نحو 80 في المائة من مباني المخيم وبناه التحتية، بينما خرج معظم عناصر “داعش” سالمين، ونقلهم النظام بالحافلات إلى بادية السويداء.
وأعقب ذلك فصل آخر من التدمير والقهر لسكان المخيم، عبر قوات النظام ومليشياتها، من خلال عمليات سلب منظم لممتلكات الأهالي، طاولت حتى شبكات المياه والصرف الصحي والتمديدات الكهربائية في المنازل، واستمرت بعد ذلك لفترة طويلة، في رسالة فسرها الأهالي بأنها متممة لرسالة تدمير المخيم، بأن عليهم أن ينسوا أمر العودة لهذا المكان. وفي الأسابيع الأخيرة، جرى تداول أخبار عن سماح أجهزة النظام الأمنية بعودة بعض العائلات المهجرة إلى مخيم اليرموك، لكن ناشطين أكدوا أن العائلات التي سمح لها بالعودة أغلبها تخص مقاتلين يعملون في مليشيات عسكرية موالية للنظام، سورية وفلسطينية. وذكر موقع “صوت العاصمة” المحلي أن الأفرع الأمنية أعطت الإذن لـ 150 عائلة بالعودة إلى المخيم، أغلبهم عائلات عناصر من الأمن العسكري والفرقة الرابعة، ومقاتلين في فصيلي “الجبهة الشعبية – القيادة العامة” و”فتح الانتفاضة” وغيرها من الفصائل الفلسطينية التي قاتلت إلى جانب النظام.
أبرز التجمعات الفلسطينية
وحسب معطيات المجموعات الإحصائية السورية، يتركز 69 في المائة من إجمالي مجموع اللاجئين في دمشق، والمخيمات القائمة في ضواحيها مثل اليرموك، والسبينة، وجرمانا، وخان الشيح، والسيدة زينب، وخان دنون، والرمدان، والحسينية. في حين يتوزع الباقون على المحافظات الأخرى، مثل اللاذقية وحلب وحماة وحمص ودرعا، والمخيمات القائمة فيها. وبشكل عام، كان يقطن في 9 مخيمات معترف بها من قبل “أونروا” في سورية نحو 30 في المائة من إجمالي اللاجئين، وترتفع النسبة إلى 60 في المائة مع احتساب سكان مخيم اليرموك. ولا تشمل الأرقام المذكورةُ أعداد الفلسطينيين الذين وفدوا إلى سورية عامي 1967 و1970 كونهم غير مسجلين في قيود “أونروا” في سورية.
والمخيمات المعترف بها رسمياً من جانب “أونروا” هي: مخيم النيرب في مدينة حلب (19 ألف فلسطيني)، ومخيم حماة (8 آلاف شخص)، ومخيم حمص (22 ألف شخص)، ومخيم خان الشيح، جنوبي غرب دمشق (19 ألف شخص)، ومخيم خان دنون، جنوبي دمشق (10 آلاف شخص)، ومخيم السبينة، جنوبي دمشق (21 ألف شخص) ومخيم السيدة زينب جنوبي دمشق أيضاً (30 ألف شخص)، ومخيم جرمانا قرب دمشق (19 ألف شخص)، ومخيم درعا جنوبي البلاد (13 ألف شخص). أما المخيمات غير الرسمية، فيأتي في مقدمتها مخيم اليرموك، إضافة إلى مخيم الرمل في اللاذقية، ويضم نحو عشرة آلاف فلسطيني، ومخيم حندرات في مدينة حلب ويضم 5500 فلسطيني. وقد تعرضت جميع هذه المخيمات لتدمير كبير يصل إلى 70 في المائة منها، جراء القصف والعمليات العسكرية بين النظام وقوى المعارضة.
