
صدر قرار مجلس الأمن، 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، ليضفي شرعية دولية على مخرجات قمّة شرم الشيخ التي كرّست خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في قطاع غزّة خصوصاً، وفي الشرق الأوسط عموماً، إذ يرحّب بالخطّة المكونة من 20 نقطة، واتخذ بتأييد 13 عضواً وامتناع روسيا والصين عن التصويت، واعتمده المجلس مقدّماً من الولايات المتحدة، وهو يأذن بإنشاء “قوة دولية مؤقتة لتحقيق الاستقرار في قطاع غزّة”. وقد أثار القرار جدلاً كثيراً، لأنه حاز شبه إجماع، في حين فشل المجلس نفسه سابقاً مرّات في وقف الحرب الطاحنة التي استمرّت سنتين وأودت بحياة عشرات آلاف من الفلسطينيين وأدت لجرح مئات الآلاف وتدمير شبه كلي لكل معالم الحياة في القطاع، وارتكاب إبادة جماعية. الأمر الذي يدفع إلى استخلاص أن مجلس الأمن أداة طيّعة بيد الولايات المتحدة، تجعله تحت إمرتها لشرعنة قراراتها وسياساتها في الشرق الأوسط، فحين قرّرت استخدام حق النقض (الفيتو) داخل المجلس لعرقلة مشاريع القرارات الداعية إلى وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة إلى القطاع المنكوب، لم يستطع أي طرف أن يتحدّى إرادتها أو يلجمها، ففرضت وصاية على سلطة المجلس ونفوذه واستخدمته غطاءً سياسيّاً لحماية الكيان الصهيوني، ولتبرير حرب الإبادة التي يشنّها على الشعب الفلسطيني، ووفّرت له حصانة دولية مشينة ومعيبة في حق مجتمع دوليٍّ توافق على جعل مجلس الأمن أداة لإحلال الأمن والسلم الدوليين، ولحماية حقوق الإنسان وكرامته.
وباعتبار أن المعارضة الصريحة لأحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن وحدها كفيلة بإزاحة القرار وتعطيله، فإن العضوين الدائمين اللذين يشكلان غالبا قوتين مضادّتين للإمبريالية والهيمنة الغربية، الصين وروسيا، امتنعا عن التصويت ولم يستعملا “الفيتو”، لكل منهما أسبابه غير المعلنة، فروسيا تخشى التصعيد داخل المجلس حتى لا تثير حفيظة الولايات المتحدة ورئيسها ترامب، فالمهادنة بينهما هي الأنسب ظرفياً، ولا سيما أمام الاستنفار والقلق الأوروبيين بشأن أوكرانيا خصوصاً. أما الصين، فمصالحها الاقتصادية على المحكّ، ولا سيما إثر الرسوم الجمركية المشطّة التي فرضها ترامب على صادراتها، وتخشى، إذن، أن يعرقل “الفيتو” المحتمل البحث عن تفاهماتٍ لتجاوز الخلافات بين الطرفين، ولبناء تهدئة في خضم مناخ اقتصادي هش. ورغم ذلك، عبّرت الصين عن مخاوفها بشأن القرار وتحفّظها على بعض نقاطه، وأشارت إلى نقائص شابته، محاولة التنبيه إلى خطورة الوضع وهشاشته في غزّة. واعتبر مندوبها أن القرار يحدّد ترتيبات حوكمة غزّة بعد الحرب، “لكن يبدو أن فلسطين غائبة عنه تماما، وأن السيادة الفلسطينية وملكية الفلسطينيين لا تنعكسان بشكل كامل”، على ما قال مندوب الصين لدى الأمم المتحدة، الذي أضاف “من دواعي القلق بشكل خاص أن مشروع القرار لم يؤكّد صراحة الالتزام الراسخ بحل الدولتين إجماعاً دوليّاً”، وعاب على القرار تغييبه الدور الحيوي للسلطة الوطنية الفلسطينية وللأمم المتحدة في مجال التعافي وإعادة الإعمار وفي إدارة غزّة بعد الحرب. كما عبّرت روسيا عن عدم قدرتها على دعم القرار الأممي، معتمدة على الحجج المقدّمة من الصين، كتغييب حل الدولتين وتجاهل إرادة الفلسطينيين وتحييد موقف السلطة الفلسطينية، وخشيتها من أن تتحول قوة الاستقرار الدولية “إلى طرف في النزاع يتجاوز حدود حفظ السلام”.