وعلى سبيل المثال، فإن مخيم السبينة والذي يعتبر بشكل عام من المناطق الفقيرة والعشوائية، تشير تقديرات إلى أن أكثر من 80 في المائة من مبانيه تعرضت لتدمير شبه كامل. وحتى البيوت التي لم تدمّر، ويتهم أصحابها بموالاة المعارضة، تم حرقها، بعد دخول قوات النظام والمليشيات العراقية للمخيم في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2013. وقد أعلنت الجهات الرسمية السورية عن بدء أعمال الصيانة في المخيم منذ عام 2014، وعاد بالفعل جزء من سكان المخيم، لكن كثرا منهم باتوا يبحثون عن بدائل بسبب انعدام الخدمات وتدمير البنى التحتية بشكل شبه كلي، وعدم بذل سلطات النظام أية جهود لتخديم السكان.
ويعتبر مخيم السيدة زينب بريف دمشق من أكبر المخيمات الفلسطينية المعترف بها في سورية، إذ يبلغ عدد سكانه نحو 30 ألف لاجئ وكان أقيم بين عامي 1967 و1968 على بعد 15 كيلومتراً جنوبي دمشق كأحد مخيمات الطوارئ التي أنشئت بعد حرب يونيو/حزيران 1967. وبسبب وجود مقام السيدة زينب والعديد من الحسينيات، تسيطر على المخيم والمنطقة بشكل عام المليشيات الإيرانية والعراقية، والتي تبذل محاولات مستمرة للاستيلاء على ما بقي من منازل في المنطقة سواء بالقوة، أم عبر عمليات شراء مستغلة مخاوف سكانه النازحين داخل سورية وخارجها.
وفي الجنوب السوري، قُتل أكثر من 330 فلسطينياً في محافظة درعا جراء قصف قوات النظام، والعمليات العسكرية مع فصائل المعارضة المسلحة. وتشير تقديرات إلى أن 70 في المائة من منازل مخيم درعا، تم تدميرها بشكل شبه كامل وذلك بسبب القصف المدفعي والغارات الجوية التي استهدفت المخيم. وفي شمال البلاد، تعرض مخيم النيرب بمحافظة حلب للقصف والتدمير، خصوصاً مع مشاركة بعض أبنائه في القتال إلى جانب قوات النظام من خلال “لواء القدس”. وقد هاجر معظم سكانه إلى تركيا والبلدات المجاورة، ويتعرض من بقي منهم إلى ملاحقات أمنية لإجبارهم على الالتحاق بالمليشيات التابعة للنظام.
والواقع أن المخيمات الفلسطينية، ومجمل الوجود الفلسطيني في سورية، تعرّضت لتدمير شديد عمرانياً وسكانياً ورمزياً. وسواء تم ذلك، نتيجة خطة مبرمجة، أم جاء في سياق الحرب السورية التي طحنت المجتمع السوري برمته، فمما لا شك فيه أن الوجود الفلسطيني في سورية لن يعود كما كان أبداً، بالنظر إلى نزوح أكثر من ثلث الفلسطينيين عن سورية، بينما ينتظر آلاف آخرون الفرصة للمغادرة. ومع وصول معظمهم إلى البلدان الأوروبية التي بدأوا فيها حياة جديدة، يصعب تصوّرهم التخلّي عنها، بعد فقدانهم كل ممتلكاتهم في سورية التي يلف مستقبلها الغموض. وحسب “أونروا” فإن 438 ألف لاجئ فلسطيني في سورية اضطروا إلى النزوح مرة واحدة على الأقل داخل سورية. أما حالياً فإن 280 ألف فلسطيني نزحوا داخل سورية، بينما هاجر 150 ألفاً آخرين إلى البلدان المجاورة وأوروبا. ووفق تقديرات “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية”، فإن ثلث اللاجئين الفلسطينيين السوريين (حوالى 170 ألف شخص) غادروا سورية خوفاً من القصف والاعتقال الذي طاول المئات منهم.
المصدر: العربي الجديد