وأثار تأييد الجزائر قرار مجلس الأمن جدلا كبيرا بالنظر إلى دفاعها المستميت عن حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره في هيئات الأمم المتحدة، واعتبر المعارضون لهذا الموقف أن الجزائر تتناقض مع تاريخها المجيد في مناهضة كل أشكال الاستعمار، وفي دعم حركات المقاومة الوطنية. والحال أن قرار مجلس الأمن الدي أيّدته يصادر إرادة الشعب الفلسطيني، ويدعو إلى نزع سلاح المقاومة، وتحييد حركة حماس كليا، ما يدعونا إلى التعمّق في مضمون القرار وأبعاده ومدى إنصافه تضحيات الشعب الفلسطيني، ونصرته حق هذا الشعب في تقرير مصيره.
من المشروع التساؤل عن تغييب دور أهل غزّة في إدارة شؤون قطاعهم وفق آليات ديمقراطية تمنحهم الحقّ في التعبير عن إرادتهم
ينشئ القرار مجلساً للسلام بوصفه “هيئة إدارية انتقالية ذات شخصية قانونية دولية تتولّى وضع إطار العمل وتنسيق التمويل لإعادة تنمية غزّة وفقاً للخطّة الشاملة”، ويضع على عاتق السلطة الفلسطينية ومسؤوليتها استكمال “برنامجها الإصلاحي بشكل مرضٍ، على النحو المبيّن في المقترحات المختلفة، بما في ذلك خطّة السلام التي قدمها الرئيس ترامب عام 2020 والمقترح السعودي – الفرنسي، ويكون بمقدورها استعادة زمام السيطرة على غزّة بشكل آمن وفعّال”، إذا التزمت بالبرنامج الإصلاحي وتقيّدت بتنفيذه، وهذا الأمر المنوط بعهدة السلطة الفلسطينية لا يخلو من غرابة، فكيف لسلطةٍ فلسطينيةٍ مكبّلة ومسلوبة النفوذ والسلطة ومحاصرة من كل جانب من الكيان المحتل أن تشرع في برنامج إصلاحي وهي منزوعة الإرادة. وإذا سلّمنا جدلاً أنها ستحاول المضي في الإصلاح، لكنها فشلت، ولم تلتزم بالبرنامج المسطّر لها و”بشكل مرض”، فذلك سيفضي، حسب مقتضيات القرار، إلى بقاء الأمر على ما هو عليه، واستمرار قوة السلام الدولية في إدارة قطاع غزّة من دون إخضاعها لأي قيد زمني. ويدعم هذا الطرح تنصيص القرار على أن الإذن الصادر لكل من مجلس السلام وأشكال الوجود المدني والأمني الدولي يظل سارياً حتى 31 ديسمبر/ كانون الأول 2027، ورهين اتخاذ مجلس الأمن إجراءاتٍ أخرى، وأن يكون أي تجديد للإذن الصادر للقوة الدولية بالتعاون والتنسيق الكاملين مع مصر وإسرائيل والدول الأعضاء الأخرى التي تواصل العمل مع القوة الدولية، فالقرار، وإن حدّد سقفاً زمنياً، فإنه طرح إمكانية تجديد الولاية، وجعل الأمر مرهوناً بإرادة دولة الاحتلال ومصر، ومتوقفا على اتخاذ مجلس الأمن إجراءات أخرى.
ومن المشروع التساؤل عن تغييب دور أهل غزّة في إدارة شون قطاعهم وفق آليات ديمقراطية تمنحهم الحقّ في التعبير عن إرادتهم، والأغرب من هذا كله أن إدارة السلطة الفلسطينية المرتقبة لقطاع غزة لا تتم بصورة آلية، حتى وإن نجحت في برنامجها الإصلاحي، فقد اعتمد منطوق القرار صيغة الاحتمال لا الجزم، حين صرّح بأنه في حال نجاح السلطة “قد تتوافر الظروف أخيرا لتهيئة مسار موثوق يتيح للفلسطينيين تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية”. وهي صيغة مستهجنة في قرار أممي، ومثيرة للدهشة والاستنكار حين تصدُر عن أعلى هيئة أممية بيدها مفتاح السلم والأمن العالميين، وتحظى بسلطات واسعة، ولها القرار والحسم في أمهات القضايا الدولية، فالجلي أن هذه الجملة الفضفاضة إنما صيغت على مقاس دولة الاحتلال حتى تمكنها من مجال رحب من المراوغة والالتفاف على مضمون القرار لمصادرة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة.
وينصّ القرار أيضا على الإذن بإنشاء قوة دولية مؤقتة لتحقيق الاستقرار في غزّة تُنشر تحت قيادة موحدة يقبلها مجلس السلام، وتتألف من قوات تساهم بها الدول المشاركة، بالتشاور والتعاون الوثيقين مع مصر وإسرائيل، وباستخدام جميع التدابير اللازمة لتنفيذ ولاية هذه القوة الدولية “بما يتفق مع القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني”. ستعمل القوة الدولية، بموجب القرار، على مساعدة مجلس السلام في مراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار في غزّة، وإبرام الترتيبات التي قد تكون ضرورية لتحقيق أهداف الخطة الشاملة. ومن مهام هذه القوة، وفق خطة ترامب، الإشراف على التفكيك الدائم للأسلحة التي في حوزة “حماس” والجماعات المسلحة الأخرى في القطاع.
القوة الدولية ومجلس السلام سيمارسان مهامّهما بالتنسيق التام والتشاور والتعاون مع الكيان الإسرائيلي
وتطلّ القوة الدولية حسب مقتضيات القرار تحت إدارة دولة الاحتلال ومصر، ما يعني، في نهاية الأمر، ونتيجة ما خبرناه عامين كاملين من إدارة الحرب على غزة والتحكم في المعابر والمساعدات، أن الكلمة الفصل تكون لدولة الاحتلال، فالقوة الدولية ومجلس السلام سيمارسان مهامهما بالتنسيق التام والتشاور والتعاون مع الكيان الإسرائيلي. كما ستكلف الولايات المتحدة الشريك الاستراتيجي لهذا الكيان بالعمل على إقامة حوار بين إسرائيل والفلسطينيين، للاتفاق على آفاق العمل السياسي، بغية التعايش في سلام وازدهار، فهل يمكن لدولة منحازة انحيازاً غير مشروط لقوة محتلة أن تبني أسس حوار جاد وسلام متوازن وعادل بين “إسرائيل والفلسطينيين”، ناهيك عن أن القرار نفسه يتعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم كياناً هُلامياً لا وجود له فاعلاً مستقلاً، بل وجوده مرتهن دائما بالوصاية التي تمارس عليه من قوى دولية أو من دولة الاحتلال التي تخضعه لجبروتها.
ومن نقاط أخرى موضع تشكيك وجدل، انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق التي تحتلها في قطاع غزّة ومدى التزامها بما ورد في القرار، ولا سيما في غياب قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة. ولئن جاء في خطّة ترامب أن القوات الإسرائيلية ستنسحب بالكامل بمجرّد أن تفرض القوة الدولية سيطرتها الأمنية والعملياتية على كامل المنطقة، فان الالتزام بهذا الانسحاب يخضع لإرادة المحتل وللآليات والسلطات التي ستمنح للقوة الدولية ومجلس السلام الذي يرأسه ترامب لتنفيذ هذا القرار.
خلاصة القول إن قرار مجلس الأمن مفخّخ من كل الجوانب، محشوٌّ بالذرائع والسلطات الموسّعة التي تخوّل لدولة الاحتلال التملص من التزاماتها. كما تم بمقتضاه تغييب إرادة الشعب الفلسطيني تغييبا شبه كلي، أضف أن التفويض الممنوح لمجلس السلام والقوة الدولية التابعة له فضفاض وغير محدّد، ما يسمح بمجال واسع للتأويل والمراوغة والتلاعب من الكيان المحتل وشركائه. وما الانتهاكات الحالية لاتفاق وقف إطلاق النار من الكيان المحتل، وتواصل المأساة الإنسانية للشعب الفلسطيني إلا دليل على وجاهة الشكوك التي تحوم حول القرار الأممي وغيره من اتفاقات وتفاهمات دولية. ولعل أبرز المسائل التي ستظل غامضةً ومعلقةً مصير المقاومة المسلحة في قطاع غزّة، ومدى استعدادها للانصياع لهذا القرار المذلّ لها ولتضحيات شعبها. فهي في وضع على غاية الدقة والخطورة في تاريخها المقاوم، فإن استسلمت وخضعت للقرار، فإنها تنهي وجودها ولو مؤقّتاً وحينياً، حركة مقاومة وطنية، وإن تصدّت للقرار ورفضته (وهذا ما صرّحت به)، فإنها ستكون محمولةً على الدخول في مواجهة مسلحة وغير محسوبة العواقب مع القوى الدولية، وتحمل تبعات ما سيترتّب على ذلك من تنكيل بالشعب الفلسطيني المرابط في القطاع، وسيكون الخيار في الحالتين مرّاً وصعباً ومصيرياً.
المصدر: العربي الجديد






